جريدة عنب بلدي – العدد 49 – الأحد – 27-1-2013
أحمد عيساوي
تمر الثورة السورية اليوم في مرحلة تعقيدات مركّبة أوجبت تساؤلات عديدة تتناول ماهيّة الدولة التي ستنتجها الثورة أو شكل النظام في سوريا الخارجة من فكيّ الأسد، ما يستدعي كلامًا في التناقضات القائمة يطال السياسي والثقافي والاقتصادي وكل ميدان يتداخل فيه الشرط الأساسي للثورة (العنصر البشري) مع الواقع الاجتماعي.
1- سوريا العارية من الإيديولوجيا التلاقحية:
شنّ النظام البعثي على مدى أربعة عقود عدوانًا عنيفًا وممنهجًا على الشعب، كان بشكله الأكثر وضوحًا تقنينًا لحملات تأديبية ترسّخ «السائد» وتحظر الحديث والنقاش في كل ما هو طارئ على هذا «السائد».
وكان حدث اندلاع الثورة لحظة استثناء تعطّلت فيها القوانين الاجتماعية والطبيعية، وكان المشهد الأول رهينة ترسّبات فكرية وثقافية نتجت عن طبيعة الحكم الأسدي في البيئة السورية المتنوعة. وأكثر ما كان صادمًا هو تموضع التناقضات في حيز الزمان (قبل/بعد عسكرة الثورة) والمكان (المدن/الأرياف) دون ولوجها حد تهديد سلامة الثورة أو إمكانية انتقالها إلى تناقض داخليّ يؤثر سلبًا في مسارها ويسهّل على النظام طريقة التعاطي معها.
على مدى سنوات قولب «البعث» كل فكرة متعلّقة بالعروبة والقومية وجعلها إطارًا مطلقًا منفلتًا، ذات بنية محكمة مستندة إلى «القطر» الثابت سكانًا وأرضًا وتاريخًا. هذا التشظّي الهوياتي أرسى تصالحًا معرفيًا واضحًا بين مفاهيم البعث (دستورًا وقوانين وممارسة تربوية وثقافية) وشكل السلطة الحاكمة. ولم تكن هذه الصيغة وليدة اللحظة إنما نتاجًا تراكميًّا لتلاقح المسوّغات الثقافوية والفكريّة في دولة البعث المقوننة.
نرى في دستور 1947 كلامًا واضحًا عن «الوحدة الثقافية» وعن «الفوارق العرضية الزائلة» لمجرّد يقظة الوجدان العربي. إنّ مجرد تمثيل النص بوصفه رسالة تعبّر عن عموم السوريين يعني إلغاءً لإمكانية الاختلاف الثقافي وإنّ كل نشاط ينزع إلى إناطة الفوارق بنقاش جدليّ عام ساقط في سوريا الأسد.
إنّ فكرة المطلق والأبد في ايديولوجيا العروبة والقومية خلقت نظامًا هجينا بصورة مثلى، وكان الزيف الكامن في تلك الرسالة صيغة عدائية سيكولوجية للتاريخ والجغرافيا والحضارة.
يستند النظام الحاكم في سوريا إلى ترقّب مزاج العامّة بوصفه انعكاسًا لمسار السلطة-الحزب الحاكم، فمتى كانت الجماهير في طور التدجين القائم نجح النظام في ترسيخ استمراريته وتأكيد صوابية «المطلق» في ايديولوجيته التلاقحية. هو يرى أنّ الجماهير لا تعقل، فهي ترفض الأفكار أو تقبلها كلًا واحدًا من دون أن تتحمل مناقشتها. وما يقوله الزعيم يغزو عقلها فتتجه إلى أن تحوّله حركة وعملًا. وما يوحى به إليها ترفعه إلى مصاف المثال، ثم تندفع به في صورة إرادية إلى التضحية بالنفس. هنا يبدو شعار الفداء للأسد «بالروح بالدم نفديك يا بشار» طبيعيًا وترجمة متجانسة مع ما صاغه الحكم الأسدي على مدى سنوات من حقن تأديبية وجلسات تدجين ثقافوية وندوات تخلّد الزائف والغائب والمضمر.
2-الجماهير تخرج عن صمتها.. لا للمطلق
يرى غوستاف لوبون (طبيب وعالم اجتماع فرنسي عني بالحضارة الشرقية) أنّه في الحالة الجماهيرية تنخفض الطاقة على التفكير ويذوب المغاير في المتجانس، بينما تطغى الخصائص التي تصدر عن اللاوعي.
إنّ السعي المتواصل من السلطة الحاكمة لترسيخ فكرة أن «لا جماهير من دون قائد كما لا قائد من دون جماهير» تعرّض لانتكاسة كبيرة بمجرّد أن علا هتاف «ما في للأبد.. يسقط بشار الأسد» وغدت الكينونة الهرمية، التي بناها النظام في علاقة رعويّة بين المواطن والسلطة، خارجة عن إطار الواقع في زمن الشارع.
إنّ الوحدة التي حدثنا عنها النظام ما كانت إلا وحدة للعائلة الحاكمة وانشقاقًا لعموم الشعب عن سلطته وتمردًا على مفاهيم «المطلق».. والحديث عن عقيدة «قومية» راسخة، ترجمتها السلطة بتخوين كل من يعارضها سياسيًا ورفع الحماية القانونية عنه، ما كان إلا تحويرًا وظيفيًا لتقديم الذات الحاكمة في صورة المستهدف من عدو فائق التسلح يمتلك كامل الحصانة الدولية.
كل المحظورات التي انتشرت وتعممت وتلاقحت في زمن الأسد (الأب ثم الابن) نسفها المواطن السوري المنتفض على واقع التدجين والرافض لمنطق «الرعوية» في دولة الحزب الواحد وغدا الشارع ميدانًا لكل ألوان الطيف السوري والتي قد تختلف في كل شيء، وتجمع على رحيل النظام.
3-خلاصة
إنّ فكرة الأبد الأسدي انتهت إلى غير رجعة، والمعركة اليوم هي في كيفية بناء واجهة حقيقية لدولة خارجة من ايديولوجيا «المطلق» إلى عراء «التجربة الأولى».
في دولة ما بعد الثورة، لا بد من الانتقال سريعًا وبشكل دستوري إلى بلورة فكرة المواطنة الكاملة التي تتيح قيام نظام داخلي متعدد يضمن ممارسة ديمقراطية سليمة تلحق بقطار التاريخ الجديد الذي يعيشه الإنسان في العالم المتقدم.
في سوريا الجديدة، إنّ كل إطار للجدل الفكري مشروع، وإنّ تصويب النقاش ليطال مشاكل خلافية حول الطائفية وطبيعة الحكم لا بد أن يأخذ منحى علنيًا يلغي فكرة الارتياب والتخوين والإقصاء ويذيب حواجز التسلّط والجهل والعشائرية.. هي معركة السوريين القادمة وهي لا تقل أهمية عن معركة إسقاط النظام.