إبراهيم العلوش
بعد 70 سنة من الحكم، ماتت الملكة البريطانية، إليزابيث الثانية، واحتفلت المؤسسات الرسمية العربية بها، مجسدة طموح القادة العرب في الحكم الأبدي، وتيمنًا بالملكة الراحلة قد يرضون بالـ70 سنة بدلًا من الحكم إلى الأبد!
توفيت الملكة البريطانية، في 8 من أيلول الحالي، بعمر 96 عامًا بكامل أبهتها وبرمزيتها لوحدة البلاد، وبسمعتها الطيبة والحيادية في الداخل البريطاني، وقد زينت السياحة البريطانية بحرسها الملكي الذي يقصده الملايين عبر العالم لمشاهدة منظر تبديل الحرس الشهير، وبألبستها الفاقعة ذات اللون الواحد التي صارت رمزًا لذوق خاص في عالم الأزياء.
تنازل ملوك وأمراء بريطانيون عن العرش من أجل امرأة أحبوها، أو من أجل أن يعيشوا حياتهم الخاصة بعيدًا عن المراسم والبروتوكولات الملكية، أما الحاكم العربي فلا يتنازل عن الكرسي أو عن العرش مهما كانت الأسباب والعواقب، ولعل بشار الأسد نموذج عن التشبث بالحكم الذي تسبب بدمار البلاد وتسليمها للجيوش الأجنبية، وإعادتها إلى العصر الحجري!
يريد الحاكم العربي الاستمرار في الحكم على الطريقة البريطانية، متجاهلًا شروط هذا الاستمرار الذي يمنع الملكة من إبداء رأيها السياسي في العلن، وألا تتدخل في الأحزاب ولا الانتخابات، ولا الاقتصاد ولا الجيش ولا السياسات الداخلية أو الخارجية، تاركة البرلمان والحزب المنتخب الذي يؤلف الحكومة هما من يتحاوران ويتصارعان على صحة الإجراءات أو عدمها، تحت وطأة الخوف من انقلاب الرأي العام ضدهما، وامتناع الناخبين عن إعطائهما الأصوات التي تتكفل بوصولهما إلى مناصبهما.
في آذار 2011، انفجر غضب بشار الأسد ليس بسبب المطالبات الإصلاحية التي رفعها الناس، بل غضب ولا يزال غاضبًا، من خروج الناس إلى الشوارع بإرادتهم وليس بإرادة أجهزة المخابرات وحزب “البعث”، ولذلك كانت خطاباته وتهديداته أكبر بكثير من مطالب الناس، وشملت التلويح بالتضحية بكل شيء من أجل أن يفرض إرادته، ولم يحصل ذلك حتى بعد رهن البلاد للروس والإيرانيين، وتحوّله إلى مجرد تابع يرتهن بأوامر المحتلين الذين استقدمهم نكاية بمتظاهري آذار!
أما الملكة إليزابيث الثانية فقد كان سر قوتها أنها لا تغضب ولا تبدي رأيها الخاص، وتترك الأمر للناخبين والأحزاب السياسية، وكانت تحافظ على هدوئها خلال 70 سنة من التقلبات التي شهدت انهيار الإمبراطورية البريطانية، ولم تغضب مثل بشار الأسد الذي يعتبر نفسه كل شيء في سوريا، وما وجود الشعب السوري بنظره إلا حشوة أو “كومبارس” لا بد منه في البروتوكولات الرسمية.
وكان ملوك بريطانيا قد أعطوا هذه الحكمة في عدم التدخل بحياة الناس لملوك أوروبا فرفضوها، وردّ ملك فرنسا بجملته الشهيرة، “خير لي أن أكون حطّابًا من أن أكون ملكًا مثل ملك بريطانيا”. ولكن حفيد ذلك الملك تم قطع رأسه بالمقصلة بسبب تعنّته الذي ورثه عن عائلته التي تتدخل في شؤون الناس، واختفت الملكيات من أوروبا، أما ما تبقى منها هناك فقد اصطبغ بالصبغة البروتوكولية البريطانية.
لا يستطيع أي حاكم البقاء إلى الأبد، هذا ما يقوله التاريخ الحديث، فالشعوب لم تعد مجرد مناجم للذهب ومصدر للجنود والغذاء والهتافات، لقد تغيّر الناس، وصاروا يتابعون أدق التفاصيل التي تجري في كواليس الحكم، وكل هتافات “قائدنا إلى الأبد” التي يكررها المحكومون بالقوة لن تدوم، ولعل مصير عائلة الأسد أبرز مثال على هذا التعنّت الذي أودى بشرعيتها وتركها مجرد عائلة حاكمة يديرها المحتلون الذين يحافظون على استمرارها.
تستمتع العائلة البريطانية بثروة ضخمة تقدّر بنصف مليار جنيه إسترليني، وتستعرض أبهتها ببروتوكولات ملكية باذخة، بالإضافة إلى كون الملك رمزًا لوحدة البلاد، وتشكّل أخبار العائلة المالكة وفضائحها جزءًا من الأخبار العامة، وتشكّل القلاع الملكية والحرس الملكي جزءًا مهمًا من السياحة البريطانية، وتزيّن صورة الملك العملة البريطانية، فهل يريد الحاكم العربي وعائلته أكثر من ذلك، وهل من الحكمة بقاء كل السلطات بيد الحاكم وأقاربه، تلك السلطات التي ستسوقه إلى أجله المبكر مثلما حدث للعائلة المالكة العراقية وفيما بعد لصدام حسين، والقذافي، وابن علي، وحسني مبارك، وسيحدث حتمًا لبشار الأسد!
وحسب المقولة البريطانية “مات الملك، عاش الملك” ، تم تنصيب الملك الجديد، وأقسم تشارلز الثالث، في 10 من أيلول الحالي، أمام الجمهور على الحفاظ على الدستور وحماية البلاد، والحفاظ على الإيمان وعلى الكنيسة الأنجليكانية والطائفة البروتستانتية، ولم يهمل تعهده بحماية التنوع الديني، خاصة أن بريطانيا تحتضن العديد من الأديان والمذاهب، كما قال الملك الجديد في خطاب التنصيب، وهذا ما يتناقض مع ما يروّجه دعاة حلف الأقليات في بلادنا ومثقفوهم الطائفيون الذين يرفضون حق التدين للطوائف الأخرى، ويعتبرون مجرد الذهاب إلى الجامع أو خروج المظاهرات منه إرهابًا، ومن جهة أخرى يتسترون على ولائهم الطائفي بشعارات علمانية معسولة.
وبالمناسبة، فإن “داعش” والتنظيمات الدينية المتطرفة نهجت نفس طرق النظام في التدخل بحياة الناس واحتكار السياسة والاقتصاد، واحتكار تمثيل الدين، والتمثيل الطائفي، حتى إنها استعملت نفس طرق التعذيب التي يعتمدها النظام من صعق و”شبح” وخنق، وتحلم أيضًا مثل عائلة الأسد بالبقاء إلى الأبد!
يتم دفن الملكة إليزابيث الثانية في 19 من أيلول الحالي، بحضور محلي وعالمي حاشد، يبقي العائلة المالكة البريطانية متألقة، وتستمر بإثارة النخب الحاكمة في بلداننا، ويبقى بريق بروتوكولاتها يثير شهيتهم، ولكنهم يرفضون شروط بقاء العائلة البريطانية، ولا يزالون يرددون مقولة الملك الفرنسي الرافضة للتنازل عن كثير من الصلاحيات، ويتناسون الحقيقة المتمثلة في مصير عائلة الملك الفرنسي قديمًا، والمتمثلة حديثًا في مصير بشار الأسد الفاقد للشرعية!