إبراهيم العلوش
تعاني فرنسا هذه الأيام أزمة وقود حادة احتلت عناوين الأخبار في الصحف والقنوات التلفزيونية، ووصلت طوابير الانتظار أمام المحطات إلى مئات الأمتار، وعلى عكس ما يعتقده كثير من المؤثرين العرب، فإن هذه الأزمة ليست من صنع بوتين!
حاول الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، التدخل من أجل حل الأزمة ولكنه لم يستطع، فعمال شركات النفط والوقود، مثل “توتال” و”اكسون مبايل ايسو” وغيرهما، يدركون أن هذه الشركات تضاعفت أرباحها خلال أزمة النفط العالمية التي تسببت بها حرب بوتين، وجنت أرباحًا طائلة وصلت إلى أكثر من ستة مليارات خلال النصف الأول من العام الحالي، وفي المقابل، ترفض هذه الشركات زيادة رواتب عمالها الذين أعلنوا الإضراب في المصافي البترولية وفي محطات توزيع الوقود بشكل هزّ فرنسا، وأشعل شبكات التواصل التي تعج بالحقد على الغرب، وتناصر بوتين وحربه الدموية على سوريا التي ابتدأت من قبل، وعلى أوكرانيا اليوم مهما كان الثمن!
يطرب كثير من المتابعين العرب لأي أزمة تحدث في العالم الغربي، ويقومون بدور المبشر بخراب هذا البلد أو ذاك، وكأنهم يقومون بهزّ العالم وهم متكئون على أرائكهم أمام أجهزة التلفزيون أو شاشات الشبكات الاجتماعية!
هذا الوهم بالفعالية القائم على تمني الشر للعالم الغربي بحجة أنه كان استعماريًا أو بحجة نصر روسيا التي كانت اشتراكية سوفييتية، يعزز كثيرًا من الفواجع التي تلم بالعالم العربي وخاصة في سوريا، فبوتين الذي أسهم بتدمير سوريا خلال السنوات السبع الماضية، يجد له بعض الأنصار في صفوف القوميين العرب وفي صفوف الاشتراكيين، سواء في جهة النظام أو في جهة المعارضة، ويعتبر بعض الاشتراكيين أن تدمير سوريا ما هو إلا تفصيل صغير في خريطة القضاء على الهيمنة الغربية، ولا تهمهم معاناة السوريين بقدر ما يهمهم اقتراب النصر على أمريكا وأوروبا بأسرع ما يمكن!
وإذا كانت أزمة الوقود الحادة التي تهزّ فرنسا اليوم لا علاقة لبوتين ولا لعضلاته السوفييتية العتيقة بها، فإن تأثير انقطاع النفط الروسي سيكون أثره واضحًا على الناس في أزمة الوقود بالشتاء المقبل هنا في فرنسا وفي أوروبا، وخاصة علينا نحن اللاجئين مع أبناء الطبقات الفقيرة، بسبب الارتفاع المتوقع لفواتير الكهرباء والغاز القادمة، وطبعًا هذه المعاناة لا تهم إخوتنا المناضلين الحالمين بانهيار الغرب، والشفقة على الناس خارج الخريطة السياسية لبعض الإسلاميين والقوميين والاشتراكيين الذين اتحدوا على مواقع التواصل الاجتماعي للتبشير بالقضاء على الغرب وأمريكا، متجاهلين أن هذا الغرب وليس بوتين هو من اخترع لهم شبكات التواصل الاجتماعية، واخترع الأجهزة الإلكترونية التي يستعملونها في كل نقاشاتهم الشمولية التي لا تقبل المهادنة، ولا تتوقف قبل أن يتحول الغرب إلى خرابة مثل البلدان التي يعيشون فيها.
وقد يفطن بعض مناصري بوتين والصين وكوريا الشمالية إلى هذه المعاناة، ويردون بالطلب من الناس المتضررين في الغرب النزول إلى الشوارع واستبدال حكوماتهم المتغطرسة، وكأنهم يطلقون مطالباتهم من سويسرا وهم يدعون إلى الأساليب الديمقراطية الراقية للتخلص من الظلم في نفس الوقت الذي يناصرون فيه أعتى الأنظمة الدكتاتورية في العالم!
ولكن ما يحدث على أرض الواقع عكس ما يتمنون، فحرب بوتين شكّلت ردود فعل مختلفة في أوروبا، وجعلت التيارات اليمينية المتطرفة تصعد إلى الحكم كما في إيطاليا والسويد، أو تقترب منه كما في فرنسا وألمانيا، وهذه التيارات أول ما تطالب به هو اقتلاع اللاجئين وإعادتهم إلى بلدانهم حتى ولو صاروا مجرد وقود للحروب القائمة فيها.
هذا ألزهايمر الذي يلف عقول أصحاب نظرية المؤامرة (ضد الإسلام، ضد القومية العربية، ضد الاشتراكية، ضد الكرد، ضد الطائفة الفلانية…) ودعاة تدمير الآخر الإمبريالي أو الكافر حتى ولو كان البديل أكثر قسوة وأكثر وحشية مثل بوتين، أو “داعش”، أو براميل بشار الأسد، صار بكل أسف أمرًا شائعًا في أوساط كثير من الفاعلين الاجتماعيين والفكريين، وهو يجرنا إلى مصير مجهول يستبدل ظالمًا بمن هو أظلم منه، ويبقينا على هامش التأثير في حل مشكلاتنا، وربما على هامش الوجود!
الغرب لا شك له تاريخ قديم في الاستعمار وفي استغلال الشعوب، وهو يحاول أن يتخلص من ذلك التاريخ بعقد صفقات ترضية، ولو كانت شكلية مع الشعوب والدول التي استعمرها، ولكن على عكس دولنا، فإن هذا الغرب يتعامل بصراحة مع أزماته، ويمتلك الخبرات الواسعة لمناقشة حلولها، ولا يخبئ شيئًا تحت الطاولة من أجل السيد الرئيس، أو السيد الشيخ، أو السيد المؤامراتي متبدل الهوية والانتماء، والغرب في كل الأحوال قادر على حل أزماته أو التقليل من أضرارها، وهو قادر على تلقين من تسبب بها الدرس اللازم لمنعه من تكرارها، وما تناله روسيا البوتينية من عقوبات سيخرجها من صفوف العالم الأول إلى صفوف دولنا المخربة بالدكتاتورية وبالفساد المتعدد الأوجه!
والمثال الواضح على ذلك هو تعامل الدولة الفرنسية مع موضوع أزمة الوقود بكل وضوح، اذ أرسلت الشرطة إلى المحطات لتشرف على الطوابير، وتقيس كميات الوقود في كل سيارة تنتظر، من أجل ألا يستغل البعض الأزمة، وهددت الدولة شركات النفط بالتدخل في السوق وبيع الوقود من الاحتياطي الاستراتيجي الذي تمتلكه والخاص بالأزمات، وطالبت الشركات والنقابات العمالية بسرعة التوصل إلى حلول، والاتفاق على الأجور التي ترضي الطرفين بأقرب وقت!
السؤال هو متى نتعامل نحن مع أزماتنا العامة والاجتماعية بصراحة، ونستطيع أن نشخّص أسبابها ونقترح الحلول لها، بدلًا من الاكتفاء بإلقاء اللوم على الآخرين (مهما كان تورط هؤلاء الآخرين بمشكلاتنا)، ونكون فاعلين في حل مشكلاتنا بدلًا من هذا التلهي المؤامراتي الذي يخون الواقع، ويكرّس عقولًا مهمة في مجتمعنا للتفرغ لأوهام النظريات الافتراضية والأحلام التي تجلب المزيد من الشر إلى الآخرين دون أن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام؟