ينتظر ابنه البكر المعتقل منذ تسع سنوات..
مروان برهان.. موسيقا على مقام الانتظار
مدخل البيت مكسو بأخشاب بنية محروقة اللون، تمنح المكان شيئًا من كآبة لا ينفيها الفنانون إجمالًا، هكذا يكون الضوء أقل حضورًا للعين، بما يريحها من الصخب.
في الطابق الخامس من بناية لا مصعد لها في القسم الأوروبي من اسطنبول، يقيم الموسيقي السوري مروان برهان، والد المعتقل محمود برهان، في بيت تتراوح مهامه بين المأوى وتعليم الموسيقا للمتعطشين لها.
عناصر المكان في الصالون الذي يتوسط المنزل، آلات موسيقية وترية بمعظمها، ونوتات موسيقية تناثرت هنا وهناك، وصورة للابن البكر محمود (الأخ لشقيقتين)، المغيّب في سجون النظام السوري منذ عام 2013، على أحد الرفوف، مجاورة لكتاب “الرسائل” لمحمود درويش وسميح القاسم.
موسيقا وغياب
“حين أعزف موسيقا سعيدة وأتذكر محمود، أخجل، وأتراجع، وأنكمش، شيء ما في داخلي يسألني علامَ الفرح؟”.
يصف الرجل لعنب بلدي بأسلوبه المتعجل والمشحون بالقلق، الحالة التي خلقها اعتقال ابنه منذ أكثر من تسع سنوات، حين كان طالبًا جامعيًا، فيميل للجمل المقتضبة، ولاختصار الجواب، ليقول بعد صمت، “لا يفارق بالي، لا أنساه لأذكره”.
وحين تستفز مشاعر الأبوّة الأب الموسيقي، يحاول الفصل والتجرّد، والخروج من الإطار الشخصي، والتعامل مع الموسيقا كصانع ورب مهنة حيادي، نائيًا بنفسه عن شجون اللحن، وفق حديثه.
“لا أحب الموسيقا الحزينة، فالموسيقا بالمجمل شجون عامة، (مو ناقصنا)، فحين أنشغل بتنظيف البيت مثلًا أفضّل الاستماع لمقطوعات بيتهوفن، تجذبني الموسيقا أكثر من الأغنية”.
ومع فنجان قهوة سادة ودون هال، تغزّل مروان برهان بالوحدة، نافيًا أي مشاعر ضجر يمكن أن تراوده لقاء إقامته منذ سنوات وحيدًا مع الموسيقا، موضحًا أن ما يدفعه للبقاء في تركيا، بعيدًا عن عائلته التي تقيم في ألمانيا، الأمل بأن يكون قريبًا نسبيًا حين يخرج ابنه من المعتقل، مشددًا على أنه ما كان ليغادر البلاد ويترك ابنه لوحده فيها، لولا أنه صار مطلوبًا للأفرع الأمنية هو الآخر بسبب معارضته للنظام، وانخراطه في الحراك السلمي الذي بدأ في سوريا عام 2011.
اعتقلت قوات الأمن التابعة للنظام السوري محمود برهان، في 27 من كانون الثاني عام 2013، وكان حينها طالبًا في كلية الإعلام بجامعة “دمشق”، لتنقطع أخبار الشاب عن عائلته بشكل نهائي منذ أربع سنوات، حين أخبرهم أحد الأشخاص المفرج عنهم من نفس المعتقل، أنه التقاه في فرع “المخابرات الجوية”.
محمود برهان واحد من طلاب كثر جرى اعتقالهم من الكلية نفسها، ولا تزال مصاير بعضهم مجهولة، كما أنه واحد من نحو 133 ألف معتقل لدى قوات النظام السوري، وفق تقديرات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.
“عفو” بالاسم
ورغم إصدار مرسوم “عفو” من قبل رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في 30 من نيسان الماضي، فإن عدد الخارجين من المعتقلات بموجب هذا المرسوم لم يتخطَّ المئات.
وخلال جلسة مجلس الأمن المنعقدة في 29 من حزيران الماضي، طالب ممثلو العديد من الدول بالدفع نحو كشف مصير المختفين قسرًا في سوريا.
كما شكّك ممثلو العديد من الدول، بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا، بجدّية مرسوم “العفو” الذي أصدره النظام في نيسان الماضي، إذ طالب المندوب الأمريكي بعدم استخدامه ذريعة لإعادة اللاجئين، باعتبار أن الظروف غير مواتية لعودة كريمة.
ويستغل النظام السوري المعتقلين ومصايرهم، وفق تحقيق “تجارة الاعتقال في سجون ومعتقلات النظام السوري“، الصادر في حزيران 2021، والذي كشف عن وجود سوق سوداء عرابوها يعملون في الأجهزة الأمنية والقضائية، وتمارس التجارة عبر وسطاء ومحامين، لبيع ذوي المعتقلين معلومات عن معتقليهم، أو حريتهم، وكل بسعره، والأسعار كلها باهظة.
ونفى الأب استجابته لمحاولات الابتزاز التي يتعرض لها ذوو المعتقلين، تحت مسميات ووعود مختلفة خادعة بمجملها، تتحدث عن إخراج المعتقل وإخلاء سبيله، وقال إنه لن يقبل أي عملية من هذا النوع ما لم تكن منوطة بتسليم متبادل للنقود والمعتقل في الوقت نفسه، حتى لا تقع العائلة فريسة لجشع مستغلي معاناتها، وفريسة للأمل أيضًا، ثم الخيبة.
وشكّك أيضًا بجدوى التحركات التي تقام باسم المعتقلين، معتبرًا في الوقت نفسه أن المجتمع الدولي غير مكترث بمصيرهم.
كما ربط الكشف عن مصير المعتقلين وإخلاء سبيل الأحياء منهم، بإزاحة بشار الأسد عن السلطة.
صورة محمود الحاضرة في بيت أبيه، كانت معلّقة بحجم أكبر قبل أشهر ضمن فعالية دعا لها “الاتحاد العام للمعتقلين والمعتقلات”، تحت اسم “حق كشف المصير”، في 26 من حزيران الماضي.
موسيقا أقل
منح مروان برهان ثلثي منزله المكوّن من ثلاث غرف لتعليم الموسيقا، جاعلًا من غرفتين معهدًا لتعليم الطلاب على آلات العود والجيتار والبزق والكمان، ومكتفيًا لنفسه بغرفة واحدة، على اعتبار أنه يقيم وحده.
يشاركه في التعليم بعض الأساتذة، وفق الحاجة، كون “السوق داقر”، وحالة الغلاء التي طالت مختلف مناحي الحياة في تركيا على مدار الأشهر الاخيرة، لم تسلم منها الموسيقا.
وبعدما كان بيت برهان في الطابق الرابع، ارتفع طابقًا آخر، تماشيًا مع ارتفاع الإيجارات، من ألف و150 ليرة تركية، إلى ألف و250، ثم إلى ألفين و500 ليرة، دفعة واحدة، قبل أن يطلب صاحب البيت المنزل.
بورصة الإيجار هذه أخذت الرجل إلى طابق أعلى وإيجار أعلى أيضًا، باعتبار أن إيجار المنزل الجديد يبلغ أربعة آلاف ليرة تركية.
ويتراوح المستوى التعليمي الذي يمتد لشهرين، برسوم ألف و800 ليرة، بين 16 و20 درسًا تبلغ مدة الواحد منها ساعة من الزمن.
مروان برهان أوضح أن حركة الدورات الموسيقية متعثرة هذا العام، بسبب الأوضاع الاقتصادية في تركيا، فما بقي من مجموعة طلاب جيدة هم أربعة فقط، من جنسيات عربية مختلفة، يتناوب على تعليمهم ثلاثة أساتذة، وفق الحاجة.
وتتأثر تركيا بمجموعة متغيرات اقتصادية أرخت بظلالها على الوضع المعيشي للمقيمين فيها، كارتفاع أسعار السلع وأجور المواصلات والمنازل، يقابل ذلك انخفاض في قيمة العملة المحلية أمام الدولار، والتي تبلغ نحو 18 ليرة، دون استبعاد أن تصل نهاية العام الحالي إلى ما بين 22 و24 ليرة تركية للدولار الأمريكي الواحد.
“من قلبنا عم نعطي الشغلة”، هكذا علّق على الآلية التي يتبعها لتعليم الموسيقا، مؤكدًا أن الدرس الأول دائمًا مجاني، لاكتشاف الميل الموسيقي للطالب، وتحديد الآلة التي ينجذب إليها دون غيرها.
يعزف مروان برهان على آلتي العود والجيتار، ويجيد تعليم المستوى الأول على “البيانو”، كما شارك في إعداد المسرحيات والمهرجانات الموسيقية للأطفال في تسعينيات القرن الماضي، ويعلّم طلابه العزف على العود بمختلف المستويات، إلى جانب المستويين، الأول والثاني، على آلة الجيتار “كلاسيك وعام”.
وفي حديثه إلى عنب بلدي، سرد الكثير من قصص الأغنيات القديمة وآلية تلحينها وإدخال الشرقي الحزين على ما هو غربي، لكنه في الوقت نفسه ميّال لإيقاع الموسيقا الكلاسيكية الغربية على اعتبار أن التعبير عن حالة الحزن فيها يأخذ منحى مختلفًا، ربما بما لا يزيد على الأب غصة الانتظار والفراق.
–
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :