تتوالى سلسلة الانفجارات الغامضة في بحر البلطيق التي نجمت عنها تسريبات في خطوط الغاز الروسي، الذي يعتبر عصب الطاقة لدول الاتحاد الأوروبي، ما أدى إلى تفاقم أزمة الطاقة، وإفشال احتمالية إعادة التوريد قبل حلول الشتاء.
في أحدث واقعة، كشف معهد علم الزلازل بجامعة “هلسنكي” الفنلندية، الثلاثاء 25 من تشرين الأول، عن خمسة انفجارات تحت الماء بالمياه الروسية في بحر البلطيق الأسبوع الماضي.
بدوره، قال مدير المعهد، تيمو تيرا، لوكالة الأنباء “رويترز“، “اكتشفنا خمسة انفجارات أكبرها بلغت قوته 1.8 درجة وأصغرها 1.3 درجة على مقياس “ريختر” المستخدم لوصف كثافة النشاط الزلزالي.
وأضاف تيرا أن أربعة انفجارات سُجلت، في 20 من تشرين الأول الحالي، وآخر في 21 من الشهر نفسه، بالمياه الإقليمية الروسية في خليج فنلندا، موضحًا أنها نجمت عن انفجارات وليس عن أنشطة زلزالية أخرى.
وأكد أن المعهد لا يعرف سبب الانفجارات، لكنه رصد اضطرابات مماثلة خلال تدريبات بحرية سابقة وكنس لألغام قديمة من قاع البحر.
كما بدأت سلسلة الإبلاغ لما مجموعه أربعة تسريبات في خطي أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم” (1 و2)، عندما سجلت مراكز رصد الزلازل في الدنمارك انفجارًا جنوب شرق جزيرة بورنهولم الدنماركية، فجر 26 من أيلول الماضي.
يمر خط أنابيب “نورد ستريم” عبر بحر البلطيق، لنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا.
ولم يكن أي من خطي الأنابيب يعمل، لكنّ كليهما كان ممتلئًا بالغاز، بحسب ما ذكرته وكالة “أسوشيتد برس“.
ويقع بحر البلطيق في شمال أوروبا، وهو محاط بشبه الجزيرة الاسكندنافية وأوروبا الوسطى والشمالية والشرقية والجزر الدنماركية، وسُميت دول البلطيق الثلاث، لاتفيا، وإستونيا، وليتوانيا، بهذا الاسم نسبة له.
اقرأ أيضًا: من يقف وراء “تخريب” خطي أنابيب الغاز الروسي في بحر البلطيق؟
عوالم رهن الكوابل
تشكّل شبكات الغاز جزءًا فقط من شبكة العالم الكثيفة من الأنابيب والكوابل البحرية التي تعمل على توفير الطاقة، وتأمين الدعم الأساسي لتدفق المعلومات، كما تلعب دورًا رئيسًا في العولمة من خلال ربط مليارات الأشخاص حول العالم مع بعضهم.
تمتد كوابل الألياف الضوئية عبر المحيطات والبحار لأكثر من 1.3 مليون كيلومتر على عمق آلاف الأمتار، ما يكفي لتمتد إلى القمر وتعود، وفقًا لشركة “Tele Geography”، التي تتعقب وتضع خرائط لشبكات الاتصال الحيوية.
وأطول كابل وُضع إلى الآن هو الذي يربط فرنسا في أوروبا الغريبة بسنغافورة جنوب شرقي آسيا، ويصل إلى 25 ألف كيلومتر.
ويكلف ربط قارتين بالكوابل البحرية حوالي 700 مليون يورو، ويستغرق سنتين من البناء.
تتراوح سماكة الكوابل البحرية بين حوالي سنتمتر و20 سنتمترًا، وهي عبارة عن ألياف ضوئية مع غلاف حولها يتكون من مواد معدنية وبلاستيكية، بهدف جعلها مقاومة ومرنة.
وتمر عبرها يوميًا 97% من الاتصالات في العالم، وتريليونات الدولارات من المعاملات المالية، وفق “المجلس الأطلسي“.
استخدمت الكوابل البحرية الأولى في عشرينيات القرن الـ19، بواسطة ملحق بالسفارة الروسية في ميونيخ لإرسال اتصالات التلغراف الكهربائي.
وتطورت تقنية الكوابل البحرية في منتصف وأواخر القرن الـ19، ووصلت إلى إمكانية الاتصالات الصوتية في أوائل إلى منتصف القرن الـ20، ونقل بيانات الألياف الضوئية من منتصف إلى أواخر القرن الـ20.
حياة من دون كوابل
يمكن للحياة الحديثة من دون هذه الكوابل أن تتجمد فجأة، وتنهار الاقتصادات وتكافح الحكومات للتواصل مع بعضها، وفق ما ورد في تقرير لرئيس الوزراء البريطاني الحالي، ريشي سوناك، حذر فيه من مخاطر انعدامها، عندما كان مشرعًا في البرلمان، قبل أن يصبح وزيرًا للمالية في 2017.
تكمن القدرة على نقل المعلومات السرية وإجراء المعاملات المالية والتواصل دوليًا بالاعتماد على شبكة عالمية من الكوابل المادية الموجودة تحت سطح البحر.
أظهرت انفجارات خطوط أنابيب الغاز أن ضرب البنية التحتية لقاع البحر وخلق أزمة أمر ممكن، في ظل الصراعات الجيوسياسية والاقتصادية، إذ شكّل خطا الأنابيب نقطة اشتعال في حرب الطاقة المتصاعدة بين العواصم الأوروبية وموسكو التي ضربت الاقتصادات الغربية الكبرى.
نشهد عشرات الانقطاعات كل عام في كوابل الاتصالات المغمورة، وغالبًا ما تكون ناجمة عن سفن الصيد، ويُنظر إلى بحر البلطيق على أنه تحدٍ للإبحار دون أن يكتشف أعماقه، مع وجود كثير من القنابل غير المنفجرة على أرضه منذ الحربين العالميتين.
ووفق ما ذكر سوناك في تقريره، فإن مواقع الكوابل في قاع البحر ليست سرية، بالإضافة إلى أنها غير محمية جيدًا بموجب القانون الدولي، ولا يتطلب الأمر خبرة أو موارد واسعة لإلحاق الضرر بها.
كما أن “البنية التحتية هشة”، بحسب ما قاله الأميرال المتقاعد في البحرية الدنماركية توربين أورتينغ يورجنسن، مضيفًا أن تسرب غاز البلطيق “شد انتباهنا إلى نقاط الضعف هذه”.
كانت شركات الإنترنت العملاقة مثل “Amazon” و”Meta” و”Google” و”Microsoft” من بين الشركات التي أنشأت شبكة الكوابل المنتشرة، مع حصص ملكية في عدد متزايد من الكوابل تحت سطح البحر.
نظرًا إلى أن الشركات الخاصة لا تفكر في الأمن القومي كما تفعل الحكومات، فإنها لم تكن متيقظة لـ”التهديد الجديد العدواني” الذي تتعرض له الكوابل من أماكن مثل روسيا، وفقًا لتقرير سوناك.
روسيا تحت الماء
بعد الحرب الباردة (1947- 1991)، قلّصت الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) قواتها الحربية المضادة للغواصات، وقلّصت ميزانيات الدفاع، وحكمت على أن التهديد من روسيا تضاءل.
عام 2015، زعمت ليتوانيا أن سفينة تابعة للبحرية الروسية حاولت مرارًا عرقلة مد كابل كهرباء تحت البحر يربط البلاد بالسويد، واعتبر وزير الطاقة الليتواني، روكاس ماسيوليس، تصرفات روسيا “معادية”، بحسب ما ذكرته صحيفة “The Baltic Times“.
“سمحت الدول الغربية لنفسها بالنوم”، بحسب ما قاله الرئيس السابق للمركز الفرنسي للدراسات العسكرية العليا، ميشيل أولهاغاراي، مشددًا على ضرورة تأمين حماية أفضل للكوابل والأنابيب البحرية التي حددتها روسيا على أنها حيوية وضعيفة.
وأوضح أن الدفاعات الغربية ضد الهجوم تحت سطح البحر تخلّفت فعلًا، مؤكدًا أهمية مجال “أرضيات المحيطات” أكثر من استكشاف الفضاء، وحماية البنية التحتية بدلًا من الذهاب إلى المريخ.
عام 2018، وضعت شركة “فيسبوك” و”مايكروسوفت” كابلًا بطول ستة آلاف و600 كيلومتر، لربط ولاية فرجينيا جنوب شرقي الولايات المتحدة بمدينة بلباو في الشمال الأوسط من إسبانيا.
سلّط ذلك الضوء على المدى الذي تعتبر فيه الولايات المتحدة الكوابل مزايا استراتيجية، فالكوابل البحرية الأطلسية تحمل 55% بيانات أكثر من العابرة للمحيطات.
وتحمل الكوابل عبر المحيط الأطلسي 40% من البيانات الموجودة بين أمريكا الجنوبية والشمالية، وفقًا لبراد سميث، رئيس شركة “مايكروسوفت”.
يُنظر إلى الكوابل البحرية على أنها أصول استراتيجية منذ 1858، عندما ربط أول كابل أيرلندا بكندا، وكان الاحتكار بريطانيًا في البداية، ثم فرنسيًا، ولا تزال المملكة المتحدة تشهد مرور ربع الكوابل.
وللتخلص من السطوة البريطانية، صارت الولايات المتحدة لاعبًا رئيسًا، إذ أصبحت الكوابل التي تعتبر “ضرورية في حالة النزاع” والأكثر موثوقية من أولويات الولايات المتحدة.
نفوذ تحت الماء للهيمنة على الأرض
المناطق الجديدة ذات المخاطر الجيوسياسية العالية، مثل القطب الشمالي، لم تُستبعد من خارطة الهيمنة، ففي نيسان 2018، أطلقت وزارة الدفاع الروسية كابل ألياف بصرية بطول إجمالي يبلغ 12 ألفًا و700 كيلومتر، ومن المقرر أن يكون جاهزًا في 2025.
بالنسبة للدول القومية، يعد التنصت على الكوابل التي تحمل معلومات حول العالم فرصة تجسس جذابة، ففي السبعينيات، نشرت وكالة الأمن القومي الأمريكية غواصات وغواصين لتوصيل أجهزة تسجيل بكابل على الساحل الشرقي لروسيا يحمل اتصالات عسكرية روسية حساسة.
اليوم، تحدث ظاهرة مماثلة مع الكوابل البحرية التي تنقل حركة المرور على الإنترنت، فهي “منجم ذهب” للمعلومات، وتدرك الحكومة الروسية على نطاق واسع القيمة الاستراتيجية للبنية التحتية المادية للإنترنت.
عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم بشكل غير قانوني في 2014، استهدف الجيش الروسي الكوابل البحرية التي تربط شبه الجزيرة والبر الرئيس للسيطرة على بيئة المعلومات.
في كانون الأول 2019، زعمت تايوان أن بكين تدعم الاستثمار الخاص في الكوابل البحرية بالمحيط الهادئ كآلية للتجسس وسرقة البيانات، وفقًا لمعهد “الاتحاد الأوروبي وآسيا” (ESSCA).
وأوقفت الحكومة الأمريكية في وقت سابق من هذا العام مؤقتًا مشروع شركة “جوجل” لبناء كابل إنترنت من الولايات المتحدة إلى هونج كونج، لخوفها من استخدام الصين قانون الأمن القومي الجديد للوصول إلى بيانات الكوابل على جانب هونج كونج.
في وقتنا الحالي، تنقل هذه الكوابل أحجامًا وأنواعًا من البيانات لم يكن من الممكن تصورها سابقًا، من الاتصالات التجارية والبحث العلمي إلى الرسائل الشخصية والوثائق العسكرية.
يجعل ذلك أمنها المتمثل في “السرية والنزاهة والتوفر”، ومرونتها (الدرجة التي يمكن استعادتها أو إصلاحها في حالة حدوث ضرر أو انقطاع)، جزءًا أساسيًا من تأمين الإنترنت العالمي في وقتنا الحالي.
–