من بين مجموعة من العمال داخل إحدى ورشات صناعة الملابس في اسطنبول، يجلس محمد منذ الثامنة صباحًا على ماكينة درز القماش، يحرك يديه كما اعتاد أن يفعل على مدار السنوات الثماني الأخيرة، لكن عقله بقي في مدينة الباب شرقي حلب، حيث تقيم خطيبته التي يعجز عن إدخالها إلى تركيا، بسبب عدم وضوح مصير إقامته في البلاد.
ومع التفكير اليومي بالطريقة التي يجب اتباعها لإتمام زواجه، وإحضار زوجته إلى تركيا، يعيش محمد خوفًا مستمرًا مما اعتبره “مستقبلًا مجهولًا”، فحاله كحال سائر السوريين في تركيا، بحسب ما قاله لعنب بلدي.
لما بعد الانتخابات
بعيدًا عن منطقية ربط حياة السوريين بالانتخابات وصحته من صوابه، إلا أن شريحة واسعة من حاملي بطاقة “الحماية المؤقتة” (الكملك) من السوريين المقيمين في تركيا، يؤجلون مشاريع وخططًا لما بعد الانتخابات التي يرونها “نقطة تحول مصيرية” حول استقرارهم في هذا البلد، بحسب استطلاع رأي أجرته عنب بلدي، شمل آراء 12 شخصًا من العاملين في الورشات والمعامل بمدينة اسطنبول.
محمد العبود شاب ثلاثيني، ينحدر من مدينة الباب بريف حلب، مقيم في تركيا منذ نحو ثماني سنوات، ويعمل بإحدى ورشات الخياطة، قال لعنب بلدي، إنه ينتظر اليوم “ولو رائحة استقرار في تركيا”، ليتمكّن من إحضار خطيبته من سوريا.
لكن الخطاب السياسي خلال مرحلة الترويج للانتخابات في تركيا، قائم على “من سيرحّل السوريين أولًا”، بحسب محمد، ما يجعل الشعور بالاستقرار أمرًا شبه مستحيل خلال الأشهر المقبلة.
وتبلغ تكلفة العبور من سوريا إلى تركيا أكثر من ألفي دولار، وهو ليس بمبلغ قليل بالنسبة إلى شخص يعمل في ورشات صناعة الملابس، بالتالي فإن إحضار خطيبته إلى تركيا لواقع مجهول يعتبر مغامرة، حسب رأيه.
قال محمد، إنه ورغم إقامته في البلاد لسنوات طويلة، بات منذ مطلع عام 2021 يشعر بأنه سيجري ترحيله في أي لحظة، ما تركه في حالة قلق وعدم طمأنينة، نظرًا إلى ما تشهده البلاد من ارتفاع في الخطاب العنصري.
المنطقة التي يقيم فيها تعتبر من المناطق المكتظة بالمعامل والورشات، ونسبة العمال فيها كبيرة، وهو ما ينعكس اليوم على شوارع منطقة تشاغليان في اسطنبول، فلا يمكن عبور شارع واحد دون رؤية دوريات ونقاط تفتيش لشرطة المنطقة، بحثًا عن لاجئين غير شرعيين.
مشاريع مؤجلة
مجموعة من الشباب، ممن قابلتهم عنب بلدي، تحدثوا حول مشاريعهم المؤجلة، فلدى معظمهم خطط لافتتاح أعمال خاصة، ومنهم من كان ينوي تغيير مكان عمله بحثًا عن مكان أكثر راحة، أو مجال أكثر ربحًا.
لكن معظمهم، أيضًا، ربط إمكانية تغيير مجال عمله، أو افتتاح مشروعه الخاص، بنتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة في تركيا، التي “على الأقل” يمكن أن يبني الفرد بموجبها خططًا لما سيفعله مستقبلًا.
وعن الأطراف المشاركة في الانتخابات وتوجهاتها ومن سيفوز، أجاب معظم المشاركين في الاستطلاع، أنهم غير مهتمين فعليًا بنتائجها، كما لم يبدِ معظمهم معرفة كاملة بأطرافها، إنما تركز اهتمامهم على تأثيرها على وجودهم في البلاد.
محمد كان يخطط لافتتاح ورشة خاصة به لصناعة الملابس، وبدأ مشروعه الخاص بعد أن عمل موظفًا بين ورشات منطقة تشاغليان لأكثر من سبع سنوات، لكنه اعتبر في الوقت نفسه أن افتتاح مشروع في هذا الوقت يعتبر مغامرة.
وأضاف أن أسعار مستلزمات مشروعه قد تصل حتى 200 ألف ليرة تركية (نحو 11 ألف دولار أمريكي)، وهو ما لا يمكن المغامرة به اليوم، إذ يعتبر محمد أنه يمكن أن يجري ترحيله من تركيا في أي لحظة، دون إتاحة المجال له لإحضار حتى ملابسه من المنزل، حسب قوله.
حالات الترحيل القسري تكررت في تركيا تحت مسمى “العودة الطوعية”، منها حالات أُجبر الفرد فيها على توقيع أوراق “العودة الطوعية” بالإكراه، وتحت التهديد والضرب.
وفي وقت سابق من العام الحالي، أعادت مديرية إدارة الهجرة في محافظة أضنة 19 سوريًا من أصل 20 شخصًا إلى بلدهم، على خلفية ظهورهم في تسجيل مصوّر على مواقع التواصل الاجتماعي، حاملين أسلحة بيضاء.
للبعض آراء أخرى
رغم التضييق في القوانين الذي تشهده البلاد تجاه اللاجئين، وحالة العداء التي خلّفها الخطاب السياسي ضد الأجانب في تركيا، لا يزال البعض مصممًا على الخروج من سوريا باتجاه في تركيا.
رصدت عنب بلدي، خلال الأيام الأخيرة، نقاشات عبر مجموعات الخدمات للسوريين في تركيا، لبعض الأشخاص وهم يسألون عن طرق التهريب إلى تركيا بغية الاستقرار فيها.
إلا أن معظم النشاء المشاركات في هذه النقاشات حاولن إقناع أحد الأشخاص بتأجيل مشروعه لما بعد الانتخابات التركية، ومن العبارات التي تكررت بين التعليقات، “انتظر ربما نحن سنأتي”.
بينما يرى بعض من المقيمين في سوريا، أنه حتى إن وصلت حالة عدم الاستقرار في تركيا إلى حدودها القصوى، تبقى أفضل من الوضع المعيشي والأمني في سوريا، إضافة إلى الحالة الخدمية المتردية في الشمال السوري، والفقر المنتشر بين طبقات المجتمع.
وفي أيار الماضي، أصدر فريق “منسقو استجابة سوريا” بيانًا حول مؤشر حد الجوع والفقر، والتكاليف الاقتصادية للعائلات في شمال غربي سوريا.
وبحسب الفريق، بلغت نسبة العائلات القابعة تحت حد الفقر 84%، وفقًا للأسعار الأساسية وموارد الدخل.
ونسبة العائلات الواقعة تحت حد الجوع 36% من إجمالي العائلات الواقعة تحت خط الفقر، وذلك لعدة اعتبارات بينها عدد أفراد العائلة العاملين، وأسعار الصرف المتغيرة.
برامج الأحزاب
يعتبر ملف اللاجئين السوريين في تركيا أحد أكثر الملفات الحاضرة خلال الترويج للحملات الانتخابية الرئاسية في تركيا، وهو ما أدى مع مرور الوقت إلى تضييق قانوني على حياتهم، مسببًا حالة عدم استقرار.
هذا الخطاب السياسي بات موسميًا، يتصاعد وينخفض مع أي انتخابات تشهدها البلاد حتى على مستوى انتخابات البلديات فيها.
وتعتمد بعض الحملات الانتخابية لأحزاب سياسية في تركيا على مشروع ترحيل اللاجئين السوريين، لا شيء سواه، وهو ما انعكس على حالة الشعور بعدم الاستقرار بالنسبة للاجئين.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية التركية، التي ستنطلق في حزيران 2023، غادر الآلاف من السوريين هذا البلد، منهم إلى بلدان عربية، وقسم آخر اتجه نحو أوروبا عبر خطوط التهريب والطرق غير الشرعية.
وتتضارب آراء الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات حيال مسألة اللاجئين والعلاقة مع سوريا، إذ يؤيد عدد منها التطبيع مع النظام السوري، وتعتبر قضية إعادة اللاجئين السوريين من أولوياته، مثل حزب “الشعب الجمهوري” (GHP)، وحزب “الجيّد” (IYI Partisi)، ومؤخرًا حزب “الوطن” (Vatan Partisi).
بينما بدأ حزب “العدالة والتنمية” (AKP) الحاكم في تركيا برنامجه للتقارب مع النظام السوري منذ عدة أشهر، وبات هذا التوجه بشكل معلَن، استنادًا إلى ما ورد على لسان نائب رئيس الحزب، حياتي يازجي، عندما صرح بأن العلاقات مع النظام السوري يمكن أن تصبح “مباشرة”، وأن يرتفع مستوى تمثيلها، بحسب ما نقلته قناة “aHaber” التركية في آب الماضي.
وفي منتصف أيلول الحالي، نقلت وكالة “رويترز” للأنباء، خبرًا مفاده أن رئيس جهاز المخابرات التركي، هاكان فيدان، التقى مدير مكتب “الأمن الوطني” لدى النظام السوري، علي مملوك، في دمشق، وفق “مصدر إقليمي موالٍ لدمشق” لم تسمِّه.
–