من عدم الظهور إلى العلن، ومن العمامة إلى دونها، ومن اللباس العسكري إلى المدني، ومن الخطاب المتشدد إلى الاعتدال. ما كان غريبًا قبل سنوات أصبح أمرًا روتينيًا اليوم بالنسبة إلى “القائد العام” لـ”هيئة تحرير الشام”، “أبو محمد الجولاني”.
ظهور “الجولاني” الذي لا يزال مُدرجًا مع “الهيئة” على “لوائح الإرهاب” وأحد المطلوبين لأمريكا، وبمكافأة تصل إلى عشرة ملايين دولار أمريكي لمن يدلي بمعلومات عنه، تكرر بعيدًا عن النشاط العسكري في عديد المشاريع والقضايا والقطاعات الخدمية والاقتصادية وغيرها.
وترافق الظهور المتكرر لقائد “جبهة النصرة” سابقًا، بتغيير في سلوك “تحرير الشام” وخطاب قائدها وأبرز قياداتها وشرعييها، منذ إعلان “جبهة النصرة” انفصالها عن تنظيم “القاعدة” أو أي “كيان خارجي آخر” في تسجيل مصوّر بُث في تموز 2016.
وغيّرت “النصرة” اسمها إلى “جبهة فتح الشام”، لتتحول لاحقًا إلى اسم “هيئة تحرير الشام”، التي تسيطر على محافظة إدلب، وجزء من أرياف حلب الغربية واللاذقية وسهل الغاب شمال غربي حماة،
إدارة اقتصادية بـ”الاحتكار”
بدفع من “تحرير الشام”، شُكّلت حكومة “الإنقاذ”، في 2 من تشرين الثاني 2017، وسط علاقة غير واضحة المعالم بينهما، لتبسط نفوذها الإداري وسيطرتها على مفاصل الحياة في المنطقة.
عقب حضور عسكري وأمني، وبعد خلافات عديدة واقتتالات وإقصاء فصائل، سيطرت “تحرير الشام” على المنطقة بشكل غير مباشر اقتصاديًا وخدميًا، وترافق ذلك مع اتهامات بوقوف “الهيئة” خلف العديد من المشاريع التي وُصفت بـ”الاحتكارية”.
برزت معالم هذه السيطرة بظهور “الجولاني”، في 23 من تشرين الثاني 2021، وحديثه عن دعم مادة الخبز بأكثر من ثلاثة ملايين دولار أمريكي، وعن دعم الأفران الحكومية، والأفران العاملة في المنطقة، وشمل الدعم من 35 إلى 40 فرنًا كحل إسعافي وسط أزمة خانقة شهدتها المنطقة.
وتدرّج “الجولاني” بظهوره في قطاعات اقتصادية وخدمية عديدة، وصلت إلى وعود أطلقها بتوفير ما يقارب 100 ألف فرصة عمل خلال ثلاث سنوات، وبناء مشاريع وصفها بأنها “تليق بالثورة” كل بضعة أشهر، مؤكدًا أهمية إنشاء هذه المشاريع لليد العاملة، وما تتيحه من فرص عمل تمنح الفرد قوت يومه، وذلك خلال ظهوره في 7 من كانون الثاني الماضي خلال فعالية افتتاح طريق حلب- باب الهوى.
بوعود وتعهدات بتقديم الدعم وخلق بيئة استثمارية، تحدث “الجولاني” في عدد من المناسبات إلى جانب شخصيات ووزراء حكومة “الإنقاذ” التي بدأت بـ11 حقيبة وزارية واستقرت على عشر وزارت، ووضع على عاتقه مسؤولية حل عدد من المشكلات خلال لقائه شخصيات ووجهاء مناطق عديدة في الشمال السوري.
الباحث السوري المتخصص في الحركات الدينية الدكتور عبد الرحمن الحاج، قال لعنب بلدي، إن من يدير الموارد الاقتصادية ويضع الاستراتيجية العامة هو “الهيئة”، وربما “أبو محمد الجولاني” بشكل منفرد، لكن الذي ينفذ الاستراتيجية ويضع السياسات اللازمة لتنفيذها هم موظفو الحكومة.
المحروقات في قبضة “الهيئة”
بدأ ظهور شركات المحروقات في إدلب مع تأسيس شركة “وتد للمحروقات” في كانون الثاني 2018، التي أصبحت تسيطر على معظم الحصة السوقية للمحروقات في محافظة إدلب وجزء من ريف حلب الغربي، وتُتهم بتبعيتها لـ”تحرير الشام” رغم نفي الأخيرة والشركة ذلك.
تصدّرت “وتد” قطاع المحروقات، وصارت الجهة الوحيدة لاستيراد المحروقات إلى مناطق نفوذ حكومة “الإنقاذ”، بعد حصولها على ترخيص من الحكومة، وظهرت شركتان للمحروقات هما “الشهباء” و”كاف”، اللتان توقفتا عن تحديث لائحة أسعارهما عبر “فيس بوك” منذ كانون الأول 2020.
وأغلقت “تحرير الشام” معبري “دارة عزة- الغزاوية” و”دير بلوط- أطمة” في وجه شحنات المحروقات القادمة من مناطق شمالي حلب الخاضعة لنفوذ “الجيش الوطني السوري” المدعوم تركيًا، بحجة أن محطات الوقود في مناطق سيطرة “الجيش الوطني” كانت تمتهن “التهريب والغش” في مادة المازوت، ما يعود بالضرر الكبير على المستفيدين من المادة من عموم أهالي الشمال الخاضع لنفوذ “الهيئة”.
أواخر آب الماضي، بدأت “المديرية العامة للمشتقات النفطية” التابعة لحكومة “الإنقاذ” باستقبال طلبات ترخيص محطات الوقود (الكازيات)، وقال رئيس دائرة التراخيص في المديرية، مصطفى بدوي، عبر مراسلة إلكترونية لعنب بلدي، أن محطات إدلب يمكنها جلب الوقود من محطات التكرير و”الحرّاقات” من أرياف حلب.
الخضار المستوردة ممنوعة
في آب الماضي، ارتفع سعر كيلو البندورة (الطماطم) في أسواق محافظة إدلب بمقدار 120%، من أربع إلى عشر ليرات تركية، بالإضافة إلى ارتفاع بعض أسعار الخضراوات والفواكه، والسبب هو منع دخول بعض الأصناف إلى المنطقة عبر معابرها الحدودية مع تركيا، ومع مناطق سيطرة “الجيش الوطني”.
ومنعت “الإنقاذ”، في آب 2021، إدخال العديد من المواد الغذائية وخاصة الخضار والفواكه في مواسمها إلى مناطق نفوذها، بحجة أن المنتجات الزراعية المحلية تتعرض لمنافسة شديدة من البضائع المستوردة وخاصة في الأسعار، وتؤدي المنافسة إلى انخفاض أسعار المنتجات الزراعية دون حدود تكاليفها، وبالتالي خسارة المزارع.
السكر.. “أزمة مفتعلة”؟
مع انتشار أزمة مادة السكر في إدلب، خلال شباط الماضي، وتأخر وصول الإمدادات وارتفاع سعرها وفقدانها من السوق بشكل مفاجئ دون معرفة الأسباب الحقيقية، توجّهت أصابع الاتهام نحو “الإنقاذ” باختلاق الأزمة وتوكيل تجار وشركات نقل بإدارة “الأزمة” من توزيع ونقل، لتحصيل مكاسب مالية.
الأمر الذي عزّز هذه الاتهامات هو تضارب أسباب أزمة السكر حينها، إذ عزا مسؤول الإعلام والعلاقات العامة في إدارة معبر “باب الهوى” الحدودي مع تركيا، مازن علوش، في حديث لعنب بلدي أسبابها إلى أن مشكلة السكر “عالمية”، سواء أكانت بالسعر أو بالمعروض، فمادة السكر مفقودة حاليًا في كثير من الدول، بسبب ما أسماه “الاحتكار الدولي” للمادة وقلة الإنتاج.
وبرر مدير العلاقات العامة في وزارة الاقتصاد والموارد بحكومة “الإنقاذ”، حمدو الجاسم، الأزمة بانتهاء عقود السكر الموقعة مع الجانب التركي منذ مطلع العام الحالي، والعوامل الجوية التي أثرت سلبًا على النقل البري من تركيا إلى مناطق الشمال السوري.
وضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بصور لمدنيين ينقلون السكر على دراجاتهم الآلية بين الأراضي الزراعية إلى مناطق سيطرة “تحرير الشام”، من مناطق سيطرة “الجيش الوطني” التي لم تشهد أزمة في مادة السكر، ما وضع “الهيئة” و”الإنقاذ” وسط دائرة الاتهام بـ”افتعال الأزمة”.
“متسامح حامي الأقليات”
عاد الحديث عن مسيحيي إدلب إلى الواجهة الإعلامية مؤخرًا، رغم أنهم أحد مكوّنات النسيج السكاني في إدلب، وبقي بعضهم في منازلهم منذ خروج المنطقة عن قبضة النظام السوري وسيطرة فصائل المعارضة عليها تدريجيًا منذ 2011.
وفتحت طقوس احتفالهم بعيد “القديسة أنّا”، في 28 من آب الماضي، في قرية اليعقوبية بريف إدلب الغربي للمرة الأولى منذ سيطرة فصائل المعارضة على المنطقة، بابًا لتساؤلات عديدة عن التوقيت، وعن موقف الفصائل المسيطرة كون بعضها مارس سياسة التضييق على المسيحيين.
بحضور عشرات الأشخاص، أُعيد افتتاح كنيسة “القديسة أنّا” التي تعتبر من أبرز الكنائس وأكثرها شهرة وقدمًا، إذ رُممت على ثلاث مراحل تاريخية كان آخرها عام 1320 ميلاديًا.
عدم تعليق “تحرير الشام” صاحبة النفوذ العسكري بالمنطقة على الاحتفال وإعادة افتتاح الكنيسة، أثار الجدل ووضع “الهيئة” وقياداتها أمام انتقادات بـ”تلوّنهم ومعاداتهم الفصائل سابقًا تحت شعار الإسلام”، عدا عن اتهامات بشرعنة “تحرير الشام” نفسها كـ”حامية للأقليات، وهي التي مارس عناصرها انتهاكات بحقهم”.
من غير الممكن القيام بالشعائر الدينية بشكل معلَن ما لم تكن ثمة موافقة مسبقة من قبل “تحرير الشام”، بحسب الدكتور عبد الرحمن الحاج، الذي أشار إلى رغبة “الهيئة” وموافقتها على ذلك.
ويرى الدكتور الحاج أن هذا الإجراء في إطار تصدير صورة “الجولاني” كرجل متسامح ومنفتح تخلص من الأيديولوجيا “القاعدية”، ويعمل على أسس وطنية، وسيعزز موقف “الجولاني” و”هيئة تحرير الشام” عمومًا لرفعها من قوائم “الإرهاب”، والنظر إليها كحاجة للأمن الإقليمي والدولي.
رسائل دينية وخطاب جديد
في 19 من تموز الماضي، زار “الجولاني” عددًا من الأهالي في قرى القنية واليعقوبية والجديدة أتباع الديانة المسيحية بريف مدينة جسر الشغور، واقتصر الاجتماع على صور نشرتها مؤسسة “أمجاد” الإعلامية التابعة لـ”الهيئة”، دون عرض تسجيلات مصوّرة لفحوى النقاشات التي جرت خلال اللقاء، بعد أيام من اعتباره أن المشروع في “المحرر” لم يعد مشروع ثورة ضد الظلم والطغيان فقط، إنما تحول إلى “كيان سني”.
لقاء “الجولاني” بأشخاص من أتباع الديانة المسيحية لم يكن بعيدًا زمنيًا عن لقائه بشخصيات ووجهاء من الطائفة الدرزية بقرى جبل السماق بريف إدلب الشمالي خلال افتتاح وتدشين “مشروع بئر مياه” في 9 من حزيران الماضي.
وأطلق “الجولاني” في لقائه وعودًا بإعادة أي “مظلمة” لأي شخص، مع عدم تعرض أي شخص “للضيم أو الظلم”، وتابع “الجولاني” واصفًا نفسه بقوله “نحن أهل الحق”، بعد أن طالب أحد الوجهاء بمساواة أهل المنطقة مع كل الناس وعدم اعتبارهم طائفة مغايرة، فهم “مسلمون ولا يقبلون أن يوصفوا بأي وصف آخر”.
وذكر “الجولاني” آية من القرآن “لا إكراه في الدين”، وأكد عدم إجبار أي شخص على الدخول في الإسلام، كما برأ نفسه وفصيله من أي اعتداء ومضايقات سابقة تعرض لها أهالي المنطقة سابقًا.
بدا خطاب قائد “تحرير الشام” حاليًا (جبهة النصرة سابقًا) مختلفًا عما قاله في لقاء أجرته قناة “الجزيرة”، في 27 من أيار 2015، ضمن برنامج “بلا حدود”، الذي قدمه الإعلامي أحمد منصور من داخل الشمال السوري.
وأكد “الجولاني” حماية القرى الدرزية والمسيحية في ريف إدلب، وإرسال دعاة إسلاميين إلى قراهم لتوضيح أخطائهم، بحسب تعبيره، ورأى أن “النصارى” سيخضعون لـ “الحكم الإسلامي” في حال أقيم نظام إسلامي في سوريا، متعهدًا بحمايتهم.
ويرى الباحث السوري المتخصص في الحركات الدينية، أن “الجولاني” يستثمر في الأقليات كما يفعل النظام، وكما تستثمر فيها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) صاحبة النفوذ العسكري على مناطق ذات أغلبية كردية شمال شرقي سوريا.
وقال الدكتور الحاج، إن “الجولاني” اكتشف مؤخرًا أن لديه ورقة الأقليات التي يمكنه استخدامها لتحسين صورته، وقد بدأ ذلك بالفعل، وعلى الأرجح أن هذا جاء بنصيحة “غربية”، فـ”الجولاني” لا يستمع لنصائح ولا لطلبات السكان، وإنما للضغوط الخارجية ومتطلبات تكريسه كقوة أمر واقع، بحسب الباحث.
“تحرير الشام” ظهرت لأول مرة في سوريا نهاية 2012، تحت مسمى “جبهة النصرة لأهل الشام”، وهي فصيل تميّز بخروجه من رحم “القاعدة”، أبرز الفصائل “الجهادية” على الساحة العالمية، وأعلنت لاحقًا انفصالها عن أي تنظيم، واعتبرت نفسها قوة سورية محلية، سعت وتسعى بقيادة “أبو محمد الجولاني” لإزالة اسمها من لوائح “الإرهاب”. |
–