عنب بلدي – غصون أبو الدهب
يستغل بعض أعضاء الكادر التعليمي والإداري في الجامعات السورية، مكانتهم العلمية وسلطتهم الوظيفية للتحرش بطالباتهم، مقابل تسهيل نجاحهن في المقررات الدراسية، ما يفتح الباب أمام تساؤلات تتعلق بغياب المساءلة والعقوبات الرادعة، والآليات المتبعة لحماية حقوق الضحايا، لا سيما أن الجهات المسؤولة تتستر على هذه القضايا، ويبقى الأساتذة المتحرشون على رأس عملهم رغم إثبات الواقعة بمقاطع مصوّرة تدينهم.
فضائح بالجملة
تتوالى الفضائح المتعلقة بالفساد والابتزاز والتحرش الجنسي في الجامعات السورية، ويستمر ظهورها للعلن عبر صور ومقاطع فيديو لأساتذة جامعيين في أوضاع مخلّة بالآداب العامة مع طالبات آثرن فضح هذه الممارسات على الرضوخ للابتزاز، فعلى سبيل المثال، في نهاية عام 2016، نشرت مجموعة من الطالبات رسائل “واتساب” من أستاذ جامعي في قسم علم الاجتماع، يهدد بها طالبات بالفصل من الكلية أو الرسوب في مادته إن لم يستجبن لتلبية طلباته الجنسية.
وفي آب من عام 2021، انتشرت فضيحة مصوّرة لدكتور في جامعة “تشرين”، ظهر فيها عاريًا وهو يتلفظ بألفاظ خادشة للحياء مع طالبة، مقابل مساعدتها في النجاح بالمقرر الذي يدرّسه في الجامعة.
كما انتشر مؤخرًا، في نهاية آب الماضي، مقطع فيديو لعميد كلية الآداب بجامعة “البعث” مع طالبة بوضع مخلّ بالآداب داخل مكتبه الرسمي بالجامعة، أعقبته خلال أقل من شهر فضيحة أخلاقية جديدة لدكتور في كلية الزراعة بجامعة “دمشق” يبتز الطالبات جنسيًا مقابل النجاح.
ما سبق من حوادث أثار تساؤلات عديدة عن آلية تعامل الجهات المسؤولة مع قضايا التحرش الجنسي والابتزاز في الحرم الجامعي، خصوصًا أن أغلب القضايا يتم التستر عليها من قبل إدارة الجامعة، فيبقى الأستاذ المتحرش على رأس عمله دون حسيب أو رقيب، ما يؤكد استشراء الفساد والمحسوبيات في الجامعات السورية، وانتهاك حقوق الطالبات المتحرَّش بهن.
وتتوالى إثر هذه الفضائح المنشورات والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، وبعضها يؤكد وجود كثير من هذه الحالات.
صفحة “صوت وصورة مدينة حلب” على “فيس بوك” قالت في جزء من منشور لها تعقيبًا على حادثة جامعة “حلب” في 2021، “قد يكون الدكتور المتهم مبتزًا، يجب محاكمته، وهو ليس حالة فريدة من نوعها، هناك الكثير من نموذجه منتشرون في الجامعات السورية، وعليه يجب تنظيف الحرم الجامعي من كل أمثاله”.
وتناولت صفحة “تنكيت جامعي” على “فيس بوك” قضية تحرش عميد كلية الآداب في جامعة “البعث”، تحت عنوان، “يوم حزين آخر في تاريخ الجامعات السورية، مكلل بعار التحرش الجنسي”، وأشارت إلى أن الفساد في الجامعات السورية لم يقتصر على سوء الإدارة والمناهج وفساد الامتحانات، بل تعداها إلى الاستغلال الجنسي للطالبات.
وقالت إحدى المعلقات، تحت اسم “سها ربيع”، “مجرد انكن ضبيتوا (أخفيتم) قصص كتير قبلا ما عاد يحقلكون تشكوا أو تنطروا حدا يحل أو يصلح. خلص تعودوا”.
كما كتبت “زينة عنود” في تعليق على المنشور، “اللي بدافع عن الدكتور بكون متلو، بس لأنو في عالم بدافعو عنو ونسيانين انو هوي بموقع قوة وبيتحكم بمصير الطلاب، هي البنت طلب منها هيك غيرها بيطلب منو مصاري، كل حدا بيطلب منو شي حسب شو بيقدر يقدملو، والحسرة عالطلاب اللي عايشين ببلد ما فيه قانون”.
التحرش في القانون
ينطبق على جرائم التحرش الجنسي في القانون السوري ما جاء في القانون العام، وفق المحامي السوري محمد تمو المقيم في اسطنبول، الذي قال في حديث إلى عنب بلدي، إن القانون لم ينص بشكل صريح على تجريم التحرش، وإنما قام بتجريمه تحت مسميات وأفعال أخرى، كالفعل المنافي للحشمة والفعل المخلّ بالحياء، والتعرض للآداب العامة، ولم يذكر التحرش بتسميته ودلالاته المتعارف عليها، وقد يكون مرد ذلك إلى دخوله في مفهوم أشمل وأعمّ يجرم ما هو دون التحرش، فتطال العقوبة التحرش باعتباره أولى بالعقوبة مما هو دونه، ويعود ذلك إلى عدم ظهور مفهوم شائع باسم التحرش كجرم مستقل متعارف عليه ارتبط بمفاهيم أخرى، كمفهوم الحريات الشخصية وحدودها وآثارها.
ولم يفرق القانون السوري في جرائم التحرش الجنسي بين الضحايا إن كانوا ذكورًا أو إناثًا.
وبحسب تمو، يتلخص التحرش الجنسي بالملامسة أو المداعبة إذا وقعت بصورة معيّنة أو على أماكن معيّنة من جسم الضحية، وفي أماكن معيّنة غالبًا ما تكون عامة، بحيث يتصف الفعل بالعلانية.
وفرّق القانون السوري من حيث العقوبة بين وقوع هذه الأفعال على بالغ أو قاصر، فإذا كانت على بالغ تمتد العقوبة لتصل إلى ثلاث سنوات في حدها الأعلى، وهي عقوبة جنحية.
أما إذا وقعت على قاصر أو مميز أو ذي إعاقة تمنعه أو تحد من الدفاع عن نفسه، فإن الوصف الجرمي يصبح جناية، وقد تصل عقوبته إلى السجن أكثر من عشر سنوات أو 15 سنة في بعض الحالات.
وتضمنت بعض القوانين في فترات لاحقة جرائم التحرش بأشكالها المتعددة، وخاصة جرائم التحرش اللفظي، التي تبدأ بالعقوبة التكديرية دون عشرة أيام، وتصل إلى أكثر من سنة.
ويتشدد القانون في عقوبة بعض الأشخاص الذين لهم ولاية على غيرهم، مثل أعضاء الهيئات التدريسية والإدارية في الجامعات، باعتبار أن لهم ولاية على طلابهم، بمعنى أن للمدعى عليه سلطة على الضحية قد تجبرها على الرضوخ للابتزازات والتحرش.
وأشار تمو إلى أنه، مؤخرًا، عالج القانون السوري موضوع التحرش مع جملة الجرائم الإلكترونية بعد ظهور وانتشار المعلوماتية، وانتشار عدد كبير من تطبيقات التواصل الاجتماعي والمواقع على شبكة الإنترنت، إلا أن تلك المعالجات لم تكن شاملة وكافية، وبقي عدد من مواد قانون الجرائم الإلكترونية بحاجة إلى تعديل وضبط.
وقال المحامي إن القانون السوري ما زال قاصرًا في اعتماد الفيديو المصوّر والتسجيلات الصوتية كدليل إدانة، باعتبار أنها تحتاج إلى خبرة فنية دقيقة، جراء انتشار برامج “مونتاج” معقدة يمكن أن تتلاعب بالمقاطع المصوّرة وكذلك بالأصوات.
وأوضح أن صور المحادثات عبر برامج التواصل الاجتماعي مثل “واتساب” أو الرسائل النصية يتعامل معها القانون بطريقة مختلفة، لأن شركات الهاتف لديها حفظ للسجلات يمكن التأكد منها.
ولفت تمو إلى أن القانون يعتبر نشر مقاطع الفيديو في قضايا التحرش الجنسي أو الابتزاز، كما في قصة الأساتذة الجامعيين التي انتشرت مؤخرًا، جرمًا بحد ذاته ويُلاحَق ناشرها.
أساتذة متنفذون
قالت الدكتورة “م. أ.” (تحفظت على ذكر أسمها لأسباب اجتماعية)، وهي أستاذة سابقة في إحدى الجامعات السورية، “خلال عملي في الجامعة سمعت عن عدة حالات تحرش جنسي بالطالبات، حيث تنتشر الأخبار بين الطلبة وضمن الكوادر التعليمية والإدارية في الجامعة”، مضيفة أنه وفي حال الشكوى، غالبًا يتم احتواء الموضوع و”لا يعاقَب المسيء إلا في حال تحول القضية إلى قضية رأي عام”، أما إذا كان الدكتور (المتحرش) من المتنفذين، وكان “مدعومًا”، عندها تكون لديه صلاحيات واسعة تجعله بمأمن من العقاب.
وأكدت “م. أ.” أنه ليس هناك حصانة لأعضاء الهيئة التدريسية في مثل هذه القضايا، مشيرة إلى أن قرارات فصل أعضاء الهيئة التدريسية، في حال ارتكاب أي مخالفات قانونية، تصدر عن رئيس مجلس الوزراء، أما تعيين رئيس الجامعة أو فصله فيكون حصرًا بقرار جمهوري.
وأوضحت الدكتورة “م. أ.” أن بعض العقوبات الصادرة عن إدارة الكلية تمنع الأساتذة الجامعيين من تبوّء مناصب إدارية أعلى، وتوقف ترفيعهم الوظيفي.
التساهل بتطبيق العقوبات والتستر على المتحرشين وعدم إحالة القضايا للقضاء، جميعها أسباب أسهمت في الاستغلال الجنسي للطالبات الجامعيات، إذ نشرت صفحة “نور حلب” على “فيسبوك”، في 10 من أيلول الحالي، مراسلات عبر تطبيق “واتساب” بين رئيس قسم الموارد في كلية الزراعة بجامعة “دمشق” وإحدى الطالبات، وجاء في المنشور، “قضيتنا اليوم برسم السيد الرئيس والسيدة الأولى، وكل الشرفاء، ورئيس جامعة (دمشق)، وعميد كلية الزراعة الذي إن كان يدري مصيبة وإن كان لا يدري فالمصيبة أكبر. وذلك لكبح جماح الزومبي الدكتور (…) رئيس قسم الموارد في كلية الزراعة بجامعة (دمشق). هذا الكائن التافه والعاشق الولهان كان حظه عاثرًا عندما تم رصده وإيقاعه بفخ من إحدى طالباته المجهولة الهوية”.
التحرش فعل إرادي
يُعرّف المختص بعلم النفس الديناميكي فراس الجندي، التحرش الجنسي بأنه سلوك لفظي أو مادي يحمل مظاهر أو صفات غير مريحة تحمل طابعًا جنسيًا، ويُعتبر التحرش الجنسي فعلًا ذا طبيعة جنسية تنتهك كرامة الفرد، وهو شكل من أشكال التمييز التعسفي.
ويعاني المتحرش من اضطرابات نفسية تتعلق بالانكسار والقمع، لذلك فإن ممارسة التحرش تُشعر المعتدي بلذة نفسية وقتية، بالإضافة أن كثيرًا من الرجال يستغلون المناصب والسلطة من أجل ممارسة هذا الفعل، بحسب ما قاله الجندي.
وأضاف أن المتحرش هو شخص “سيكوباتي” لا يعاني خبلًا أو هلوسة عقلية، بل إن اضطرابه لا يقل خطورة عن غيره من أنواع الاضطرابات الأخرى، لأنه يمس أعماق الشخصية، فـ”السيكوباتي” شخص يعاني اضطرابًا في السلوك، وبشكل عام يتجه بسلوكه المضطرب نحو طفولته المقموعة، ويستغل مواقع السلطة كي يخفي اضطرابه النفسي وعقده السادية، لذلك يمارس هذا الفعل بالتماهي مع السلطة التي تحميه وتباركه.
ويسبب التحرش الجنسي للضحية، بحسب الجندي، تغيرات نفسية وفيزيولوجية تتعلق بسوء الهضم، وعقدة العار والخجل والقلق والأرق والتوتر واضطرابات بالشهية والنوم، والشعور بالضعف والعجز، وعدم الثقة بالنفس.
هذه الاضطرابات قد تجعل الفتيات يغبن عن الجامعات والعمل أو المدرسة، لذلك لا بد من سن تشريعات تعاقب على هذا الفعل، لأن المتحرش يشعر بلذة نفسية عندما يمارس تحرشه، وهذا فعل إجرامي إرادي وليس لا شعوريًا، كما قال المختص الجندي.
صمتُ الضحايا من النساء عن التحرش الجنسي يعكس خوفهن من اللوم والرفض المجتمعي الذي يقع على عاتقهن، خاصة أن هناك شواهد سابقة لطالبات فضحن الممارسات المنافية للأخلاق التي تعرضن لها، معتقِدات أن التشهير وفضح المعتدي سيشكّل رادعًا كافيًا للمتحرشين والمبتزين، وسيشكّل ضغطًا على إدارة الجامعات لوضع قوانين صارمة تمنع التحرش، وتوفير بيئة آمنة تحمي الطالبات، فاصطدمن بمنظومة فساد تحمي المتحرش وتتستر عليه بحجة حماية سمعة المؤسسة التعليمية.
يعكس التحرش الجنسي في الجامعات السورية مستوى الفساد بمفاصل الدولة السورية، وانعدام الأمن، وهذا ما يؤكده مؤشر “الأمن والسلامة” عام 2021، الصادر عن معهد “جورج تاون للمرأة والسلام والأمن”، ومركز “بريو للجندر والسلام” في الأمم المتحدة، الذي صنّف سوريا كواحدة من أخطر الدول على المرأة فيما يتعلق بالعنف المنظم، حيث احتلت المرتبة الثانية كأسوأ دولة في العالم.