مرونة لا تماهٍ..
ما الذي يجب على المعارضة السورية فعله حيال التحول التركي؟
نادر الخليل
فُسرت تصريحات المسؤولين الأتراك خلال الأسابيع الماضية بأنها تشير لتغير في نهج أنقرة تجاه سوريا، فبعد أيام من إعلان وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أنه التقى بنظيره السوري العام الماضي، رفع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، السقف وصرح بأن إطاحة تركيا بالرئيس السوري، بشار الأسد، ليست على جدول أعمالهم، إذ قال، “ليست لدينا مثل هذه المشكلة سواء كان على الأسد الرحيل أم لا”.
في مقابل هذه التطورات كانت المعارضة التركية تُشجع وتدفع باتجاه اللقاء بـ“الأسد” وبعضها دافعت عنه، واستخدمت العداء تجاه اللاجئين وخاصة السوريين منهم كورقة سياسية رابحة في تركيا.
خلال اتساع نطاق الحرب في سوريا على مرّ السنوات العشر الماضية، اختار الغرب اتخاذ موقف حاسم ضد وجود التنظيم الذي يطلق على نفسه اسم الدولة الإسلامية (داعش)، بدلًا من محاولة الإطاحة بـ”الأسد”، وفي الوقت نفسه ابتعدت تركيا عن الغرب واقتربت من روسيا، وخاصة بعد فشل محاولة الانقلاب في عام 2016.
ثم حَوّلت أنقرة تركيزها الأساسي لإنهاء الوجود الممتد لحزب العمال الكردستاني في سوريا، مشيرة إلى التهديد بوجود ممر إرهابي على طول حدودها، وأدى هذا الوضع إلى تصعيد التوترات مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعم ما يسمى “وحدات حماية الشعب” (YPG) في سوريا، والتي تراها تركيا امتدادًا لحزب العمال الكردستاني “الإرهابي”، ومنذ ذلك الحين ركزت تركيا على أمن حدودها بدلًا من دعم “الثورة”، وخرجت فكرة الإطاحة بـ”الأسد” من المعادلة لديها منذ سنوات.
ومع ذلك، على الرغم من أن تركيا غيرت هدفها الاستراتيجي في سوريا، لم تتوقف عن استخدام الخطاب المناهض للنظام لتحفيز حلفائها المعارضين المحليين، وأشارت إلى أن العلاقة التكافلية بينهما تخدم الثورة السورية.
وعلى ما يبدو، ونتيجة التغيرات والتطورات الإقليمية والعالمية ونتيجة ضغط الوضع الداخلي الاقتصادي والسياسي في تركيا واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتي تعتبرها كل الأطراف مفصلية في تاريخ تركيا المعاصر، فتركيا ماضية في استعادة سياستها السابقة “صفر مشاكل”. ففي الأشهر الماضية حاول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إصلاح العلاقات التركية مع دول المنطقة بعد التوترات التي شهدتها في الأعوام السابقة، حيث أطلق حملة نشطة لاستعادة العلاقات مع: السعودية، والإمارات، ومصر، وإسرائيل، وغيرها من الدول التي كان يهاجمها باستمرار.
وأنا هنا لا أدعي أن هناك استراتيجية جديدة لتركيا، وربما تكون، ولكن على الأقل هي تكتيكات هدفها المعلن تسّكين مشاكل يفترض بها أن تُصحح استراتيجية تركيا، وهو أمر يحتاج لوقت طويل للنضوج والوضوح، ولكن لحظة الانفتاح التركية وهذا التوجه الجديد يقع تحت ضغط عوامل ثلاثة: وكلها مرتبطة بالداخل التركي بشكل أساسي بطريقة أو بأخرى منها:
- أزمة التضخم التي يعيشها الاقتصاد التركي وتراجع قيمة العملة التركية والاستثمار ونمو البطالة، وحيث أن كل استطلاعات الرأي التركية تظهر أن الاقتصاد يحتل الأولوية في اهتمامات المواطن التركي، لذلك فإن أي تدفق للأموال والاستثمار من دول الخليج قد يساعد في تخفيف بعض المشكلات الاقتصادية التركية.
- الانتخابات الرئاسية التركية “المفصلية” المقبلة التي يسعى الحزب الحاكم للفوز بها بأي شكل لمتابعة تنفيذ رؤيته المستقبلية لتركيا، وسط ظهور تكتلات سياسية معارضة لا يستهان بها بهدف الإطاحة بالتحالف الحاكم، مع بروز مخاوف من تراجع شعبيته، وهذا مرتبط بالعامل الأول بجزء مهم منه.
- تطورات الأوضاع الإقليمية وخاصة الحرب الروسية الأوكرانية، ومحاولات الرئيس التركي لعب دور الوسيط الموثوق (الناجحة حتى الآن) وإظهار تركيا كمؤثر في سياسية إقليمية لها تأثيرات دولية وتحقيق مكاسب لصالح تركيا، وهذا مرتبط أيضًا بالعاملين السابقين.
وسط هذه التطورات يُلاحظ المتابع للشأن السوري أن هناك تجاهلًا من جانب المعارضة السورية، متمثلة بالائتلاف، للتصريحات التركية أو التوجهات نحو لقاءات تجمع بين مسؤولين في الحكومة التركية ومسؤولين في نظام الأسد، فيما تتمحور تصريحات مسؤولي المعارضة السورية حول أن تركيا داعمة للشعب السوري ولن تخذل المعارضة وما إلى ذلك، ويسأل البعض ما تفسير الحالة التي تعيشها المعارضة اليوم في ظل هذه السياقات؟
كثيرًا ما يُدفع في الخطاب المناوئ لدور ووجود المعارضة بين قوسين أنها لا تملك من أمرها شيئًا، فغالبًا ما يتم تداول رأيين أساسين حول هذا الامر، الأول أنها لا تملك أي صفة شرعية أو تفويضًا مصدره الشعب السوري “الثائر” وخاصة من المناطق التي خرجت عن سيطرة “النظام” إلا في حدود متدنية جدًا، وخير دليل على ذلك ان كل قياداتها لا تعيش في هذه المناطق أو غير مرحب بها في أغلب هذه المناطق على المستوى الشعبي، ولا يوجد لها أي تأثير فعلي أو عملي على أرض الواقع هناك، سواء عبر ما يسمى الحكومة المؤقتة أو وزاراتها التابعة لها، وإن وجد فهو وجود شكلي فقط او في حدوده الدنيا.
ولكن، حتى نكون أكثر انصافًا وواقعية، المعارضة لم تتجاهل الأمر، بل كانت وماتزال في حالة قلق دائم ما بين الضغط المحلي الوطني وبين عامل الحفاظ على الحليف الوحيد، وهو ليس حليفًا سياسيًا فقط، بل هو بطريقة وأخرى مسؤول أو مشرف على ما يقرب من أربعة ملايين سوري أو يزيد في تركيا وعما يقارب ثلاثة مليون ونصف في شمالي سوريا، لذلك تأتي البيانات التي تصدرها بصيغة أضعف بكثير مما يصدر عن الشارع، والأمر ليس بهذه البساطة التي قد يتخيلها البعض. وفيما يخص الوجود في الداخل، يسجل وجود لمقر كبير للائتلاف في الداخل، كما يسجل وجود بعض الوزراء يعيشون في الداخل، ويتم القيام بزيارات دورية لهيئات الائتلاف. وفي الحقيقة، نعم هو وجود ليس كما ينبغي له أن يكون، وتأخرت هذه الإجراءات كثيرًا، والأهم من ذلك تبرز الحاجة لوجود حقيقي أكثر وتفاعل وتنشيط للفعاليات والنشاطات، وتفاعل أكبر مع هياكل الحكم المحلي هناك، ومع ما يتم من فعاليات أو انتخابات في المنطقة ككل.
والرأي الثاني، يقول إن ما تعيشه المعارضة لا يخرج عن الهدف الذي تم صنعها وإيجادها من أجله وهو لزوم جسم معارض ليشارك في محادثات ومفاوضات فارغة من أي عمل ثوري فاعل أو مؤثر، وهي في حقيقة الأمر تتماهى مع الجهة التي أوجدتها وتدعمها ماليًا، وهي بذلك فقدت أهم شرط من شروط استقلال القرار.
ولكن، عمليًا وللإنصاف أيضًا، المعارضة والمعارضون موجودون من قبل تشكيل الائتلاف والمجلس الوطني، وتوجد تنظيمات وتفاعل سياسي معارض قبلها، وما تم لاحقًا هو إيجاد هياكل التفاعل السياسي الجديدة كالمجلس الوطني والائتلاف، وخاصة بعدما انتقل الملف السوري في المنظور الدولي من فكرة ثورة ضد نظام حاكم إلى رؤيتها كأزمة سياسية بين نظام ومعارضة وهذا ما حدث بعد بيان جنيف، وعليه انتقل الملف السوري من ثورة ضد نظام إلى صراع سياسي، وهذا الصراع بُني في المجمل على المفاوضات.
ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنه لا يوجد بديل أفضل عنها حتى الآن، فوجود المعارضة، ومعها الجيش الوطني، وهي سلطات الأمر الواقع، في المناطق “المحررة” في شمالي سوريا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتركيا، حيث يأتي التمويل والتسليح منها ومن يحكم بشكل فعلي على أرض الواقع هي فصائل الجيش الوطني المدعوم والمنظم من قبلها.
وبعيدًا عن الآراء والخطابات الشعبوية وانطلاقًا من الواقعية والموضوعية اتفق مع الراي الذي يقول إنه: على المعارضة أن تتفاعل مع مسألة تفاوض تركيا مع النظام السوري، وأن تُبدي مرونة وفق معادلتين:
الأولى: أنها الممثل السياسي الوحيد للشارع المعارض المعتمد من القوى الخارجية، وبالتالي عليها ألا تتجاوز الحّد الأدنى الذي يمكن لهذا الشارع قبوله، وألا تفقد مصدر شرعيتها وتأثيرها، وهذه المعادلة يتم التلويح بها أمام الأتراك، بالتزامن مع المعادلة الثانية، وهي استعدادها لأن تكون طرفًا في التفاوض، وهو ما سيتيح لها التأثير في مساراته، بمعنى أن تستغل المأزق الذي وجدت نفسها فيه وتحويله لمكاسب إيجابية. فتركيا تريد غطاء سياسيًا محسوبًا على المعارضة يمثله الائتلاف، وبالتالي تركيا بحاجة للائتلاف وهو ما يجب أن يستغله في انتظار وضوح نتائج ما يجري لاحقًا، لأنه عندما يفرض الائتلاف نفسه طرفاً فاعلاً في التفاوض ستفشل المفاوضات لان النظام لن يقبل بأي طرف معارض فاعل شريكًا له.
وهنا ننوه لمسألة مهمة للغاية، فنحن لا ندعو لانخراط المعارضة في مفاوضات مباشرة لا داعي لها بحيث تشكل تنازلًا مجانيًا، وبالتالي إعلان وفاة مسار جنيف الذي لا يزال يحظى بدعم من قبل أطراف دولية فاعلة، وعلى راسها أمريكا، حيث يعتبرونه المسار للحل في سوريا.
ولكن على ما يبدو أن ما يجري هو أن تركيا تجس النبض وتبحث احتمالات التفاهم مع النظام السوري، ولكنها لن تستطيع الوصول لتفاهمات حاسمة معه، والسبب في ذلك يعود لوجود ملفات تهم الأتراك، ولن يقدم النظام تنازلات فيها أبدًا.
تركيا لديها ملفان مهمان في سوريا
الأول ملف الأكراد: وهو ما يمكن للنظام أن يتفق فيه مع تركيا، ولكن لن يستطيع الطرفان فعل الكثير فيه لعوامل كثير أهمها الدعم الأمريكي للأكراد.
والملف الثاني عودة اللاجئين وتسوية سياسية، بحيث تُسمح هذه العودة على نطاق واسع وفي مناطق في عمق مناطق سيطرة النظام، وهذا الملف من الصعب جدًا أن يحصل فيه تفاهم بين “الأسد” والأتراك.
لذلك يجب على المعارضة ألا تخرج من المشهد لأن وجودها كطرف في التفاوض بشكل فاعل سيجعل الأسد يفشله وعليه سيظهر الأسد بمظهر من أفشل المبادرة الروسية- التركية.
وعليه، من المهم جدًا أن تتجاوب المعارضة مع المسعى التركي، فالأمر مستمر بها أو من دونها، ولان ما يطلبه الشارع غير واقعي بشكل كبير من حيث إمكانية التطبيق المنطقي. من المؤكد سيهاجم الكثيرون هذا الرأي، ولكن يجب ألا يفوتنا السؤال الأهم ما هي البدائل؟ فالمسالة ليست مجرد تنظير، لعدم وجود بدائل واقعية، والمعارضة المسلحة مدعومة تركيًا وكذلك السياسية، ويبقى السؤال الأكثر أهمية ماذا لو خرجت المعارضة تمامًا من الكنف التركي، ماذا سيحدث؟
ما يشكل أفضل خيار مناسب حاليًا لمعطيات هذه المرحلة الدقيقة، هو أن تعمل المعارضة على زيادة اللحمة بينها وبين الشعب عبر هيكليات الحوكمة المحلية، فكلما زادت هذه اللحمة والنجاح في إدارة الشأن المحلي في شمالي سوريا، ستزيد قوة أوراق التفاوض بيد المعارضة، وبالتالي ستحتل مكانة أفضل وأقوى في أي طاولة مفاوضات، بالإضافة لذلك أن تكون لديها خطة استراتيجية للتفاوض وزيادة البدائل عبر إعادة بناء العلاقات مع الدول العربية بعيدًا عن فكرة التعامل مع الدول، وفق “مبدأ إما نحن أو هو”، والعمل على إنتاج استراتيجية تعتمد على بدائل وخيارات أخرى دون الانزواء في الركن التركي فقط، وفي نفس الوقت العمل على الترتيب الذاتي في المشهد الدولي.
الأهم في كل هذا، هو عندما تصل لنقطة التفاوض، أن تتعاطى بمرونة، ولكن دون ميوعة حيال المستجدات السياسية على الساحة الدولية، فالمشهد السوري مرتبط ارتباطًا وثيقًا بملفات الغزو الروسي لأوكرانيا وغيرها من ملفات إقليمية، وليس آخرها أزمة الطاقة وانعكاساتها، وبالتالي مشهد التجميد الحاصل في سوريا يجب استغلاله في تمكين أنفسنا وليس زيادة التمزق، عبر التمكين للمعارضة في موضوع الهياكل الحوكمية في الداخل السوري، وهو الأهم من خلال مواجهة أكثر فاعلية لأشكالها الحقيقية والضبط والانضباط وتصدير نموذج للإصلاح، لإنه لا يصلح أي طرف أن يقود مفاوضات إذا فشلت أنماط الحكم في هذه المنطقة. ولأن المفاوضات ستجري بين من يملك أوراقًا على الأرض، وخير مثال على ذلك عندما فاوض النظام أهل درعا والغوطة وحمص… لم يفاوض أطرافًا خارجية، بل فاوض من هم على الأرض.
اقرأ أيضًا: ما الذي يطمئن المعارضة السورية للخطوات التركية نحو دمشق
المعارضة عاجزة؟
دائمًا يطرح السؤال التالي: هل تعتبر المعارضة السورية فعلًا عاجزة حتى عن اتخاذ موقف بوجه الأتراك فيما يتعلق بعودة علاقاتها مع النظام، أو حتى الجلوس معه على الطاولة، وما أسباب ذلك؟
الواقع والمنطق يفرض الجواب بنعم، هي عاجزة نسبيًا، حتى لو أرادت “المعارضة” الحالية، وكل ما سبقها، القيام بأي دور مستقل لن تستطيع، فالملف السوري بات خارج إرادة السوريين، وهو الآن يُدار ضمن مصالح الدول الضامنة والقوى الفاعلة فيه، فالأمر كما أسلفت أن هذه المعارضة ليست لديها أي استقلالية بكل نواحي العمل السياسي والاقتصادي والمالي، وبالتالي لا تملك أي قدرة او إرادة (حتى لو توافقت تركيا وروسيا والنظام على خطوات عملية) في التأثير على الشارع السوري للقبول بتلك الخطوات أو حتى إقناعه برفضها. وذلك بحكم أن القوى المسيطرة في “المحرر” مدعومة تركيًا، والأمر الجاري ليس صفقة، وإنما هي عملية جس نبض، وأتفق مع الرأي الذي يقول إنها ستؤول لنفس الخاتمة التي آلت اليها كمثال المساعي الإماراتية التي بقيت بحدود التطبيع السياسي فقط، دون ترجمة فعلية على أرض الواقع ودون ان يكون لها فائدة نوعية او تأثير.
نعم، الملف السوري خارج أيدي السوريين منذ وقت مبكر، لا جديد في ذلك، لكن يجب على المعارضة المحاولة لتكون طرفًا فاعلًا عبر التعامل بمرونة مع مسعى التفاوض التركي، والذي تشير المعطيات أنه لن يفضي إلى نتائج مهمة، لسبب جوهري وهو ملف اللاجئين والتسوية السياسية، ولن يقبل النظام بأي تنازل أو وجود فاعل لأي جهة معارضة له كما بينت أعلاه.
فليست هناك مساحة للتفاهم بين أنقرة والنظام، وأقصى ما يمكن تحقيقه هو تنسيق أمني قائم أصلًا، وما حصل هو انتقاله من العمل خلف الأضواء إلى العلن، كضغط على الأكراد، وتركيا لن تتخلى عن المعارضة أو الشمال فهي أهم الأوراق في يدها. هذه هي الخلاصة.
وهذا ما يؤكده آخر تصريح للرئيس التركي عبر لقاء تلفزيوني، في 28 من أيلول، عبر قناة “CNN Turk” و”Kanal D”، تناول فيه أردوغان العديد من القضايا التركية والدولية، وعلى صعيد العلاقات مع النظام السوري، إذ قال: “استخباراتنا تجري مفاوضات هناك (في دمشق)، ونحن نحدد خارطة طريقنا بناءً على نتائج جهاز الاستخبارات”.
كما أن كل ذلك متوقف على مدى جاهزية “النظام السوري” في التعاطي مع “التحول” التركي، وفي ظل توقع أن تقود روسيا جهودًا حثيثة في تقريب وجهات النظر بين الطرفين، وقد تقف إلى جانب حزب العدالة والتنمية في معركته الانتخابية القادمة في حال كان هناك تعاط إيجابي من قبله في ملف المصالحة، لكن ثقل الملفات السياسية وحجم التحديات الأمنية قد يؤخر إنجاز مصالحة شاملة على المدى القريب، ويمكن في حال استجاب النظام السوري لذلك أن تتم مقاربة الملفات تدريجيًا، وفي فترات زمنية متقطعة.
ولكن، “النظام السوري” يضع شرطين اساسيان ضمن الشروط للاقتراب من تركيا أو التطبيع معها، حسبما صدر من تصريحات عن وزير الخارجية السوري، و كذلك ما جاء من تصريحات على لسان، بطرس مرجان، المسؤول المحسوب على نظام الأسد، وهو رئيس لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب السوري في لقاء صحفي مع صحيفة “إزفستيا” الروسية عن إمكانية التقارب مع تركيا، إذ قال: “يجب على أنقرة إنهاء وجودها العسكري في شمالي سوريا وسحب دعمها لتشكيلات مثل جيش الميليشيات السورية (SMO)”، وأشار المرجان إلى وجود بعض المعوقات الجدية أمام تحسين العلاقات مع تركيا، موضحًا أن هناك اتصالات مختلفة بين تركيا وسوريا في المجال الأمني.
وبالرغم من التسريبات العديدة التي تكررت مؤخرًا، وخلال الأيام الماضية كالتسريبات التي كان مصدرها وكالة “تسنيم” و”سبوتنيك”، والتي تفيد بأن تركيا طلبت من الائتلاف تغيير مكان وجوده ومغادرة تركيا، أو وقف عمله السياسي في تركيا وما إلى ذلك، فلا تخفى على أي متابع أهداف مروجي هذه التسريبات.
يبقى الهدف الأساس من كل هذه التسريبات والتصريحات هو توتير المعارضة ودفع الشارع المعارض السوري إلى مواقف حادة تجاه تركيا، وذلك لإيهامه أو محاولة إقناعه عبر تلك التسريبات أن تركيا تتخلى عنه، وهذا ما سيزيد من ضغط الشارع على المعارضة السياسية لمقاومة المقترحات التركية، ما يعني أن الهدف دق إسفين بين المعارضة والجمهور المعارض السوري وتركيا.
حسنًا، دعنا نتخيل هنا، إذا ذهبت الأمور إلى أقصاها مثلًا (وهي لن تذهب لكن تصور معي)، أن تطرد تركيا المعارضة وأن تغلق حدودها مع “المحرر” وتوقف دعم فصائله، ماذا يعني ذلك؟ سينتج عن ذلك على الأقل حرب جديدة ولاجئون ومجازر…، وهذا يعنى أن الطرفين المعارضة السورية وتركيا سيخسران الكثير.
وهذا بالضبط ما يريده الطرف الذي يبرر ويروج لمثل هذه التسريبات، وخاصة تلك التي تركز في هدفها على دق إسفين بين المعارضة السورية، وخاصة الشعب السوري في شمالي سوريا وتركيا، بالرغم أن تركيا ظاهرة بمظهر من يطعن المعارضة السورية بالظهر، الا أنه وفي حقيقة الامر التي لا تقبل أدنى شك هو وجود مصالح مشتركة بين المعارضة (جمهور وسياسيين وفصائل)، وبين تركيا يستحيل تجاوزها، وإلا سيخسر الطرفان الكثير والكثير جدًا.
وهنا لابدّ من التنويه لمسألة مهمة برزت منذ مدة، فعندما يتم تحليل أو تفسير الأمر بشكل مشابه لما ورد أعلاه يتم اتهام من يقوم بذلك “بالتطبيل لأردوغان وتركيا وأنه “سوركي” (مصطلح بدأ يدرج على وسائل التواصل الاجتماعي يدمج السوري- التركي، بمعنى سوري يطبل لتركيا) على الرغم من أن الواقع والموضوعية تكون الهدف من ذلك التحليل، إلا ان هذه الجهات هي: إما من نفس الأطراف التي تروج لهذه التسريبات وتهاجم بشدة وبشكل ممنهج كل من يحاول كشف حقيقتها، أو هي ممن تتبنى خطابًا شعبويًا غير واقعي، ولا يخفى ذلك الخطاب على أي متابع، أن الكثير من الخطابات في معظم مساحات وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة والإعلام تأخذ طابعًا شعبويًا في الغالب.
هل من تأثير للأوضاع الداخلية في تركيا؟
لا يمكن إغفال الرأي القائل بأن ما تقوم به تركيا من اتصالات وتصريحات لتعاون أو تفاوض مع “النظام السوري”، يدخل ضمن الاستهلاك الانتخابي الموجه للداخل التركي، وخاصة أن المعارضة التركية ما فتئت تدعو لمفاوضات مع النظام، مستغلة الأمر لكسب أصوات المترددين من الناخبين في الانتخابات القادمة، وهنا نجد الرئيس أردوغان يعمل على سحب هذه الورقة المهمة جدًا، والمؤثرة في مجريات الانتخابات القادمة، من يدها بهدف كسب الانتخابات.
أجل، إن ما يقوم به الرئيس التركي وفريقه الحاكم هو القيام بضرب عصفورين بحجر واحد، بالإضافة لما بينته أعلاه: عند وجود المعارضة كطرف في التفاوض بشكل فاعل سيجعل الأسد يفشلها، وعليه سيظهر الأسد بمظهر من أفشل المبادرة الروسية- التركية، وفي نفس الوقت تظهر السلطة الحاكمة كمن أراد التفاوض والاتصال بـ “النظام” السوري، والقيام بكل ما تدعو إليه المعارضة التركية، ولكن من أفشل ذلك هو “النظام السوري”، وعليه تفقد المعارضة التركية إحدى أهم أوراقها في الانتخابات الرئاسية القادمة.
وأخيرًا، يبقى التساؤل المهم ما هي خيارات المعارضة السورية؟ انطلاقًا من فرضية إذا جرت الأمور كما تريد روسيا وعادت العلاقات مع النظام؟
ما يجري لا يخرج عن عمليات جس نبض النظام السوري وإمكانات التفاهم معه، وفي نفس الوقت إرضاء الجانب الروسي في هذا المسار، ولكن في نهايته سيقف الأسد موقف التعنت، وهو المرجح، وبالتالي سيُظهر ذلك أردوغان أمام روسيا والمعارضة التركية، وفق مبدأ “انظروا لقد ذهبت للنهاية مع الأسد وهذه النتيجة”.
ولن تؤثر عودة العلاقات على موقع المعارضة السورية، فتركيا تحتاجها لعوامل بينتها سابقًا، وهناك تواصل أمني كان بشكل خفي ومنذ سنوات، والآن أصبح علنيا، وتم تأطيره بلباس علاقات دبلوماسية وليس أكثر من ذلك. الأسد لن يقبل عودة اللاجئين، فالملفات معقدة والأمر ليس بسهولة ما جرى من إصلاح علاقات مع دول إقليمية كالسعودية ومصر وغيرها، فهي دول لا توجد ملفات خلافية معها، مشابهة لما يوجد في الشأن السوري.
اليوم تمتلك تركيا 124 قاعدة ونقطة عسكرية في ريف إدلب وحماة وحلب واللاذقية، ولها السيطرة في مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات شمال حلب، ومناطق عمليات نبع السلام في ريف الرقة والحسكة، وفي هذه القواعد والنقاط، يوجد أكثر من 120 ألف جندي تركي وآلاف المعدات العسكرية بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي والمدفعية الثقيلة وقاذفات الصواريخ، وتشكل خط دفاع عسكري ضد محاولات قوات النظام السوري والميليشيات المدعومة من إيران وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التقدم إلى المناطق المذكورة، إضافة إلى ذلك تدعم أكثر من 50 ألف عنصر من فصائل المعارضة المسلحة من خلال تسليح ودفع رواتب شهرية.
وعليه تركيا لن تستفيد الشيء الكثير من التفاهم مع “الأسد” في مقابل حفاظها على وجود المعارضة السورية واللاجئين ووجودها في شمالي سوريا، فهي أهم أوراقها ولن تتنازل عنها بهذه البساطة.
نادر الخليل: باحث سوري مهتم بالشأن السوري والتركي وبالحوكمة. زميل في مركز عمران للدارسات الاستراتيجية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :