على مدار عقود من حكم الأسدين، الأب والابن، في سوريا، مُنحت بعض الشخصيات امتيازات وعلاوات كبيرة لدورها في ترسيخ الحكم، وفرض الهيمنة.
الامتيازات التي جاءت على شكل مناصب هنا وتسهيلات ومشاريع وتحكّم بقطاعات اقتصادية ربما في مكان آخر، لم تتوقف عند هذا الحد، فالموت أيضًا مشمول ومرهون بمدى الرضا أو عدمه عن “المرحوم”، والتعامل مع وفاة الشخص يتأثر بالضرورة بمدى ولائه وإخلاصه للنظام الحاكم، بمنطق الأنظمة الشمولية عمومًا.
الأسد.. يحضر أو يتجاهل
وخلال الأيام القليلة الماضية، تداول ناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي صورًا لرئيس النظام السوري، بشار الأسد، برفقة زوجته أسماء الأسد، يقدمان خلالها العزاء في منزل العماد المتقاعد إبراهيم الصافي، الذي توفي في 19 من أيلول الماضي.
هذه التعزية التي حملت طابعًا عائليًا سبقتها أيضًا زيارة أخرى أجراها الأسد للصافي حين كان على فراش المرض في حزيران الماضي.
بين جنازتين
خرجت جنازة الصافي في مسقط رأسه، بقرية عين شقاق التابعة لمنطقة جبلة في ريف اللاذقية، بمراسم عسكرية وموكب رسمي، محمولة على أكتاف ضباط من قوات النظام، يتقدمها عسكريون يحملون ورودًا باسم الأسد، ووزير الدفاع، علي محمود عباس.
ويعتبر الصافي أحد الضباط القدامى المواكبين لحكم حافظ الأسد، وممن وطدوا حكم الأسدين خلال وجوده في السلك العسكري، قبل تقاعده مع بدايات الثورة السورية.
وتولى العماد إبراهيم الصافي في حياته العسكرية العديد من المهام التي رسخت علاقته أكثر بالسلطة، إذ شارك بمجازر النظام في ثمانينيات القرن الماضي بحماة، وفي إحباط محاولة رفعت الأسد الانقلاب على أخيه عام 1984، كما قاد القوات العسكرية السورية في لبنان عام 1994، وصولًا لمنصب نائب وزير الدفاع، قبل أن يختتم مشواره العسكري بالتقاعد.
قبل الصافي بنحو شهر ونصف، شيّع أهالي قرية بيت ياشوط، بمدينة جبلة أيضًا، اللواء المتقاعد علي حيدر، في 6 من آب الماضي، بغياب مسؤولي الصف الأول لدى النظام.
وتناقلت شبكات محلية صورًا وتسجيلات مصوّرة للجنازة التي شارك فيها محافظ اللاذقية، عامر إسماعيل هلال، وقائد شرطة المحافظة، وشخصيات أخرى، بغياب ممثلي النظام من ذوي المناصب أو الرتب العسكرية.
مغضوب عليه؟
ورغم أن حيدر (90 عامًا) كان منخرطًا في المؤسسة العسكرية لسنوات طويلة، وتسلم قيادة “القوات الخاصة” لنحو 26 عامًا، وكان صديق طفولة الأسد الأب، فإن الطريقة التي غادر بها السلك العسكري شكّلت تمهيدًا لتجاهل مقصود سيتخذه النظام عند وفاة الرجل، دون الالتفات إلى ماضيه العسكري وخدماته السابقة للنظام.
وفي عام 1994، أُبعد علي حيدر عن منصبه، وسط روايتين عن سبب ذلك، كانت إحداهما أنه تعرض للسجن (45 يومًا) في 3 من آب 1994، بحسب مصادر قالت لصحيفة “الحياة” حينها، إن اعتقاله جاء بعد انتقاده لحافظ الأسد، لاستدعائه بشار من لندن، وإعداده للحكم عقب وفاة شقيقه باسل.
بينما قالت مصادر أخرى، إن إبعاده عن منصبه كان مرتبطًا بمعارضته “القوية” لمحادثات السلام التي أجراها مبعوثون سوريون وإسرائيليون في واشنطن بذلك الوقت.
يوجد فرق!
الكاتب والباحث السوري حسام جزماتي، أوضح لعنب بلدي فوارق بين شخصيتي علي حيدر وإبراهيم الصافي، من منظور النظام السوري، باعتبار أن حيدر أنهى خدمته بتسريح وعقوبة عسكرية، وكان معارضًا لمواصلة حافظ الأسد الحكم، ثم معارضًا للتوريث، ولتوريث بشار الأسد تحديدًا أكثر من أخيه باسل، باعتبار أن الأخير كان مقنعًا أكثر للضباط القدامى مقارنة ببشار.
ولا ينبع رفض التوريث في حالة حيدر من منطلق ديمقراطي يرتبط بتداول السلطة، باعتبار أن الرجل يؤمن بأحقية الضباط القدامى (وهو منهم) بالحكم، وفق جزماتي.
وخلال انقلاب حافظ الأسد، في 16 من تشرين الثاني 1970، كان علي حيدر قائدًا لـ”القوات الخاصة”، ما يعني أنه كان شريكًا فعليًا في “الحركة التصحيحية”، أما إبراهيم الصافي فكان يشق طريقه العسكري، ولا يضاهي رتبة علي حيدر، ما يعني بعده عن التفكير بمنافسة الأسد على السلطة.
جزماتي أكد أن مسألة التشييع ومستوى التمثيل في الجنازة عملية غير عفوية، وتخضع لقرار رسمي، يجري بموجبه تجاهل أو “تعظيم” الجنازة، كما ألمح الباحث لاختلافات عشائرية بين حيدر والصافي، يسعى النظام فيها لاسترضاء “كفّة” الصافي.
خارج تغطية السياسة
لم يقتصر التعاطي أو التجاهل أو التعاطي الخجول للنظام على الجنازات التي تخرج من المؤسسة العسكرية والقريبة من الحكم أو المساهمة في ترسيخه، فهناك أيضًا جنازات لشخصيات عامة، ثقافية أو فنية، اتخذ النظام فيها مواقف من هذا النوع.
ويوجد فارق جوهري يتجسد في تعاطٍ شعبي أوسع مع الجنازات التي تهملها السلطة، على خلاف جنازات ذوي المناصب، التي يحتفي بها فقط المقربون وأبناء المنطقة ممن خدمهم وساعدهم المسؤول قبل موته، وهو ما جرى تحديدًا في جنازة علي حيدر مثلًا.
وفي 29 من كانون الأول 2020، توفي المخرج السوري حاتم علي، في العاصمة المصرية، القاهرة، مغيرًا بخبر وفاته أعراف التفاعل السريع مع الأحداث عبر وسائل التواصل الاجتماعي (التريند).
وبعد نعيه من كثير من فنانين وقريبين من الوسط الفني عربيًا، نشرت “نقابة الفنانين السوريين” خبر وفاة مقتضبًا ومرتبكًا وحياديًا قالت فيه، “رحيل المخرج السوري حاتم علي. إنا لله وإنا إليه راجعون”.
حاتم ونزار
خلال تشييع حاتم علي في دمشق، تجاهل النظام الجنازة، كما غاب عنها ممثلو الهيئات المرتبطة بالعمل الفني، كنقيب الفنانين حينها، أو وزير الثقافة، بينما خرج الكثير من الفنانين والمواطنين، لتقترب جنازة حاتم علي وفق تشبيه الناس، من جنازة الشاعر السوري نزار قباني، عام 1998، التي عرضها حاتم علي في إحدى حلقات مسلسل “الفصول الأربعة”.
في مقابل الحضور الشعبي والثقافي والفني واسع الطيف، يوجد تجاهل مقصود من السلطة في الجنازتين لاعتبارات ثقافية وسياسية واجتماعية، كون حاتم علي لم يخرج عبر الشاشة السورية الرسمية لإبداء موقف سياسي داعم لرئيس النظام السوري، بشار الأسد، بينما تناولت أعماله الدرامية في بعض جوانبها نقدًا متفاوت الحدة لواقع الأوضاع في سوريا، تحت حكم النظام، وأبرز تلك الأعمال مسلسل “قلم حمرة“، من تأليف يم مشهدي.
تجاهل الإعلام الرسمي خبر وفاة نزار قباني بينما كان العالم العربي يتناقل الخبر، تمامًا كما تجاهل الإعلام ذاته رحيل حاتم علي، في الوقت الذي أعادت به كبرى الشاشات العربية ترتيب أولوياتها، لعرض أعماله كنوع خاص من تكريمه بعد رحيله.
كنت حاضرًا في جنازة نزار قباني، كانت رد فعل شعبيًا قال خلالها عامة الناس من مهنيين وموظفين وأصحاب دكاكين وغيرهم، وبشكل واضح، إن نقمة النظام والسلطة على شخص لا تعني أن ينبذه الشارع
الباحث الاجتماعي صفوان موشلي |
معايير مختلفة
من جهة أخرى، احتفى النظام بجنازة الفنان الراحل صباح فخري، في 4 من تشرين الثاني 2021، فأقام صلاة العصر وصلاة الجنازة مفتي النظام السابق، أحمد بدر الدين حسون، في جامع “عبد الله بن عباس” بحي الفرقان في مدينة حلب.
وحضر مراسم التشييع الرسمية عدد من وزراء النظام السوري، ووزير شؤون رئاسة النظام السوري، منصور عزام، ممثلًا عن رئيس النظام، بشار الأسد، إضافة إلى ممثلي النقابات الفنية والمعاهد الموسيقية.
الباحث الاجتماعي صفوان موشلي، أوضح لعنب بلدي طبيعة الفوارق التي تحكم التعاطي مع جنازات الشخصيات ذات الثقل، مشيرًا إلى التعامل مع جنازات العسكريين يتناسب حكمًا مع مستوى الولاء، إلى جانب الرتبة طبعًا.
أما جنازات الفنانين، من شعراء أو مخرجين أو مغنين، فيجري التعامل معها بمقاييس مختلفة، فنزار قباني تحديدًا يمثّل ثقافة وطنية لدى السوريين، بينما حاول النظام تصويره عبر الإعلام بعد وفاته على أنه ممثل لثقافة برجوازية أو “ثقافة سنّية”.
وحول الاحتفاء بجنازة صباح فخري، يرى الباحث الاجتماعي أن العملية غير نابعة من طيب خاطر النظام، بمقدار ما هي استرضاء واستقطاب لحلب وأهلها، الذين يولون قيمة كبيرة لفخري، لكن النظام في الوقت نفسه لم يبدِ اهتمامًا واضحًا بموسيقا فخري بما يتناسب مع حجمه الفني على الأقل.
موشلي بيّن أن المنتج الغنائي لصباح فخري يعتبر من الناحية الاجتماعية ثقافة أكثرية منتجة لهذا النوع الفني، لكن علاقة هذه الأكثرية مع السلطة غير صحية، ما يعني محاولة السلطة تقليل حجم وقيمة وحضور ثقافتها، وحتى إلغاءها، وذلك من خلال من ينقلون هذه الثقافة ويمثلونها.
في المقابل، يغلب على الإعلام الرسمي استضافة مغنين وفنانين مقربين من السلطة، يقدمون رواية تنسجم مع رؤيتها لواقع الأحداث في سوريا.
–