تعا تفرج
لغة المجاقمة وشهوة الردح
خطيب بدلة
تحمل كلمة “المجاقمة” العامية معنى المجاكرة، أو الملاوقة، أي أن يمد شخص ما لسانَه للآخر استهزاء، فيمد الآخر لسانه. وقد انتقلت هذه اللغة إلينا عبر “السوشيال ميديا”، وهي لم تكن ممكنة في أيام الصحافة الورقية، فلو أردت، في تلك الأيام، أن تجاقم كاتبًا نشر مقالة لم تعجبك، ستضطر لكتابة مقالة، وإرسالها إلى الصحيفة، وهي غالبًا لن تُنشر.
يمكنني، هنا، أن أعرض على حضراتكم نماذج مختلفة من المجاقمة، فعلى أيام المجرم سابقًا، الخرفان حاليًا، رفعت الأسد، كان من حق عنصر “سرايا الدفاع”، المطعَّم على بغل شموس، أن يزجر أي مواطن سوري يصادفه في أي مكان، فإذا رآه يمشي في الشارع، مثلًا، يقول له: امشِ على الرصيف يا حمار، وإذا رآه على الرصيف يقول له: انزل عن الرصيف يا حمار. والمواطن الأعزل، الغلبان، يضطر لابتلاع الإهانة، ويمشي مؤملًا أن يغادر هذا المكان وهو على قيد الحياة، وأما أقصى حالات المجاقمة التي يمكن أن يمارسها، فهي أن يقول للعنصر، بصوت لا يغادر حلقه: لا تقل رصيف!
إذا قلت لكم إنني أكثر كاتب يتعرض للمجاقمة في العصر الحاضر، فربما اعتقدتم أنني أتفاخر، أو أدعي الأهمية. كتبتُ، في حزيران الماضي، فكرة عامة، ملخصها أن الشعوب التي تريد أن تتطور، يجدر بها أن تعتذر عما ارتكبه أجدادُها بحق الآخرين. وبدأت المجاقمة. استلمني واحد معلاقه بحجم “تل دينيت”، وراح يعمل لي مذاكرة: مَن اعتذر لمن؟ أجبته أن الكنيسة الكاثوليكية، مثلًا، اعتذرت عن الجرائم التي ارتُكبت باسم المسيحية، والدولة الكندية اعتذرت عما ارتكبه الكنديون بحق السكان الأصليين. قال: طيب بريطانيا اعتذرت؟ أمريكا اعتذرت؟ الدنمارك اعتذرت؟ روسيا اعتذرت؟ ومرة كتبت عن ضرورة إعمال العقل فيما نشاهده أو نقرأه، وأننا نرتكب خطأ حينما نعتز بمجرمين اكتسبوا تاريخيًا صبغة القداسة، وإذا بأحدهم يكر عليَّ مثل جلمود صخر حطه السيلُ من علِ، ويقول: طيب يا خطيب الـ”مسبة من تحت الزنار”، بمن تريدنا أن نعتز؟ بجورج بوش؟
المضحك في الأمر، أنني غير معجب بمعظم رؤساء أمريكا الذين شهدناهم، منذ جورج بوش، وحتى بايدن، وبرأيي أن بوش هو أسوأ رئيس يمكن أن تُمنى به الولايات المتحدة، والحروب التي خاضها بعد أيلول 2001، عادت بالضرر على أمريكا، وعلى الآخرين في الوقت نفسه، وحتى لو كان رئيسًا عظيمًا، هل يعقل أن أعتز به؟ وخلال ردي على ذلك الشخص قلت له: يعني حضرتك لا تستطيع أن تقعد هكذا، بشكل طبيعي، دون أن تعتز بأحد؟ وإذا كان لا بد من أن تعتز بأحد، يا سيدي اعتز بمخترع الكهرباء، بمكتشف لقاح شلل الأطفال، بمبدع في الموسيقا والمسرح والغناء كأبي خليل القباني، بمن دعا إلى الشك والمراجعة، مثل طه حسين.
ما إن ذكرت طه حسين حتى بلغت المجاقمةُ الأوج، وقد تبين لي أن هناك أناس كثيرون ما زالوا يكرهونه، بعد مئة سنة من طرحه الفكرة القائلة بأن معظم الشعر الجاهلي تم تأليفه في العصور الإسلامية. فتأمل.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :