عنب بلدي – إدلب
لم تستعد علا البرهوم (14 عامًا) لدخول المدرسة هذا العام أيضًا، كما الأعوام السابقة، بعد أن ألقت بها الحرب داخل مخيم بعيد، قضى على أحلامها الدراسية، إذ لا مدارس قريبة حيث تقيم نازحة في مخيمات “دير حسان”، شمال إدلب.
قالت علا لعنب بلدي، إنها لا تستطيع إكمال دراستها في المخيمات لافتقارها للمدارس الإعدادية الخاصة بالفتيات، والمدرسة الوحيدة الموجودة مخصصة للفئة التعليمية الأولى.
واعتبرت علا أن حياتها توقفت في هذه المخيمات، دون “أمل في المستقبل”، مع مصير مجهول كحال كثير من الفتيات اللواتي تتشابه ظروفهن مع ظروفها، بحسب تعبيرها.
أمام الظروف المتدهورة، لم ينتظر أهل رابعة الحلو (15 عامًا) افتتاح مدارس قريبة من مخيمهم الواقع في مشهد روحين، شمال إدلب، فقد وافقوا على تزويج ابنتهم من أول شاب تقدم لخطبتها.
وقالت رابعة لعنب بلدي، إنها وجدت نفسها مضطرة لترك دراستها والجلوس في خيمة مع أهلها، ثم الانتقال منها إلى خيمة الزوجية، “دون أدنى فكرة عما تحمله لها الأيام المقبلة”، وقد أصبحت اليوم زوجة وحاملًا بطفل في شهرها الخامس.
وتتشارك العديد من الفتيات في إدلب شمال غربي سوريا الظروف نفسها، إذ وجدن أنفسهن في مخيمات نائية ومنسية بلا رعاية ولا اهتمام ولا تعليم، في الوقت الذي لا يجد فيه بعض الأهالي أي مشكلة في تزويج الفتاة في سن صغيرة، بدلًا من تحمل تبعات تعليمها ورعايتها في ظل ما يواجههم من نزوح وفقر وغلاء.
الظروف المعيشية تتصدّر الأسباب
“الشهادات لا تنفع هذه الأيام، والمدارس لم تعد كما كانت، وزواج الفتيات وجعلهن ربات بيوت مسؤولات عن منزل وتربية أبناء، وزوج يلبي طلباتهن واحتياجاتهن، سيكون أجدى”.
هكذا برر رؤوف المحمد (46 عامًا)، لعنب بلدي، وهو نازح من مدينة معرة النعمان، سبب تزويج ابنته بسن مبكرة لم تتجاوز الـ14، إذ أجبرها على ترك المدرسة من أجل “التفرغ لمساعدة والدتها في أعمال المنزل”، على حد تعبيره.
لا ينكر الرجل أن العلم مهم في حياة الجميع، لكن أوضاعه المادية الحالية بعد أن أصبح بلا عمل، وعدم توفر الأمان، وإمكانية تعرض الفتيات لمخاطر الخطف أو التحرش، وسط عدم ضبط الوضع الأمني في المنطقة، جعله يعدل عن فكرة متابعة بناته لتعليمهن.
من جهتها، قالت علياء الحاج (40 عامًا)، إنها اضطرت لدفع بناتها الأربع إلى ترك مقاعد الدراسة، بسبب الفقر والنزوح، إذ إنها بالكاد تؤمّن المصروف اليومي، ولا قدرة لها على تحمل نفقات المدارس، وعناء الوصول إليها، فهي تبعد عن مخيمهم الواقع في بلدة الكموني شمال إدلب بضعة كيلومترات.
تعمل علياء في مهنة الخياطة بعد غياب زوجها الذي اختفى قسرًا في سجون النظام السوري منذ أواخر عام 2017، لذلك اختارت لبناتها تعلم مهنتها من أجل مساعدتها في تأمين قوت يومهن، فذلك “سيكون أنفع”، على حد قولها.
من جهتها، ترى المرشدة الاجتماعية صفاء السويد، أن تعليم الفتيات كان أمرًا ثانويًا لدى العديد من العائلات قبل عام 2011، لكن الظروف الحالية، وأبرزها الظروف المعيشية والاقتصادية المتردية، زادت من تهميشه.
وأكدت السويد لعنب بلدي، أن تعليم الفتيات، خاصة في هذه الظروف، يساعدهن في الاعتماد على النفس، واتخاذ قرارات صائبة في المستقبل، ويسهم في صقل شخصياتهن، ويجعل الفتاة أكثر وعيًا وإدراكًا للأمور، كما يقضي على العزلة التي يفرضها عليها البقاء بالمنزل غائبة عن العالم الخارجي، وعلى الأقل يجعلها غير أمّية، ما يمكنها من تعليم أبنائها في المستقبل.
“الإنقاذ” لا تعاقب على التسرب
لا تعاقب حكومة “الإنقاذ” العاملة في إدلب على عدم التحاق الأطفال ممن هم تحت سن 18 عامًا بالمدارس، وسط تبريرات بعدم قدرتها أساسًا على تمويل العملية التعليمية في المنطقة، فهي لا تستطيع دفع رواتب المدرسين لتجبر الطلاب على الالتحاق بالمدارس، بحسب ما قاله مدير مكتب العلاقات العامة في حكومة “الإنقاذ”، محمد الأسمر، لعنب بلدي.
وتواصلت عنب بلدي مع وزارة التربية في “الإنقاذ” لمعرفة أسباب عدم اهتمام الحكومة بقطاع التعليم، أو معوقات إصدار قانون يمنع التسرب من المدارس، دون أن تلقى أي رد حتى ساعة نشر هذا التقرير.
ويشهد قطاع التعليم في شمال غربي سوريا تدهورًا مستمرًا جراء غياب الدعم الذي أجبر مئات المدرّسين على العمل بشكل تطوعي لسنوات، وترك العديد من المدارس رهن تبرعات المانحين المتقلبة، ما أسفر عن إغلاق العديد من المدارس، ودفع عشرات المعلمين للتخلي عن مهنتهم خلال السنوات الأربع الماضية.
وبحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، الصادر في 20 من نيسان الماضي، يفقد جيل من الأطفال أي إمكانية للوصول إلى التعليم قبل بلوغ سن الرشد، إذ لا يزال أكثر من 800 ألف طفل خارج المدرسة في شمال غربي سوريا، وهو ما يمثّل زيادة بنسبة 40% تقريبًا مقارنة بعام 2019.
كما أن نحو نصف سكان المخيمات في الشمال الغربي من الأطفال، ومن بين ألف و322 مخيمًا في جميع أنحاء المنطقة، هناك 851 مخيمًا ليس فيها أماكن تعليمية مخصصة، ما يعرّض تعليم حوالي 225 ألف طفل للخطر.
ورغم كثرة الحلول التي تُطرح لتحسين واقع التعليم في سوريا والحد من التسرب، تعتبر الحلول المتاحة محدودة جدًا، في ظل الواقع الاقتصادي المتدهور واستمرار الصراع، وهذا ما يؤكده تقرير “يونيسف” الصادر في العام الحالي، إذ أفاد أنه وفقًا لمعدل التمويل الحالي، ستحتاج المنظمة وشركاؤها في قطاع التعليم إلى حوالي 30 عامًا لإعادة تأهيل جميع المدارس المتضررة والمدمرة، لتعويض الأطفال المنقطعين والمتسربين من التعليم.