جنى العيسى | حسن إبراهيم
بعد أكثر من 13 عامًا على آخر إصابة بمرض “الكوليرا” سُجلت على الأراضي السورية في عام 2009، عاد المرض للانتشار مطلع أيلول الحالي، وسط ظروف بدت “مواتية جدًا” لانتشار الجراثيم المسببة له.
ومع تأكيد عدد من الإصابات بالمرض، على امتداد نهر “الفرات” في أرياف حلب والحسكة ودير الزور، أكدت عدة جهات محلية وأممية، أن السبب الرئيس لانتشار المرض في المنطقة، هو انخفاض مستوى النهر ومياه الصرف الصحي التي تصب فيه، فضلًا عن سقاية المزروعات بها.
وفي بلد استنزفت الحرب جميع قطاعاته، وأبرزها الطبي، بدت المخاوف “كبيرة” من انتشار المرض، وصولًا إلى “السيناريو الأسوأ”، وأثره على السكان في ظل ضعف الإمكانيات وتراجع أعداد الكوادر الطبية المتخصصة في عموم الجغرافيا السورية.
ليس في الأفق ما يشير إلى تمكّن الجهات ذات العلاقة من إيجاد حلول دائمة تمنع انتشار المرض، أو تطور الحالة لتصبح وباء أو جائحة تهدد حتى دول الجوار، بينما اقتصرت الإجراءات الإسعافية على نصائح الوقاية أولًا، ثم حلول مؤقتة “أملًا” بتراجع أعداد الإصابات.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف، مدى الانتشار الحالي لمرض “الكوليرا” في سوريا، وأسبابه، وآفاق الانتشار، بالإضافة إلى طبيعة الإجراءات المتخذة لاستيعاب المرض، أو محاولات وقف أسبابه من قبل الجهات المحلية أو الأممية العاملة في المنطقة.
من سوريا.. “الكوليرا” لا تعرف الحدود
بحسب أحدث إحصائية صادرة عن برنامج الإنذار المبكر والاستجابة للأوبئة (EWARN) في سوريا، حتى مساء السبت 24 من أيلول الحالي، وصل عدد الإصابات بمرض الكوليرا في مناطق شمال شرقي سوريا إلى ألفين و821 إصابة، بينما بلغ عدد الوفيات نتيجة الإصابة بالمرض 15 حالة وفاة.
وفي مناطق شمال غربي سوريا، سُجلت إصابة واحدة منذ بدء انتشار المرض، بحسب البيانات الصادرة عن البرنامج.
بينما أعلنت وزارة الصحة في حكومة النظام السوري بأحدث بياناتها، في 20 من أيلول الحالي، وصول عدد الإصابات المثبتة بمرض “الكوليرا” في المناطق الخاضعة لسيطرتها إلى 253 إصابة، معظمها في محافظة حلب، بينما بلغ عدد الوفيات الناتجة عن الإصابة بالمرض 23 حالة وفاة، 20 حالة منها في حلب أيضًا.
الكوليرا (Cholera) أو الهَيْضَة، هي عدوى جرثومية خطيرة تصيب الجهاز الهضمي، وتسببها الجرثومة سلبية الغرام ضَمّة الكوليرا (Vibrio cholerae)، ولكي تحدث العدوى، لا بد من دخول عدد كبير من الجراثيم إلى الجسم، وبعد وصولها إلى المعدة يتمكّن حمض المعدة من قتل أعداد كبيرة منها، ولكن قد تصل بعضها إلى الأمعاء الدقيقة، حيث تنمو وتنتج الذيفان الذي يدفع الأمعاء الدقيقة إلى طرح كميات هائلة من الملح والماء يفقدها الجسم على شكل إسهال مائي، وتبقى الجراثيم في الأمعاء الدقيقة ولا تغزو الأنسجة.
يمكن أن تسبب الكوليرا إسهالًا شديدًا وإقياء، وقد يفقد المصاب ما يصل إلى ليتر من السوائل كل ساعة، فتتحول الإصابة بسرعة إلى مرض قاتل نتيجة نقص السوائل، إذا قد يحدث هبوط ضغط الدم في غضون ساعة من بداية ظهور أعراض المرض، وقد يموت المصاب في غضون ثلاث ساعات إذا لم يتم تقديم العلاج الطبي. |
وبحسب بيان صادر عن منظمة الصحة العالمية، في 21 من أيلول الحالي، يطلق على انتشار مرض “الكوليرا” حاليًا مصطلح “التفشي”، كونه ينحصر في سوريا فقط.
وخلال مؤتمر صحفي حضرته عنب بلدي، قالت ممثلة منظمة الصحة العالمية في سوريا، الدكتورة إيمان الشنقيطي، إن الأمراض المعدية لا تعرف الحدود وقد تنتشر في كل مكان، ما من شخص محمي منها، وهذا ما أثبتته جائحة فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) خلال العامين الماضيين.
ما الفرق بين التفشي والوباء والجائحة؟
بحسب تصنيف منظمة الصحة العالمية لمصطلحات انتشار الأمراض المعدية، يصنف المرض على أنه حالة تفشٍّ عندما تتجاوز أعداد الإصابة به العدد المتوقع عادة، في هذه الحالة لا يوجد رقم محدد لأعداد الإصابات، إذ يختلف ذلك بحسب أسباب المرض، وحجم ونوع التعرض السابق للأسباب.
بينما تعرف المنظمة الوباء، بأنه حدوث حالات مرض في مجتمع أو منطقة معيّنة، أو سلوك معيّن يتعلق بالصحة، يتجاوز بشكل واضح التوقعات الطبيعية.
ولا يعتبر الفرق بين التفشي أو الوباء واضحًا جدًا، بحسب المنظمة، لكن يُستخدم مصطلح التفشي عادة عندما تحدث الأمراض في منطقة جغرافية محدودة، بينما إذا انتشر المرض بسرعة إلى عدد أكبر مما يتوقع الخبراء، وانتقل إلى منطقة جغرافية كبيرة، فغالبًا ما يطلق عليه وباء.
بينما يطلق مصطلح الجائحة على انتشار مرض ما، عندما ينتشر الوباء في جميع أنحاء العالم، أو على مساحة واسعة جدًا، ويتخطى حدود دولة ما، ويصاب به عدد كبير من الناس.
“الكوليرا” قد تستوطن في سوريا
الاستشارية بالأمراض المعدية في لندن ورئيسة شبكة الصحة العامة السورية، الدكتورة علا عبارة، قالت عبر مراسلة إلكترونية مع عنب بلدي، إنه نظرًا إلى الوضع السيئ فيما يتعلق بالمياه في سوريا بسبب الصراع والجفاف وقلة هطول الأمطار، والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية للمياه، فإن هذا يدفع للقلق من تحول مرض “الكوليرا” إلى وباء، وقد يمتد إلى ما وراء حدود سوريا.
وأضافت عبارة أن الظروف المرتبطة بالنزاع المسلح في سوريا، والتهجير القسري لملايين الأشخاص، والأضرار التي تلحق بالمياه والكهرباء، واستهداف المرافق الصحية، وتوقف محطات معالجة المياه، تسهم في تفاقم الوضع الصحي الذي يمكن أن يؤدي إلى الوصول لحالة الوباء.
مدير برنامج اللقاح بـ”وحدة تنسيق الدعم” في سوريا، الحاصل على شهادة الماجستير بتخصص الصحة العالمية والسياسات الصحية، الدكتور محمد سالم، قال بدوره، إن سوريا تواجه اليوم “موجة كبيرة” من “فاشية الكوليرا”، مضيفًا أنه مع استمرار انتشار العدوى وانتقالها إلى مناطق جديدة، سيزداد الوضع سوءًا.
وأوضح سالم، في مراسلة إلكترونية لعنب بلدي، أنه في ظل المعطيات الحالية للبنى التحتية، من المتوقع أن نكون أمام حالة “استيطان للكوليرا” في سوريا، أي من الممكن أن يتحول إلى مرض “متوطن”.
ما المرض “المتوطن” (Endemic disease)يعرف المرض “المتوطن” في علم الأوبئة، بأنه الحالة التي يكون فيها تفشي المرض وبائيًا، وموجودًا باستمرار، لكنه يقتصر على منطقة معينة، إذ إن هذا يجعل المرض ينتشر ومعدلاته متوقعة. ووفقًا للطبيب محمد سالم، فإن الفئات الأكثر تأثرًا بالمرض في حالة “استيطانه”، هم أصحاب الأمراض المزمنة، والمصابون بسوء التغذية، وتكون نسبة الوفيات أكبر بينهم، مضيفًا أن معظم أطفال سوريا يعانون سوء التغذية. |
من فتح الباب لـ”الكوليرا”؟
خلال السنوات الماضية، شهدت العديد من المدن والبلدات السورية باختلاف القوى والجهات المسيطرة عليها أزمة في مياه الشرب، جراء تلوث ورداءة أنابيب نقل المياه، واختلاط بعض مياه الشرب بمياه الصرف الصحي، عدا عن تعرّض البنية التحتية لشبكات المياه لدمار وتلف وضعها خارج الخدمة.
وأسفرت أزمات المياه عن أضرار جمّة، بدأت بالسكان الذين تعرضوا للعديد من الأمراض والأوبئة، ولحقت الأضرار بالمزروعات والحيوانات، إذ يعتمد الكثيرون داخل سوريا على مصادر مياه غير نظيفة، ما قد يؤدي إلى انتشار الأمراض الخطيرة التي تنقلها المياه الملوثة، إضافة إلى نقص وشح المياه، الأمر الذي يجبر الأهالي على اللجوء إلى آليات وحلول غير خاضعة لأدنى مقومات الرقابة والأمان.
كيف تحدث العدوى بـ”الكوليرا”؟
بمجرد الإصابة بالعدوى يطرح المريض الجراثيم في برازه لمدة 7- 14 يومًا، وهكذا يمكن للعدوى أن تنتشر بسرعة، ويمكن أن تبقى الجراثيم موجودة لدى عدد قليل من المرضى إلى أجل غير مسمّى دون أن تسبب أي أعراض، ويسمى هؤلاء الأشخاص بحاملي العدوى.
وأهم طرق انتقال العدوى:
· الأغذية أو المياه (مياه الشرب أو الاستخدام) الملوثة بفضلات المصاب.
· الخضراوات المروية بمياه الصرف الصحي.
· الأسماك والمأكولات البحرية النيئة أو غير المطبوخة جيدًا التي يتم صيدها في المياه الملوثة بمياه الصرف الصحي.
· ملامسة الأسطح الملوثة، خاصة في دورات المياه المشتركة.
· الاحتكاك المباشر بالمصاب، واستخدام أدواته الشخصية.
وهناك عوامل تزيد من خطر انتشار المرض:
· الظروف المعيشية المكتظة والمجتمعات المزدحمة، عندما لا يمكن للأشخاص الوصول إلى المياه النظيفة، ولا تتوفر عملية جمع النفايات، ولا تتوفر المراحيض المناسبة، لذلك تمثّل “الكوليرا” خطرًا جسيمًا في أعقاب كارثة طبيعية أو في أثناء الحروب والصراعات المسلحة، بسبب تدمير البنية التحتية أو نقص الخدمات العامة أو نزوح السكان وتجمعهم في مخيمات.
· استخدام مياه الصرف الصحي لري الأراضي وسقاية المزروعات.
· مياه الصرف الصحي التي تصب في الأنهار والبحيرات والبرك.
· غياب شبكات الصرف الصحي أو عدم صيانتها وتسرب المياه منها إلى شبكات مياه الشرب.
مياه ملوثة.. أمثلة “غيض من فيض”
لا تعتبر مشكلة تلوث المياه في سوريا جديدة، لكنها لم تترافق خلال السنوات الماضية مع حلول حكومية للحفاظ على صحة السكان، ونظافة المزروعات من التلوث، وتكررت، مؤخرًا، حالات تلوث مصادر المياه، كما أثبتت تحاليل أُجريت على مياه نهر “الفرات” وجود “ضمة الهيضة” (الكوليرا) المسؤولة عن مرض “الكوليرا”.
ونتيجة لانحسار المياه في نهر “الفرات”، تحولت الكثير من مناطقه إلى “مستنقعات”، فضلًا عن تلوث الخضراوات المروية بمياهه بالجراثيم، وفق ما أعلن عنه الرئيس المشترك لـ”هيئة الصحة” في “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا، جوان مصطفى، خلال مؤتمر صحفي عقده في 21 من أيلول الحالي.
وفي آب الماضي، تصاعدت حدة الشكاوى والتجاذبات بسبب حالة الفوضى والتلوث التي خلّفتها إعادة تشغيل معمل سكر تل سلحب، في ريف محافظة حماة، جراء الآثار السلبية التي يخلّفها المعمل على القطاعين الزراعي والحيواني المرتبط بالثروة السمكية.
وأدت مياه المعمل التي تصب في نهر “العاصي” إلى نفوق كميات كبيرة من الأسماك، وتلف المزروعات التي تُسقى بمياه النهر، وقوبلت الحادثة بتجاهل حكومة النظام، ورد من قبل مدير الإنتاج النباتي في الهيئة العامة لإدارة تطوير الغاب، وفيق زروف، بأن فترة التصنيع في المعمل مستمرة.
وفي كانون الثاني الماضي، تلوثت مياه نهر “العاصي” نتيجة رمي مخلّفات الصرف الصحي ونفايات المنشآت الصناعية والصناعات المتوسطة الواقعة على النهر، مثل معمل “الأسمدة” ومصفاة “حمص”، وفق ما أعلن عنه حينها مدير البيئة في محافظة حمص، طلال العلي.
ويلجأ المزارعون في منطقة الغوطة الشرقية إلى سقاية مزروعاتهم من مياه الصرف الصحي، نظرًا إلى عدم توفر وسائل السقاية التي تؤمّن المياه النظيفة، بعلم وزارة الزراعة في حكومة النظام السوري، إذ بررها مدير الزراعة في ريف دمشق، عرفان زيادة، في حزيران 2021، بقوله إن بعض الفلاحين يستخدمون أحيانًا “مياهًا مخلوطة” بالصرف الصحي، بسبب تضرر أعداد كبيرة من الآبار التي كان يُعتمد عليها في تأمين وسائل السقاية غير الملوثة.
وفي تشرين الأول 2021، شهدت العاصمة دمشق 1200 حالة تسمم جراء تلوث المياه في مناطق مساكن نجها، وخربة الورد، ومساكن الشرطة، بريف دمشق، بسبب وجود منهل مياه خاص ملوّث في خربة الورد، إذ تعمل السيارات الجوالة على تعبئة الماء منه وبيعها للمواطنين، وفق ما أعلن عنه مدير الصحة في محافظة دمشق، الدكتور ياسين نعنوس.
وتعاني مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا انقطاع مياه الشرب لفترات متقطعة، ما أجبر الناس على البحث عن حلول بديلة لنقل المياه عبر شاحنات غير خاضعة للرقابة.
الأمراض ليست مفاجئة.. المياه سلاح حرب
تتصاعد المخاوف من انتشار مرض “الكوليرا”، وازدياد خطر تفشيه في سوريا بعدة مناسبات، إذ لا تزال مصادر المياه ملوثة في عدد من المناطق.
الاستشارية بالأمراض المعدية في لندن ورئيسة شبكة الصحة العامة السورية، الدكتورة علا عبارة، قالت لعنب بلدي، إن الأراضي السورية تخضع، حاليًا، لجهات سيطرة إقليمية مختلفة، وأدى ذلك إلى إهمال البنية التحتية للمياه وجودتها، مشيرة إلى أن معالجة المياه والصرف الصحي في سوريا أمر ضروري.
وأوضحت عبارة أن تفشي الأمراض المعدية المتعلقة بالمياه في سوريا ليس مفاجئًا، مشيرة إلى وجود تخطيط ضعيف مع الاستغلال المفرط للمياه الجوفية، حتى قبل اندلاع الحرب في سوريا، وهو ما يترافق مع حدوث الجفاف وتأخر وقلة هطول الأمطار في فصل الشتاء، وموجات الحر، وتلوث المياه، وتوقف محطات المياه، وجميع هذه الظروف أثرت على جودة المياه ووفرتها.
واتفقت الباحثة المختصة في الأمن الصحي والعلاقات الدولية بجامعة “أكسفورد” سلمى الداودي مع الدكتورة عبارة، على أن السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تعرفه سوريا حاليًا، أسهم بشكل شبه حتمي في التدهور البيئي الذي عمل على انتشار مرض “الكوليرا”.
وما يفسر عدم اتخاذ السلطات إجراءات أو تدابير وقائية، هو نقص القدرات والتجهيزات من جهة، وانعدام الإرادة السياسية من جهة أخرى، وفق الباحثة الداودي، إذ عرفت سوريا هيدرولوجية تغييرات عميقة على مدى العقود بسبب سوء الإدارة، وتغير المناخ، واستخدام المياه المكثفة، والمنافسة المتزايدة للمياه عبر الحدود الدولية، إذ إن الاستغلال المفرط واستنزاف موارد المياه العذبة، وتلوث المياه عن طريق الزئبق والرصاص، كلها أسباب أدت إلى تدهور بيئي تصعب معالجته.
وأضافت الباحثة المختصة في الأمن الصحي والعلاقات الدولية بجامعة “أكسفورد”، أنه تم استخدام الماء كسلاح حرب في ذروة النزاع، واستُهدفت أنظمة المياه عن عمد بشكل مستمر، ولم يتم تنفيذ الصيانة المناسبة، وفي بعض الحالات، فقدت المرافق ما بين 30 و40٪ من الموظفين التقنيين والمهندسين الضروريين المسؤولين عن الحفاظ على عمل النظم، سواء من خلال الوفاة أو الإصابة أو النزوح القسري أو السجن.
“استخدام المياه كسلاح لاستعادة السيطرة على المناطق، يتم اليوم كأداة سياسية للضغط على الشعب السوري، وكذلك مكافأة لموالي النظام من خلال إعادة إعمار مسيّسة في المناطق التي يحتفظ بها النظام”.
الباحثة المختصة في الأمن الصحي والعلاقات الدولية بجامعة “أكسفورد” سلمى الداودي |
السلطات تتأخر عن إعلان المرض.. الأسباب “سيادية”
لم تعلن السلطات في سوريا، سواء حكومة النظام أو “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا، انتشار مرض “الكوليرا” أو تسجيل إصابات به في مناطق سيطرتها إلا بعد عدة أيام على تداول أخبار المرض بشكل غير رسمي بين السكان، أو عن طريق تسريبات لأشخاص عاملين في المستشفيات.
الدكتورة السورية المختصة بالأمراض المعدية علا عبارة، اعتبرت أن تعامل السلطات بهذا الشكل، يمكن أن يحدث في العديد من البلدان، حيث لا تريد السلطات الإعلان عن تفشي المرض، خشية التداعيات السياسية والتأثير على السكان، وبالإضافة إلى ذلك، قد يجعل التنسيق الضعيف بين العديد من السلطات العاملة في سوريا الإعلان عن انتشار المرض صعبًا أكثر من اللازم.
وأكدت عبارة أن القلق من التأخير في إعلان تفشي المرض، قد يؤدي إلى تأخير في تنشيط قدرة المنظمات القادرة على الاستجابة بسرعة، ما ينتج عنه مزيد من انتشار المرض، ولا سيما في المناطق التي تكون فيها المياه والصرف الصحي سيئة، مضيفة أنه كلما أعلنت السلطات تفشي المرض بشكل أسرع، كان من الممكن تفعيل الاستجابة لذلك أسرع، ما يعني فرصة لوقف الانتشار.
واعتبرت عبارة أن قطاع الصحة العامة كان ضعيفًا في سوريا قبل عام 2011، وعلى الرغم من إنشاء أنظمة المراقبة التي تعد خطوة مهمة، وهي التي بدورها تمكنت من اكتشاف الحالات، لا تزال استجابة الصحة العامة تتأثر بالنظام الصحي المجزأ في سوريا، حيث تقع مناطق جغرافية مختلفة تحت جهات مختلفة من السيطرة السياسية، وهذا بدوره يؤثر سلبًا على إدارة تفشي الأمراض، كون الأمراض المعدية لا تحترم الحدود الإقليمية أو القطرية.
من جهتها، قالت الباحثة الداودي، إن تسييس الصحة واستخدامها كسلاح حرب من قبل مختلف الجهات الفاعلة، كاستهداف المستشفيات وسيارات الإسعاف والعاملين الصحيين بشكل متكرر، أدى إلى ضعف شديد في القدرات الصحية، وخلق حوكمة صحية مجزأة سياسيًا، أصبحت بالتالي مجالًا للتنافس وكسب السيادة.
واعتبرت الداودي أن الفشل في احتواء اندلاع الأوبئة يشكّك بشكل مباشر في السيادة والشرعية للنظام، وقدرته على ممارسة السيطرة الكاملة، ويكشف إخفاقاته، ما يخلق رغبة في إخفاء المدى الحقيقي لانتشار مرض معيّن، فمثلًا خلال انتشار فيروس “كورونا”، كانت هناك تقارير عديدة عن نقص كبير في الإعلان عن الحالات، بسبب قدرات محدودة على الاختبار، وأيضًا بسبب الافتقار إلى الإرادة السياسية.
وترى الداودي أن النظام السوري يستخدم نفس المنطق الاستراتيجي السياسي مع تفشي “الكوليرا”، إذ يخشى إظهار ضعفه الاقتصادي والسياسي، وعدم قدرته على توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية، مثل المياه والرعاية الصحية للسكان، كما أن انتشار “الكوليرا” يتناقض مع ما يعلنه النظام السوري حول كون سوريا آمنة للعودة.
وبحسب الباحثة، يخشى النظام معرفة المجتمع الدولي بإمكانية تفشي الوباء خارج الحدود السورية، بسبب التدابير الصارمة التي قد تتخذها الدول الأخرى للحد من الوباء، والتي قد تكون لها تأثيرات اقتصادية سلبية، فالاستجابة لتفشي المرض تفرض تكاليف لا يمكن للنظام أن يتحملها مع استمرار مواجهة اقتصاد متدهور.
إمكانيات “دون المستوى”
واقع طبي يعاني.. العراقيل موجودة
نال القطاع الطبي في سوريا نصيبه من القصف والدمار والاعتداءات كغيره من القطاعات الأخرى، ويعاني القطاع الطبي في سوريا نقص المستلزمات والموارد الطبية، وانخفاض الأجور في ظل الأوضاع التي تعيشها البلاد، عدا عن استهداف مباشر للكوادر الطبية في مختلف المناطق السورية، واستهداف البنية التحتية للمنشآت الطبية.
مع كل انتشار أو تفشٍّ لأمراض وأوبئة نتيجة عوامل مختلفة، تناشد العديد من المنظمات والجهات المحلية، الجهات الخارجية والمنظمات الطبية والإنسانية لتوفير أدنى مقومات العلاج، وسط انعدام حلول دائمة، وغياب حلول إسعافية أو مؤقتة من قبل السلطات المسيطرة على مختلف المناطق في سوريا.
في 19 من أيلول الحالي، أعلنت منظمة الصحة العالمية (WHO) عن تسليم وزارة الصحة بحكومة النظام السوري معدات طبية لدعم الاستجابة لتفشي مرض “الكوليرا” في سوريا، على متن طائرة كاملة هبطت في دمشق.
وقالت المنظمة، إن شحنة المعدات تضمنت أدوية على شكل محلول يعالج الجفاف عن طريق الفم، بالإضافة إلى اختبارات تشخيصية سريعة، موضحة أن هذه المعدات تكفي لعلاج ألفي حالة إصابة حادة بـ”الكوليرا”، ونحو 190 ألف حالة إسهال خفيف.
وأعلن المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية، أحمد المنظري، في مقابلة أجراها مع وكالة “أسوشيتد برس” خلال زيارته إلى دمشق، بنفس يوم وصول الشحنة، عن مساعدات أخرى عبر طائرة تحمل نحو 30 طنًا من المعدات الطبية، دون الإعلان عن وصولها حتى لحظة إعداد هذا الملف.
وأضاف المنظري أن المعدات ستوزع بـ”التساوي حسب الاحتياجات” على عموم سوريا، بما في ذلك شمال غربي سوريا حيث تسيطر المعارضة، ومناطق شمال شرقي سوريا حيث تسيطر “الإدارة الذاتية”.
المنظري الذي نبه إلى ضرورة الاستعداد لـ”السيناريو الأسوأ”، سبق أن التقى، في 19 من أيلول الحالي، رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بهدف “تحسين واقع الاستجابة الصحية سواء من حيث مكافحة الأوبئة والأمراض، أو الدعم التقني بالتجهيزات والمعدات الطبية”، بحسب ما نقله حساب “رئاسة الجمهورية” في “فيس بوك”.
وخلال مؤتمر صحفي لمنظمة الصحة العالمية حول تفشي حالات الإصابة بمرض “الكوليرا” في سوريا من مكتبها بدمشق، في 21 من أيلول الحالي، حضرته عنب بلدي افتراضيًا، قال المنظري، إن الواقع الأليم هو “أننا لا نستطيع ضمان صحة الأبرياء لأن هناك عوامل أخرى تعوقنا”.
وذكر المنظري أن العوائق التي تؤثر في الصحة العامة، هي انعدام الأمن السياسي، والعقوبات المفروضة على سوريا، وعدم الاستقرار الاقتصادي، ونقص الوقود والمياه والكهرباء، مشيرًا إلى أنه في حال عدم مواجهة جذور هذه الأزمة الصحية، فإن قدرة المنظمة على التصرف ستظل محدودة.
وأضاف أن ضمان الصحة والعافية لكل سوري هدف يتجاوز نطاق مسؤولية السلطات الصحية ومنظمة الصحة العالمية، ويتطلب إجراءات تتخذها القطاعات الأخرى.
ولفت المنظري إلى أن جهود المنظمة في سوريا تستند إلى نهج ذي ثلاثة محاور، الأول هو تلبية الاحتياجات العاجلة لأكثر من 12 مليون إنسان بحاجة إلى المساعدة الصحية، والثاني هو إعادة النظام الصحي لأداء وظائفه من خلال دعم جهود تعافي المرافق الصحية وإعادة تأهيلها، وضمان توفر عدد كافٍ من المهنيين الصحيين الأكفاء.
سياسات لمعالجة المشكلة
الحلول “مؤقتة”.. الدائمة تحتاج إلى “حل إقليمي”
ترى الدكتورة علا عبارة أن جميع المنظمات المسؤولة عن المياه والصرف الصحي والبنية التحتية والصحة، بحاجة إلى العمل معًا لضمان وجود مياه كافية بالنوعية والكمية المناسبة للسكان، كأحد الحلول المتاحة، وسط تفشي المرض.
وأضافت عبارة أن هناك حاجة أيضًا إلى معالجة المياه بالكلور لوقف انتشار “الكوليرا” بين السكان، كما يحتاج العاملون في المجال الصحي إلى العمل والتعاون لتحديد المرضى في وقت مبكر، وعزلهم لمنع الانتشار من شخص لآخر من خلال تدابير صارمة للوقاية من العدوى وتعزيز الصحة الجيدة في المجتمعات.
وأشارت الاستشارية عبارة إلى ضرورة وقف استهداف محطات المياه ومنشآت تصفيتها ومعالجتها التي تعرضت للعديد من الأضرار في مختلف مناطق سوريا.
الباحثة بجامعة “أكسفورد” سلمى الداودي طرحت بعض الحلول المتاحة للحد من انتشار المرض في الوقت الحالي، وهي:
1.تعزيز أنظمة المراقبة لتشخيص الحالات وتتبعها.
2.الإعلان عن الحالات الحقيقية المصابة بهذا المرض.
3. التأكد من توزيع المساعدات الإنسانية والإمدادات الطبية في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك شمال شرقي وشمال غربي سوريا، وألا تخضع هذه المساعدات لسيطرة النظام، الذي قد يفرض عراقيل على إيصالها لبعض المناطق، كأداة ضغط يمارسها بحق المعارضين له.
4.تبني سياسات لمعالجة المياه، بما في ذلك معالجة إمدادات المياه بالكلور، وتطهير نقاط ملء المياه.
5. على المجتمع المدني التوعية بأعراض بالمرض، وطرق انتقاله، والتدابير الوقائية التي يجب اتخاذها لتقليل انتشاره.
6.معالجة الأسباب السياسية الجذرية.
“التوافق السياسي” قد يكون حلًا دائمًا
وعن إمكانية إيجاد حلول دائمة للحصول على مياه شرب نظيفة، ومدى تحقيقها في سوريا، ترى الدكتورة علا عبارة، أن هذه الخطوة تحتاج إلى تخطيط دقيق عبر جميع المناطق الجغرافية لرسم خريطة للوصول إلى المياه وتوفرها، مع ضرورة وقف الممارسات التي تضر بالمياه من قبل جميع الأطراف، ومحاسبة من يتسبب في أضرار لمحطات المياه والكهرباء.
ونوّهت عبارة إلى اختلاف كمية مياه الشرب المنقولة بالأنابيب ذات الجودة الكافية، والمتاحة للسكان في جميع أنحاء سوريا باختلاف الموقع الجغرافي، نظرًا إلى تأثيرات النزاع على مناطق مختلفة، مشيرة إلى أن بعض الأشخاص يحصلون في الوقت الحالي على مياه الشرب بوسائل مختلفة، بما في ذلك نقل المياه بالشاحنات (وهو أمر مكلف وغير فعال).
الباحثة سلمى الداودي أوضحت أن هناك عدة مستويات لمعالجة نقص المياه في سوريا، وركّزت على اثنين على وجه الخصوص، الأول تغييرات ملموسة في السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والثاني يعتمد على التعاون الإقليمي.
ويتطلب تأمين مياه الشرب النظيفة إصلاح البنية التحتية للمياه، بما في ذلك مرافق معالجة المياه وأنظمة الصرف الصحي، في حين أن المنظمات الإنسانية تشارك في الجهود المبذولة لإعادة تأهيل بعض محطات الضخ مؤقتًا، وأي حل طويل الأجل يتوقف على تغييرات ملموسة في السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، حسب الداودي.
ونظرًا إلى أن مصدر التلوث هو نهر “الفرات” بشكل أساسي، قالت الداودي، إن هناك أبعادًا إقليمية يجب مراعاتها أيضًا، إذ تسبب البناء المثير للجدل لبعض السدود وأنظمة الري الكبيرة في نقص شديد بالمياه وتوترات متزايدة بين تركيا، والعراق، وسوريا، وبالتالي فإن إدارة الحلول تعتمد في النهاية على التعاون الإقليمي.
ما سبل الوقاية من عدوى “الكوليرا”؟
في حال تفشي مرض “الكوليرا” في منطقة ما، يجب اتباع الاحتياطات التالية:
طبخ الطعام بشكل جيد.
عدم تناول الأطعمة المكشوفة أو من الباعة المتجولين.
عدم تناول المأكولات البحرية النيئة أو غير المطهوة جيدًا.
غسل الفواكه والخضراوات بشكل جيد، والاعتماد على الأصناف التي يمكن تقشيرها.
غسل اليدين جيدًا بالماء والصابون لمدة لا تقل عن 15 ثانية، خاصة بعد الخروج من الحمام وقبل تناول الطعام.
تنظيف دورات المياه المشتركة بالكلور بشكل متكرر.
غلي مياه الشرب لمدة دقيقة على الأقل إن لم تكن معقمة بالكلور.
تجنب استخدام مياه الصنبور ونوافير المياه بشكل مباشر، وتجنب استخدام مكعبات الثلج الجاهزة، حيث ينطبق هذا الاحتياط على ماء الشرب والماء الذي يُستخدم لغسل الأطباق وإعداد الطعام وتنظيف الأسنان.
تجنب الاحتكاك المباشر بأي شخص تظهر عليه أعراض العدوى.
تعقيم جميع المواد الملوثة (مثل الملابس والشراشف وغيرهما) التي تلامس مرضى “الكوليرا”، وذلك عن طريق الغسل بماء ساخن باستخدام الكلور المبيض إذا كان ذلك ممكنًا.
غسل وتعقيم الأيدي التي تلامس مرضى “الكوليرا” أو ملابسهم أو أشياءهم، بالمياه المعالجة بالكلور أو غيرها من العوامل الفعالة المضادة للجراثيم.
اللقاحات: يتوفر لقاح الكوليرا للأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و64 عامًا إذا كانوا ينوون السفر إلى مناطق تحدث فيها هذه العدوى
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :