داريا.. يا وطني الصغير
جريدة عنب بلدي – العدد 49 – الأحد – 27-1-2013
مررت بالسوق. لم تكن لي حاجة هناك، غير أن صوتًا داخليًا كان يجر قدمي نحوه. بائعو الخضار والتبغ يملؤون الأرصفة، والناس يمشون بينهم بتؤدة، يساومون ويشترون القليل من هذا والأقل من ذاك، برغم أصوات القصف التي ما عادت تهز منهم إلا نوافذ بيوتهم. استرعى انتباهي صوت ينادي بلهجة دارانية محببة: «آنسي…آنسي»، تذكرت أني كنت معلمة حتى أشهر خلت واستدرت. شاب طويل القامة، عرفته من بسمته وكانت الشيء الوحيد الباقي من طفولة وجهه، بادلته بمثلها وقلت:
– خالد..
– آنسي لسا متذكرة اسمي!
قالها بذات الفرح الطفولي الذي أبداه منذ خمس سنوات عندما حفظت اسمه للمرة الأولى. كان طفلاً عندما كنت «آنسته» واليوم كان علي أن أرفع رأسي حتى أكلمه. لا مهنة تشعرك بجبروت الزمن كالتعليم.
– ماذا تفعل هنا يا خالد؟
– والله نزحنا يا آنسي..
– أوليست تلك حال الجميع يا صديقي، المهم سلامتك أنت وعائلتك. هل الجميع بخير؟
– الحمد لله، استشهد ابن عمي، وابن خالي، وأخي معتقل.
– رحمهم الله وفرّج عن أخيك.
– نزل صاروخ ببيتنا واحترق.
– عوضكم على الله، والحمد لله على السلامة، إذن لن تعودوا إلى داريا أليس كذلك؟
– لا آنسي!! رح نرجع بإذن الله!!
قالها بلهجة محتدة كمن يرد على شتيمة، فقلت بصوت متردد كمن يعتذر:
– وبيتنا في داريا أيضًا احترق يوم المجزرة الكبرى، لكننا استأجرنا بيتًا آخر في مكان آخر وربما لن نعود.
– ليش آنسي؟؟
لطالما أحرجني خالد بأسئلته عندما كان طالبًا في صفي، واليوم يفجرني بسؤال لم أفكر قبل اليوم به أو بإجابة عنه. لماذا لن نرجع يا خالد؟ لذات السبب الذي يهاجر من أجله الناس من هذا البلد ويستوطنون بلدانًا أخرى، وبالرغم من كل ما تسمعه منهم من حنين للوطن وشتائم للغربة فهم لا يرجعون، ليس لأجل النقود كلا، بل لأنهم يدركون أن هذا المكان الذي نعيش فيه ليس بوطن. لقد قتل السفاح الوطن فينا يا خالد ثم شرع وريثه يقتلنا لحظة حاولنا استرجاعه. بتنا غجرًا على أرض كانت لنا، نرضى بأي سقف يؤوينا. أحسدك يا خالد، أنت ممن استعادوا الوطن، فعادوا إليه.
أيقظني خالد من شرودي بتكرار سؤاله، وهي عادة ما فارقته أيضًا مذ كان طفلًا.
-ليش آنسي؟
-لأنني….لأنني لست دارانية.
-مبلى آنسي.. إنتى ديرانيي ونُص..منا وفينا.
ابتسمت.. شعرت كما لو أني منحت ألف جائزة وألف وسام بل أكثر. أصبح عندي الآن وطن حقيقي أنتمي إليه، وطن يسأل عني ويطالب بعودتي… وأي وطن! أصبحت دارانية!
-لي الشرف يا بني!
ودعته ومضيت.
نعم يا خالد أنا دارانية. قضيت عمرًا في داريا، مشيت في شوارعها، علمت أبناءها وبناتها، أكلت من عنبها، فأنا إذن دارانية، لا بالنسب ولا بالرضاعة، دارانية بالعنب. فيها عشت ومنها أخرجت وإليها سأرجع تارة أخرى.. بإذن الله.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :