درعا – حليم محمد
بعد سيطرته على محافظة درعا في تموز 2018، انتظر بعض السكان أن يعمل النظام على ضبط الأمن في المنطقة الجنوبية، إلا أن الواقع كان عكس التوقعات، إذ انتشرت الفوضى وجرائم السطو والسرقة.
وكان آخر فصول الفوضى في درعا فرض الإتاوات المالية على المقتدرين ماليًا بشكل عشوائي، الأمر الذي أسهم في تقويض عملية البناء والاستقرار، وتراجع الكثير من أبناء المحافظة عن فكرة الاستثمار في المشاريع التنموية، كما أسهمت هذه الإتاوات بجعل فكرة الهجرة خيارًا لا بد منه لكثير من المقتدرين.
الترهيب لفرض الإتاوة
“أبو أحمد” (55 عامًا) من سكان ريف درعا، طلب عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، قال لعنب بلدي، إن شخصًا تواصل معه من أكثر من رقم أمريكي، عبر تطبيق “واتساب”، وطلب منه دفع مبلغ قدره 50 ألف دولار أمريكي، وهدده بالقتل أو قتل ابنه في حال لم يدفع.
وتابع “أبو أحمد” أن هذا التهديد “قيّد حركتي وحركة ابني، وأصبحنا كالأسرى ضمن منزلنا”.
عنب بلدي اطّلعت على نص الرسائل التي وصلت إلى هاتف الرجل الخمسيني، إذ تضمنت تهديدًا بالقتل، ادّعى المرسل فيها بأنه من عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وقال “أبو أحمد” لعنب بلدي، إن هذا الأمر لم يقتصر عليه فقط، إذ وصلت رسائل بنفس الصيغة إلى عدد من المقتدرين ماديًا، منذ مطلع العام الحالي، في مدينة طفس وقرى المزيريب وتل شهاب وجلين وخربة قيس.
ولم يتقدم “أبو أحمد” بشكوى ضد هذه العصابات لصعوبة الوصول إلى الجناة، وقال، “إن المنطقة تخضع لسيطرة قياديين سابقين في المعارضة”، بحسب رأيه، “ولا سلطة فعلية للنظام”.
وليد (40 عامًا)، وهو من سكان بلدة تل شهاب بريف درعا الغربي، قال لعنب بلدي، إن مجهولين طلبوا من صديق له مبلغ 30 ألف دولار أمريكي، وعندما رفض الدفع أطلقوا الرصاص على منزله مرات عدة.
وأضاف وليد أن هناك أشخاصًا يستجيبون ويدفعون المبالغ خوفًا على حياتهم وحياة أبنائهم، بينما يرفض بعضهم الآخر دفع “الإتاوة”، بحسب وصفه.
بيئة “مناسبة” لانتشار العصابات
المحامي السوري سليمان القرفان، نقيب “المحامين الأحرار” سابقًا، قال لعنب بلدي، إن هذه العصابات نشطت في الآونة الأخيرة لعدة أسباب، أهمها الفلتان الأمني المتعمد، وإطلاق يد “الشبيحة” و”اللجان الشعبية” للحصول على المال بجميع السبل، وعدم إخضاعهم للمساءلة والعقوبة.
وأضاف القرفان أن ما عزز من وجود هذه الحالة في المنطقة، انحدار الأخلاق في المجتمعات التي انتشرت فيها المخدرات، وبالتالي السعي لتأمين ثمن تلك المواد بأي وسيلة، ومعاقبة المناطق التي ثارت على النظام السوري من خلال استباحة كل شيء فيها، وتحويلها إلى مناطق فاشلة إداريًا.
حوادث ترهيب سابقة
في 22 من حزيران الماضي، انفجرت عبوة ناسفة أمام منزل “أبو تركي الجمل” (أحد المقتدرين ماليًا)، بعد رفضه دفع إتاوة مالية تقدّر بـ50 ألف دولار.
وبحسب ما قاله أحد وجهاء الريف الغربي (تتحفظ عنب بلدي على ذكر اسمه لأسباب أمنية)، خشي “أبو تركي الجمل” على حياة أبنائه وممتلكاته، فدفع الفدية مرغمًا.
وفي حادثة أخرى، طالبت العصابة شخصًا من سكان خربة قيس بريف درعا الغربي، بفدية مالية قدرها 40 ألف دولار أمريكي، وبعد رفضه دفع المبلغ “خطفوا ابنه للضغط عليه، وبعد استمراره بالرفض قتلوا ابنه الآخر، لإجباره على دفع المبلغ”، بحسب أحد الوجهاء.
وحول موقف القانون السوري من جريمة الابتزاز المالي، ميّز المحامي سليمان القرفان في حديثه إلى عنب بلدي، الحالات التي “تُجنّح” فيها العقوبة، ومتى تتحول إلى جناية، إذ يوصّف الجرم قانونًا بمصطلح “الابتزاز” طالما اقتصر الفعل على القول فقط.
ويسمى المال المدفوع نتيجة الابتزاز “رشوة إسكات”، وهذا الفعل يعاقب عليه قانون العقوبات بالسجن لمدة عامين، بحسب المحامي، مضيفًا أنه في حال تعدى الفعل التهديد بالأقوال إلى أفعال كالسلب أو الخطف، يصبح جناية يُحكم فيها على الجاني بالحبس خمس سنوات على الأقل في حال ترافق الابتزاز بالسلب.
وفي حال حصل خطف للشخص، يصبح الجرم جنائي الوصف، وتصل عقوبته إلى السجن لمدة 20 عامًا، وفقًا للمحامي.
غياب السلطة
لم تخضع أرياف محافظة درعا لسيطرة فعلية من قبل قوات النظام، إنما اقتصرت على بعض الحواجز، وبالمقابل، انتهى عمل الفصائل المسلحة التي كانت تسيطر على المنطقة بعد سيطرة النظام نهاية عام 2018، وساعد هذا الفراغ في نمو عصابات تعمل على الخطف أو المجاهرة بطلب الفدية.
أحد وجهاء الريف الغربي، حمّل القياديين السابقين الموجودين في درعا مسؤولية ضبط الأمن، وقال لعنب بلدي، “إنهم البديل الذي يتمتع بحاضنة شعبية، وله قدرة على متابعة واجتثاث هذه المجموعات ومحاسبة مرتكبيها”.
بينما لم يستبعد وليد من سكان تل شهاب أن تكون هذه المجموعات مرتبطة بالأفرع الأمنية وتعمل لمصلحتها.
الإتاوات تترك آثارها في المنطقة
في شباط الماضي، أغلق تاجر ألبان وأجبان معمله قرب بلدة المزيريب بريف درعا الغربي، بعد طلب فدية مالية منه، وبعد رفضه الدفع، تعرض لمحاولتي خطف من مجهولين، وكان معمله ينتج الألبان مما يقارب خمسة أطنان من الحليب يوميًا، ما سبب إغلاقه كساد وانخفاض سعر الحليب.
وقال إبراهيم (55 عامًا)، أحد وجهاء الريف الغربي لعنب بلدي، إن تدهور الأوضاع الأمنية دفع المقتدرين ماليًا لعدم المجازفة في فتح مشاريع تجارية، خوفًا من عمليات طلب الفدية أو السطو المسلح.
وأضاف إبراهيم أن هذه المشاريع المتوسطة تخلق فرص عمل، وبالتالي تحد من البطالة، وكذلك تؤمّن المنتجات الغذائية وغيرها من الصناعات بسعر أقل، لأن أجور النقل تكون شبه معدومة في حال إنتاجها في مناطق ريف درعا.
تفتح بابًا للهجرة
الشاب محمود (40 عامًا)، قال إن البقاء بالبلد في ظل الظروف الأمنية الحالية بات “صعبًا”، مضيفًا، “هذا البلد أصبح غابة، كل يوم عمليات قتل وتشليح وتشديد أمني، بدي (أريد) سافر وأسحب عائلتي من هذا الجحيم”.
وذكر وليد، الذي التقته عنب بلدي في وقت سابق، أن فرض الإتاوة عامل مهم أسهم في زيادة عدد المهاجرين، لأن السكان يتوقعون توسع عمليات فرضها لتشمل أغلبية السكان، فهم بحاجة للبحث عن مكان آمن.
وتشهد محافظة درعا خروج العشرات من سكانها بشكل يومي، منهم من يسافر إلى ليبيا أو لبنان لسلك طريق البحر، ومنهم من يختار طريق التهريب باتجاه تركيا، وهناك من يسافرون إلى بيلاروسيا.
ويرى المحامي سليمان القرفان، أن النظام السوري يسعى لتفريغ مناطق سيطرته من الشباب من خلال إرغامهم على مغادرة البلد، مشيرًا إلى أن هذه الممارسات ستلعب دورًا بارزًا بتعطيل الحياة الاقتصادية جراء نقص الأيدي العاملة، وفقدان الثقة بأي عمل أو مشروع اقتصادي قد يعرّض صاحبة للابتزاز أو السلب بالعنف.