عنب بلدي – لجين مراد
من وراء الحواجز التي وضعها النظام السوري ليخفي ما يحدث في صفوفه، لتبدو المعتقلات والمباني التابعة له أنها “ثقب أسود”، خرجت عشرات الشهادات والأدلة من أشخاص عملوا سابقًا في أماكنه السرية، ليكشفوا تفاصيل ما يحدث هناك.
وخلال السنوات الماضية، اعتمدت العديد من التقارير الحقوقية على شهادات أشخاص تطلق عليهم المنظمات الحقوقية اسم “الشهود المطلعين”، باعتبارهم كانوا قادرين على الوصول إلى معلومات لا يطالها غيرهم.
وشكّلت الشهادات والأدلة المقدمة من قبل هؤلاء الأشخاص فارقًا في العديد من القضايا والتقارير، أبرزها صور “قيصر” ومقاطع مجزرة “التضامن”، بالإضافة إلى تقرير “رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا” الصادر مؤخرًا حول الهيكلية الإدارية للسجن، و”حفار القبور“.
لكن عدد هذه الشهادات تراجع خلال الأشهر الماضية، إثر مخاوف أثارتها المحاكمات التي جرت مؤخرًا في دول الاتحاد الأوروبي لضباط منشقين.
تناقش عنب بلدي في هذا التقرير مع حقوقيين، أهمية هذه الشهادات، والآلية السليمة للتعامل مع “الشهود المطلعين”، إلى جانب أسباب تراجعهم عن تقديم شهاداتهم ومستقبلهم القانوني.
“كنوز معلومات”
وثّقت صور “قيصر” حقيقة ما يحدث في المعتقلات السورية، وكانت كفيلة بفرض عقوبات على النظام السوري، كما كشفت شهادات ضباط منشقين في تقرير “رابطة معتقلي صيدنايا” عن أسرار سجن “صيدنايا” سيئ السمعة، وساعدت شهادة “حفار القبور” في تحديد موقع إحدى أبرز المقابر الجماعية التابعة للنظام السوري.
ورغم وجود مئات الشهادات المقدمة من قبل ضحايا النظام السوري، حملت شهادات “الشهود المطلعين” والأدلة المقدمة من قبلهم قيمة حقوقية مختلفة، ووصلت إلى معلومات تُكشف لأول مرة.
يعود اسم “قيصر” إلى الضابط السوري المنشق عن النظام السوري، الذي سرّب 55 ألف صورة لـ11 ألف معتقل عام 2014، قُتلوا تحت التعذيب، أكد مكتب التحقيق الفيدرالي (FBI) صحتها، وأثارت الرأي العام العالمي حينه، كما أسفرت عن فرض الولايات المتحدة قانون “قيصر” الذي دخل حيز التنفيذ في 17 من حزيران 2020. |
المنسق في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، منير الفقير، قال لعنب بلدي، إن “الشهود المطلعين” كانوا على احتكاك مباشر مع النظام، ما منحهم حق الوصول إلى تفاصيل دقيقة مرتبطة ببنيته.
ويتطلّب بناء تقارير صلبة حقيقية وقانونية أو ملفات توثيقية وجود “شهود مطلعين”، وفق ما قاله المحامي ومستشار القانون وحقوق الإنسان أويس الدبش، لعنب بلدي، معتبرًا هؤلاء الأشخاص “كنز معلومات”.
وأضاف الدبش أن الضحية أو الناجي تعرض لانتهاك لكنه غير قادر على معرفة مرتكب الانتهاك بحقه، مشيرًا إلى أن أهمية شهادات الضحايا مرتبطة بمعرفة الحدث وليس ما وراء الحدث.
وتستند المحاكمات التي تجري في دول الاتحاد الأوروبي إلى تحقيقات هيكلية تجريها وحدات جرائم الحرب أو النيابات العامة، وهي تحقيقات تعتمد بالدرجة الأولى على “الشهود المطلعين”، بحسب ما قاله الدبش.
وتكشف شهادات هؤلاء الأشخاص عن التراتبية الإدارية والعسكرية في صفوف النظام، وتسهم ببناء مسؤولية القيادة، وفق ما قاله المحامي الدبش، لافتًا إلى أن القضاء يعتمد على المسؤولية الفردية أو مسؤولية القيادة بشكل أساسي.
من جهته، قال يحيى، وهو أحد الضباط المنشقين والمعتقلين السابقين في سجن “صيدنايا”، تحفظ على ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية، إن المعلومات التي استطاع جمعها خلال سنوات اعتقاله الأربع، لا يستطيع شخص مدني الحصول عليها.
وأوضح يحيى، المنحدر من مدينة خان شيخون، والمنشق منذ عام 2011، لعنب بلدي، أنه طبّق ما تعلمه في الكلية العسكرية لجمع معلومات دقيقة تكشف ما يحدث وراء جدران “صيدنايا”، وكيف يُدار هذا السجن.
محاذير قانونية
رغم أهمية الحصول على شهادات “الشهود المطلعين”، يفرض التعامل معهم العديد من المحاذير القانونية، لضمان الوصول إلى محاكمات عادلة.
المحامي ومستشار القانون وحقوق الإنسان أويس الدبش قال، إن الحصول على معلومات من قبل “الشهود المطلعين”، يتطلب تقديم شرح صادق وكافٍ عن الجهات القضائية التي ستطلع على المعلومات، والآثار المترتبة على ذلك، إذ تعتبر موافقة الشهود من أساسيات المحكمة العادلة.
ولا يحق للجهات الحقوقية التي تلقت المعلومات من “الشهود المطلعين” تقديم أي استشارة قانونية لهم في حال استجوابهم أو توقيفهم من قبل القضاء، وفق ما قاله الدبش، موضحًا أن ذلك يعتبر انحيازًا من قبل الجهة الحقوقية لصف الشاهد.
بدوره، قال الحقوقي منير الفقير، إن أساس التعامل مع “الشهود المطلعين” بناء الثقة، ومن أساسيات بناء الثقة عدم إعطاء وعود كاذبة، أو خلق أوهام، والتأكيد على أن الجهة الحقوقية لا تستطيع إعطاء حصانة للشاهد.
ويفترض أن تُطلع الجهة الحقوقية “الشهود المطلعين” على محاذير وفوائد تقديم شهادتهم، بحسب ما قاله منير الفقير، مضيفًا أن من الضروري التركيز على أهمية مشاركتهم بتحقيق العدالة، ومسؤوليتهم الإنسانية تجاه ذلك.
ويرى الحقوقي أنه لا يمكن التفريط بالعدالة مقابل الحصول على المعلومات، موضحًا أن منح الحصانة لشاهد ضالع بارتكاب مئات الانتهاكات مقابل تقديمه لمعلومات يعتبر انتهاكًا جديدًا.
مخاوف من المساءلة
شكّلت المحاكمات التي جرت بحق ضباط منشقين، وعلى رأسها محاكمة أنور رسلان، مخاوف لدى العديد من “الشهود المطلعين” الراغبين بتقديم شهاداتهم للمراكز الحقوقية، وردعت آخرين عن الانشقاق عن النظام السوري، بحسب معلومات حصلت عليها عنب بلدي من “رابطة معتقلي صيدنايا” و”المركز السوري للعدالة والمساءلة”.
وقال يحيى، أحد الضباط المنشقين والمقيم حاليًا في بلدة الريحانية التركية الحدودية مع سوريا، إن العديد من زملائه السابقين الذين لجؤوا إلى أوروبا لديهم مخاوف كبيرة من التواصل معه، أو الخوض بأي أحاديث مرتبطة بعملهم السابق.
وترتبط مخاوفهم بأن يكونوا عرضة للمساءلة والمحاكمة، كما حدث مع إياد الغريب وأنور رسلان وغيرهما، وفق قوله.
ياسين الماجد، ضابط آخر حاول الانشقاق عن النظام السوري عام 2011 ما أسفر عن اعتقاله، قال إن النظام صار يستخدم مؤخرًا قضية إياد الغريب لردع الأشخاص الراغبين بالانشقاق.
من جهته، قال الحقوقي منير الفقير، إن عملية المحاسبة المجتزأة جعلت العديد من “الشهود المطلعين” يشعرون بالمظلومية.
وأوضح الحقوقي أن المحاكمات رغم أهميتها، نقلت صورة سلبية عن مصير المنشقين عن النظام السوري، إذ وضعتهم أمام المحاسبة، بينما يواصل المئات ارتكاب الانتهاكات بحق المدنيين.
المحامي ومستشار القانون وحقوق الإنسان أويس الدبش قال، إن العديد من “الشهود المطلعين” الذين كانوا مهتمين بتقديم شهاداتهم، تراجعوا بعد محاكمة إياد الغريب، باعتبارها تعاملت مع شخص منشق مثلهم، بادر لتقديم شهادته فتعرّض للمساءلة والمحاكمة لاحقًا.
وعلى سبيل المثال، دفعت هذه المحاكمات أحد “الشهود المطلعين” لمغادرة ألمانيا خوفًا من المحاكمة، متجاهلًا رحلة اللجوء الخطرة التي عاشها للوصول إلى هناك، وفق ما قاله البوشي.
ويرى الدبش أن العمل الحقوقي شكّل ضررًا في بعض الحالات أكبر من فوائده، معتبرًا أن الأخطاء المرتكبة من قبل بعض الأشخاص في “كوبلنز”، تتنافى مع العدالة الحقيقية والقيم الإنسانية التي يجب أن تسعى إليها المراكز الحقوقية.
ولاقت محاكمة أنور رسلان العديد من الانتقادات من قبل جهات حقوقية، جرّاء تقديم “شهادات متضاربة” وتضخيم توقعات الجمهور، وتصوير المحاكمة على أنها قادرة على خلق حالة رعب بين الضباط السوريين.
كما أسفرت محاكمة الضابط المنشق إياد الغريب عن انقسامات بين السوريين، إذ رأى البعض أن الحكم الصادر بحقه، وهو السجن لأربع سنوات ونصف، “مجحف” نتيجة انشقاقه عن النظام منذ بداية الثورة السورية، بينما رأى آخرون أن الغريب ضالع بارتكاب الانتهاكات ويستحق السجن.
ما مصيرهم؟
في حين يتخوف العديد من “الشهود المطلعين” الحاصلين على حق اللجوء في أوروبا من استمرار المحاكمات والتحقيقات بحق مرتكبي الانتهاكات في سوريا، تُطرح العديد من التساؤلات حول مصيرهم حال وصول سوريا إلى مرحلة العدالة الانتقالية.
المحامي ومستشار القانون وحقوق الإنسان أويس الدبش قال إن المحاسبة الجنائية لا تحتمل هذا العدد الهائل من المجرمين أو الضالعين بارتكاب الانتهاكات.
وأضاف الدبش أن “العمل الحقوقي لا يجبّ ما قبله”، موضحًا أن الأشخاص الذين قدموا شهاداتهم لن يكونوا معفيين من المساءلة، لكن عملية المساءلة والمحاسبة ستكون على مستويات.
وأوضح المحامي أن المحاسبة يُفترض أن تبدأ مع الأشخاص الأكثر إجرامًا، بينما يجب وضع آلية متفق عليها مجتمعيًا حول تطبيق إحدى آليات العدالة الانتقالية مع الأشخاص الذين لن تستطيع المحاكم الجنائية محاسبتهم.
ومن الممكن أن يكون الاستبعاد مصير معظمهم، ضمن إطار استبعاد الفاسدين، حسب البوشي.
ويرى المنسق في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، منير الفقير، أن الأشخاص الذين بادروا بتقديم شهاداتهم وأسهموا بتحقيق العدالة، يمكن أن يحصلوا على أحكام مخففة في القضايا المتعلقة بالحق العام.
بينما ترتبط قضايا الحق الخاص برغبة الضحايا أو ذويهم ورؤية القضاة، وفق ما ذكره منير الفقير.
وفي حين انتهت محاكمة “كوبلنز“، في 13 من كانون الثاني الماضي، بالحكم على أنور رسلان بالسجن المؤبد، تستمر محاكمة الطبيب السوري علاء موسى في فرانكفورت غربي ألمانيا، و محاكمة “موفق د.” (لم يُكشف عن اسمه الكامل لأسباب تتعلق بالخصوصية في المحاكم الألمانية)، التي بدأت مؤخرًا.