خطيب بدلة
في حياتنا أشياء غريبة، وأخرى بالغة الغرابة، منها ذلك السؤال الذي يوجه لمن يطرح فكرة شديدة الوضوح، وهو: ما العبرة من هذا الكلام؟
من كثرة ما مر معي هذا السؤال، خطر لي أن أسمي هؤلاء الناس “العبريين”، ثم وجدت التسمية غير مناسبة، فهي تدل على اليهود، فعدلتها إلى الاعتباريين، أو العبرويين. وقد صادفت عبرويين كثيرين، مؤخرًا، مع انتشار فيديو لفتى من ريف معرة النعمان، نازح إلى ريف معرة مصرين، يبيع البسكويت ليعول أسرته التي بلغ عدد أفرادها عشرة، هم: أبوه وأمه، وأشقاؤه الخمسة، وشقيقتاه، وهو.
ما إن بدأ الفيديو بالانتشار حتى هب العبرويون، على اختلاف أنواعهم، للإشادة بالفتى، فهو، برأي بعضهم، شجاع، لديه إحساس عالٍ بالمسؤولية، جعله يقتنع بدولار ونصف ربح يوميًا، يسلمه لأبيه بيده لكيلا تجوع أسرته، وبرأي آخر، أن الدين الكريم الذي يعتنقه ذلك الفتى، يحض على العمل، وكسب الرزق، فلو كان على دين آخر لما فعل هذا، ورأى عبروي ثالث أن الإنسان المحظوظ هو الذي يرزقه الله بالذكور، فهل يعقل أن يرسل ربُّ الأسرة ابنتَه القريبة من سن البلوغ، لتحتك بالرجال في الأسواق والحارات وأماكن التجمع المختلفة؟
العبرة الحقيقية مما يقوله هؤلاء العبرويون هي أن بإمكاننا نحن، أبناء هذه البلاد، أن نتقدم، ولكن إلى الخلف! فالفتى الذي ظهر في الفيديو، حقيقة، شعلة من الذكاء، ومكانه الطبيعي أن يكون في مدرسة للمتفوقين، وبعد حصوله على الثانوية يرسل للدراسة في أحسن جامعات العالم، وأما الذين يقولون إن الطيران السوري المجرم والطيران الروسي المجرم دمرا مدارس الشمال، فأقول لهم نعم، حصل، ولكننا لا ننسى أن مليارات الدولارات قُدمت لمن يدّعون تمثيل الثورة، لم تُنفق على إعادة تأهيل المدارس المهدمة، أو بناء مدارس جديدة، بل أنفقوها على شراء الأسلحة والذخائر، ليس من أجل محاربة النظام المجرم، حاشاهم، ولكن للاقتتال فيما بينهم، وإطلاق النار في الأعراس، وحفلات ختان الأولاد.
في الفيديو نفسه عبرة كبرى، مر عليها العبرويون مرور الكرام، وهي أن والد الطفل موجود، ولكنه، كما قال الطفل نفسه “ما بيطلع بيده شغلة”، ومؤكد أن هذا الأب، مع احترامنا له، خلّف الأولاد الثمانية كلهم وهو لا يطلع بيده شغلة! وإذا نحينا مشكلة النزوح جانبًا، يعني على فرض أن الأمور طبيعية، لماذا تخلّف الأسرة السورية كل هذا العدد من الأولاد؟ لو كان دخل الأسرة، قبل النزوح، عشرة دولارات في اليوم، لأصاب الواحد منهم دولارًا واحدًا، ولكن لو كانوا أربعة، لكان نصيب الواحد منهم دولارين ونصفًا.
انتشر، في موسم الحج الماضي، فيديو لرجل سعودي ثري، يحب الشعب السوري، بدليل أنه استقدم عددًا من الحجاج الفقراء على حسابه، وأرسل مئات الأضحيات في العيد إلى أهل الشمال. كتبتُ ملاحظة صغيرة، قلت فيها يا ليته قدم هذه الأموال لدعم التعليم في تلك المنطقة. العبرويون، يومئذ، مسحوا بي الأرض: ما العبرة ولاك؟ أنت ضد الحج؟ ضد العيد؟ يا كافر، يا ملحد، يا منافق للغرب. تفو عليك.