المهمة الصعبة، غير مستحيلة
جريدة عنب بلدي – العدد 49 – الأحد – 27-1-2013
عتيق – حُمص
لم نكن نتوقع أن نصل إلى هذه الحال وهذا الوضع. لم نتوقع إطلاقًا أن تستمر الثورة لما يقارب العامين، وأن يتعنّت النظام إلى هذا الحد، بحيث تخضع سوريا لتدمير ممنهج، لم يشمل البنيّة الفوقيّة والتحتيّة فحسب، بل امتدّ ليشمل النسيج الاجتماعيّ والتركيبة الطائفيّة، إضافةً إلى الحالة الاقتصاديّة المعروفة وغيرها.
حديثٌ بتنا نحفظه ونسترجع تفاصيله بشكل يوميّ. فهل ما زال هناك أملٌ حقًا في سوريا أفضل؟ هل هذه هي النهاية، والقادم أسوأ؟ أم أنّ سوريا الحرّة القويّة ستولد من رحم الثورة؟
لا إجابات حتميّة على هذه الأسئلة، فمصير سوريا بأيدينا نحن فقط.
لكن مهما كان تفاؤلنا مفرطًا وأملنا شاطحًا إلى الخيال، هل ما زال من الممكن تجاوز كل الأرقام والوقائع فعلًا؟ هل سيسمح لنا اقتصادٌ منهار، ودولةٌ مدمّرة، ومؤسّسات متفكّكة، ومقاتلون لا يخضعون لسلطة مركزيّة، واحتقان طائفيّ واجتماعيّ، هل سيسمح لنا كلّ ذلك (وأكثر) أن نتحرك إلى هدفنا المنشود؟ على الأقل قبل مضيّ سنوات طويلة في إصلاح ما سبق؟
في الحقيقة فإنّ هذه التحديّات الجسيمة هي الفرصة الحقيقيّة الوحيدة لتحقيق ما نريد! لو أردنا ذلك!
لا أتحدّث كلامًا من عندي، بل هذه هي نظرية المؤرّخ البريطاني المعروف أرنولد توينبي.
أمضى توينبي 41 عامًا في دراسة التاريخ الإنسانيّ، ثمّ خرج بموسوعته الشهيرة «دراسة للتاريخ» في 12 مجلدًا.
يقول توينبي إنّ نظرية «التحديّ والاستجابة» في علم النفس هي ما ألهمه فكرته في تفسير الحضارات، فالواحد منّا إذا تعرض لمصيبةٍ كبيرة فإنها تُفقده توازنه، يستجيب لها بإحدى شكلين: الأوّل هو الانسحاب، والانطواء، والعيش في الماضي، والثاني هو تقبّل هذه الخسارة، ثم محاولة التغلّب عليها.
هكذا أيضًا حال المجتمعات البشريّة، كما وجد توينبي بعد دراسته للتاريخ. فمثلًا أدّى التغيّر المناخي في منطقة شمال إفريقيا، والمتمثّل في انحباس الأمطار وانتشار الصحراء، إلى ردود فعل مختلفة من قبل قاطني تلك المناطق. فبينما تحوّل الكثير منها إلى حياة البدو والترحال بحثًا عن الماء والكلأ، اتّجه قسمٌ آخر إلى دلتا النيل حيث واجه تحديّات بيئةٍ جديدة، فكافح عوائقها وسخّرها لأغراضه، الأمر الذي أدَّى إلى إنشاء الحضارة المصريَّة الرائعة، وهكذا يمضي توينبي في قراءته للتاريخ، حتى يستنتج أنّ الفرصة الوحيدة لإنجاز حضارةٍ عظيمة هي عندما يتعرض مجتمعٌ ما لتحدّياتٍ عظيمة، فهنا إمّا أن يستجيب هذا المجتمع بطريقة سلبيّة أو بطريقة إيجابيّة.
وهنا سؤال آخر مهمّ، ما الذي يحدّد طبيعة استجابة المجتمع؟ لمَ تكون أحيانًا ردّة فعل المجتمع سلبيّة، ولمَ تكون أحيانًا أُخرى إيجابيّة منتجة؟
يقول توينبي أنّ ذلك كثيرًا ما يكون “عن طريق المُبدِعين من الأفراد، أو بواسطة الفئة القليلة من هؤلاء القادة المُلهَمين”، الذين يحملون ثقافةً إيجابيّة تتحفّز بالتحدّيات، وتحمل ثقافة الأمل والعمل مؤمنةً بجدواه. إذ تستجيبُ لهم الأكثريَّةُ عن طريق المُحاكاة الآليَّة التي تُمثِّلُ الطريقةَ الغالبة في عمليَّة الانقياد الاجتماعيّ.
وهذا ما يضع نُخب هذا البلد، ومثقّفيه، ومبدعيه المغتربين، أو الذين اضطّروا للخروج إبّان فترة الثورة، يضعهم أمام واجبٍ كبيرٍ للغاية: إنه العودة الفوريّة للوطن بعيد التحرير (الذي قد يكون تدريجيًا) والالتحام بالمشاريع الاجتماعيّة والتنمويّة والثقافيّة، بل وقيادتها، لخلق بيئة جديدة، تستجيب للتحديّات المعروفة بطريقةٍ إيجابيّة، تمهّد لنا بناء سوريا أمّ الحضارات، كما يضع أبناء الداخل المُبدِعين أمام مهمتهم التاريخيّة.
لن تكون الصورة ورديّة أبدًا… هناك عملٌ شاق، وتحدّيات جسيمة، لكنّ سواعد الرجال لا تعرف التعب، وهمّة الشباب لا تنضب، وتضحية النساء لا تتوقف. إنها مهمّة صعبة، وربّما صعبة للغاية.
المهمّ أنّها غير مستحيلة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :