عنب بلدي – حسن إبراهيم
بشعر أشقر ووجه غابت ملامحه بعد أن غطت معظمه الدماء، وجسد شبه عارٍ مليء بالكدمات، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بصور الطفل العراقي ياسين رعد المحمود، الذي قُتل بعد الاعتداء عليه جنسيًا في مدينة رأس العين شمالي الحسكة، الخاضعة لنفوذ “الجيش الوطني السوري”.
لم يقتصر محتوى الصور المتداولة للطفل البالغ من العمر عشر سنوات على إظهار جسده المليء بآثار الضرب الذي تعرّض له باستخدام أداة حادة، إنما وصل إلى إظهار أعضائه التناسلية، عبر العديد من الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصًا عبر مجموعات “تلجرام” التي تنشط في شمال غربي سوريا.
ضحايا تحت عدسة الكاميرا
انتشار صور الطفل ياسين الذي عُثر عليه مقتولًا في 14 من أيلول الحالي، لم يكن بعيدًا زمنيًا عن تداول صفحات صورًا للطفل بسام سليمان العبود (ثماني سنوات)، وهو مكبل اليدين على أحد الأسرّة، بعد أن توفي عقب تعرضه لطلق ناري خلال نومه على سطح منزل عائلته في مدينة تل أبيض شمالي الرقة، في 26 من آب الماضي.
في 30 من تموز الماضي، وثّق “الدفاع المدني السوري” (الخوذ البيضاء) مقتل طفلين وإصابة رجلين (رجل منهما والد أحد الطفلين) بقصف مدفعي لقوات النظام وروسيا على قرية كفر تعال بريف حلب الغربي، ونشر صورة لمكان وآثار القصف.
لم تمضِ ساعة على القصف، حتى تداولت بعض الصفحات المحلية ومعرفاتها على “تلجرام” صورًا من داخل أحد المستشفيات للطفلين والرجلين، بدماء غطت أجسادهم وقد اختلطت بغبار القصف، بلباس داخلي وصدور عارية، وآثار الشظايا التي تركت علامات وندوبًا في أجسامهم.
ورصدت عنب بلدي العديد من الصور لضحايا أطفال عبر مجموعات “تلجرام” التي تحظى بمتابعة كبيرة في المنطقة، وتحمل أسماء مدن وقرى وبلدات وفصائل عسكرية، وتضم عشرات آلاف المتابعين.
ولا تخضع هذه المجموعات ومنشوراتها لمعايير عالية لضبط المحتوى أو تقييده مثل بقية التطبيقات والمنصات، كما أنها لا تتطلب سرعة إنترنت عالية، ويعتمد بعضها على أرقام غير معروفة، خاصة مع انتشار ما يُعرف بالأرقام الأمريكية التي باتت متوفرة وبمتناول الجميع.
انتهاك للخصوصية
مديرة قسم المعتقلين والمختفين قسرًا في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، نور الخطيب، قالت لعنب بلدي عبر مراسلة إلكترونية، إن نشر صور صادمة لضحايا ماتوا وعلى أجسادهم آثار تعذيب “وحشية”، بطريقة غير مدروسة، يتضمّن العديد من الانتهاكات، أبرزها انتهاك خصوصية الضحايا.
وأوضحت الخطيب أن كثيرًا من الأسر والعائلات قد لا ترغب بنشر صور أبنائها على هذا النحو، كما تسبب النشر بإحداث صدمة نفسية لدى المجتمع السوري، وأصبحت عشرات الآلاف من ضحايا أسر المختفين مجبرة على الاطلاع وتدقيق ما لا يقل عن آلاف الصور بهدف الكشف عن مصير أبنائها.
يحصل هذا النوع من الصور والتسجيلات المصوّرة على اهتمام من قبل أهالي المفقودين والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يخلق حالة من الفوضى في البحث عن مصدر الصور، كما يعرّض بعض الأهالي لأخطار غير موضوعية.
وأضافت الخطيب أن الشبكة الحقوقية سجّلت إثر النشر عمليات اعتقال استهدفت عائلتين في دمشق، كانت صور أبنائهما قد نُشرت ضمن صور ضحايا، مشيرة إلى أن خطر النشر يقع على أهالي الضحايا أيضًا الموجودين في مناطق سيطرة النظام السوري.
وأكّدت الخطيب ضرورة الحصول على موافقة الأهل ومراعاة أمانهم الشخصي، وحفظ خصوصية الضحية، وتنطبق عملية النشر على جميع الصور التي تحوي ضحايا تعذيب وغيرهم.
ومع كل حادثة نشر صور لضحايا، ينقسم الناس إلى تيارين، الأول ينادي بوقف نشر الصور حفاظًا على مشاعر ذوي الضحايا، والآخر يصر على إغراق المنصات من “فيس بوك” و”تويتر” و”تلجرام” وحتى “واتساب”، للتوثيق وكشف حقيقة الجهة المرتكبة للانتهاك.
مديرة قسم المعتقلين والمختفين قسرًا في “الشبكة السورية” أشارت إلى وجود العديد من الطرق التي يمكن فيها التعرف على هوية الضحايا، عبر تحديد النطاق المكاني والزماني للصور والمعلومات التي يدلي بها مصدر الصور، وعبر مقاطعة هذه المعلومات مع البيانات والتفاصيل المسجلة عن ضحايا التعذيب الموثقين لدى المنظمات الحقوقية، وتواصل الأهل مع هذه المنظمات لتضييق نطاق البحث، ومن ثم حصره ضمن الفئة المتوقعة، وإطلاع الأهل عليها مع مراعاة وضعهم النفسي.
لا مبررات أخلاقية
مع لحظة انتشار صورة للطفل ياسين، جرى تداول الصورة بفارق دقائق على عشرات الصفحات، مع دعوات إلى محاسبة الفاعل الذي قُتل بهجوم مسلح خلال نقله من مقر الشرطة العسكرية إلى الشرطة المدنية.
ورصدت عنب بلدي بعض التعليقات على بعض المنشورات بضرورة حذف الصورة، كان الرد عليها بأن الحالة إنسانية وأخلاقية، وهي دليل على ارتكاب الانتهاك (الاغتصاب) بحق الطفل، ونُشرت صورة “المغتصب والمعتدي” أيضًا مهشّم ومفتت الرأس إثر طلق ناري.
أستاذ علم الاجتماع في جامعة “دمشق” سابقًا، والباحث في مركز “حرمون للدراسات” الدكتور طلال مصطفى، قال عبر مراسلة إلكترونية مع عنب بلدي، إن نشر صور وتسجيلات مصوّرة “عنيفة”، يحمل وجهات نظر متعددة حول نشرها، ودورها إن كان إيجابيًا أم سلبيًا، خاصة فيما يتعلق بالسوريين الذين اعتادوا خلال الـ11 سنة الماضية مشاهدتها.
لا مبررات ولا مشروعية أخلاقية أو قيمية أو اجتماعية لنشر صور الضحايا، بحسب الدكتور مصطفى، الذي اعتبر أن انتشار هذه الصور، واعتياد رؤيتها، يجعلها أمرًا روتينيًا لن يخلق أي صدمة أو يترك أي أثر لدى الناس، وتفقد أي حادثة وقعها على الناس برؤيتهم هذه الصور، ولن يُثار لديهم أي تفاعل، وهي تحرّض على العنف وخاصة لدى الأطفال.
ليست هذه المرة الأولى التي تُنشر فيها صور ومقاطع سواء لضحايا أو لمجازر أو انتهاكات نفذتها مختلف الجهات صاحبة السيطرة على العديد من المناطق في سوريا بشكل عشوائي، وتتسابق العديد من المواقع أو المجموعات أو الصفحات لنشرها دون الالتزام بأدنى معايير احترام الضحايا وعائلاتهم.
وأوضح الباحث أن بداية نشر مثل هذه الصور في سوريا كان لضرورة سياسية وإعلامية وحقوقية، لتوثيق ونقل أوجاع السوريين وما يتعرضون له من انتهاكات، وإيصال رسائل للعالم عن “بشاعة النظام السوري الدكتاتوري”، خاصة صور المجازر والبراميل المتفجرة، أما نشرها اليوم بطريقة غير منضبطة وعشوائية، فلا يجني سوى الآثار السلبية والنفسية على المجتمع.
وقالت مديرة قسم المعتقلين والمختفين قسرًا في “الشبكة السورية”، إن نشر الصور بهدف فضح ممارسات الجهة المنتهِكة يمكن أن يحصل أيضًا مع احترام خصوصية الضحايا، والالتزام بقواعد المهنية الإعلامية عند النشر.
“احترام كرامة الضحايا”
مدير “المركز السوري للحريات الصحفية”، إبراهيم حسين، قال عبر مراسلة إلكترونية مع عنب بلدي، إن كرامة الإنسان التي يجب أن تحترمها وسائل الإعلام لا تقتصر على الأحياء، بل تشمل الأموات أيضًا، وإن نشر صور الضحايا وخاصة دون تغطية التشوهات التي قد تصيب الجسم، هو عمل يشكّل انتهاكًا لمواثيق الشرف الإعلامي، متسائلًا، كيف إذا كانت الصور تظهر مناطق حساسة من الجسم.
ويُفترض بوسائل الإعلام أن تراعي كرامة الضحايا، بحسب حسين، وتبتعد عن نشر أي صور قد تشكّل إهانة لهم، كما يجب في الوقت عينه مراعاة عدم نشر صور قد تسبب الهلع وتروّع المتابعين.
وإذا كان هذا المبدأ المفترض في التعامل مع الضحايا بشكل عام، فإنه ينبغي التعامل بحرص أكبر حين يتعلق الأمر بأي تغطية صحفية تتعلق بالطفل، حيث يجب على وسائل الإعلام تجنب نشر صور الأطفال دون موافقة ذويهم، كما يجب تجنب ذكر اسم الطفل، ناهيك عن صورته إن كان ضحية لأي شكل من أشكال الإساءة، وفق حسين.
من جهته، دعا الباحث طلال مصطفى لإيجاد صيغة قانونية وأخلاقية وطريقة لمنع نشر مثل هذه الصور والمحتوى البصري “العنيف”، خاصة بمناطق الشمال السوري ومناطق اللجوء في ظل غياب للقانون والتشريعات الإعلامية الناظمة لعملية النشر.