مع إيقاف روسيا إمدادات الغاز الطبيعي، الشريان الرئيس لتشغيل المصانع وتوليد الكهرباء وتأمين الدفء للمنازل في دول الاتحاد الأوروبي، يواجه الاتحاد أزمة طاقة متفشية من الممكن أن تتحول إلى انقطاع التيار الكهربائي وإغلاق المصانع.
ودفعت الأزمة، التي تضغط على الموارد المالية للناس العاديين، الحكومات بشكل يائس للحصول على إمدادات بديلة، وإيجاد طرق لتخفيف التأثير مع تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع فواتير المرافق المنزلية.
ولا يزال بعض الغاز الروسي يتدفق إلى أوروبا عبر خط أنابيب يمر عبر أوكرانيا إلى سلوفاكيا، وآخر يعبر البحر الأسود إلى تركيا ثم إلى بلغاريا العضو في الاتحاد الأوروبي، وفقًا لوكالة الأنباء “أسوشيتد برس“.
الغاز الروسي.. عكاز القارة العجوز
اعتمدت أوروبا لعقود من الزمن على الغاز الروسي الرخيص، وكانت تغطي نحو ربع احتياجاتها من الطاقة، لكن الأسعار تضاعفت بمقدار عشرة أضعاف ما كانت عليه خلال 2021، وكان لـ”الغزو” الروسي لأوكرانيا دور كبير في ذلك.
وتهدد أسعار الطاقة المرتفعة بالتسبب في ركود هذا الشتاء، من خلال تضخم قياسي يضعف من قدرة المستهلكين على الإنفاق، مع ارتفاع أسعار الغذاء والوقود.
أظهرت بيانات منصة “رفينيتيف آيكون”، وهي واحدة من أكبر مزوّدي بيانات الأسواق المالية عالميًا، أن شحنات خطوط أنابيب الغاز الروسية عبر الطرق الرئيسة الثلاثة إلى أوروبا تراجعت بنسبة 90% تقريبًا في الأشهر الـ12 الماضية.
وكانت روسيا تزوّد حوالي 40% من غاز الاتحاد الأوروبي قبل “غزوها” لأوكرانيا، وانخفضت تلك الحصة إلى 9%، عقب قطع موسكو الإمدادات عن أوروبا، وألقت باللائمة في تخفيض الإمدادات على مشكلات فنية نجمت عن العقوبات الغربية.
وفقًا لأبحاث نشرتها مؤسسة “غولدمان ساكس” (Goldman Sachs) للخدمات المالية، في 8 من أيلول الحالي، قد تواجه عائلة نموذجية في الاتحاد الأوروبي فواتير طاقة بقيمة 500 يورو شهريًا بحلول أوائل 2023، بزيادة 200% على 2021.
الشتاء مقبل
حددت المفوضية الأوروبية اليوم، الأربعاء 14 من أيلول، خططًا لجمع أكثر من 140 مليار يورو لمساعدة الناس في مواجهة أزمة الطاقة التي زادت من احتمالية تقنين الوقود الشتوي وإفلاس الشركات والركود الاقتصادي.
وكشفت عن خطط للحد من عائدات مولدات الكهرباء التي كسبت من ارتفاع أسعار الطاقة، كما وضعت أخرى لإجبار شركات الوقود الأحفوري على تقاسم الأرباح المفاجئة من مبيعات الطاقة.
ولم تتضمن الخطة مقترح الحد من أسعار الغاز الروسي، وأشارت رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لاين، إلى أن اللجنة ما زالت تناقش الفكرة، وفقًا لوكالة الأنباء “رويترز“.
وكان وزراء الاتحاد طلبوا من المفوضية، في 9 من أيلول الحالي، صياغة إجراءات لتخفيض الإيرادات الزائدة من مولدات الطاقة غير الغازية، وخفض استخدام الكهرباء على مستوى الاتحاد، بدلًا من فرض حد أقصى لسعر الغاز الروسي.
وتراجع وزراء الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف عن وضع حد أقصى لسعر الغاز الروسي، الذي حذرت دول من بينها المجر والنمسا من احتمال قيام موسكو بقطع الإمدادات المتضائلة منه، التي لا تزال ترسلها إلى الاتحاد الأوروبي.
كما عارضت ألمانيا وهولندا والدنمارك تحديد سقف عام لأسعار الغاز، وحذرت من المخاطرة بأمن الطاقة الشتوي في أوروبا، من خلال ترك البلدان في سباق العثور على إمدادات في السوق العالمية ذات الأسعار التنافسية للغاز.
على النقيض، تقف كل من إيطاليا وبولندا إلى جانب خطة تحديد سقف لأسعار الغاز، مبررتين ذلك بما يجلبه الإجراء من راحة للأسر والصناعات التي أجبرها ارتفاع الأسعار على الحد من الإنتاج.
“لم تخسر روسيا شيئًا الآن، كما لم تخسر سابقًا”، هذا الشتاء هو آخر فرصة لاستخدام سلاح الغاز بنجاح أم لا. جانيس كلوج، خبير الاقتصاد الروسي في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية. |
فجوة خانقة
تعتبر أسواق الغاز مجزأة على عكس النفط الخام المحدد بسعر عالمي، إذ بلغ سعر الغاز في أوروبا حوالي 34 دولارًا لكل مليون وحدة حرارية، مقارنة بثمانية دولارات فقط في الولايات المتحدة.
تمتلك الولايات المتحدة إمدادات وفيرة لاحتياجاتها المحلية الخاصة، كما تصدّر الغاز عبر خطوط الأنابيب لدول مثل المكسيك وكندا، بالإضافة إلى بعض الغاز الطبيعي المسال المنقول عن طريق السفن.
وعلى عكس افتراضات الاقتصاد القياسي، لن تتقارب أسعار الغاز في الولايات المتحدة وأوروبا في المستقبل المنظور.
وللإبقاء على محطات الطاقة النووية مشغلة، يستعد الأوروبيون للتخلي عن الأهداف المناخية مؤقتًا.
بالإضافة إلى ذلك، تفتقر أوروبا للقدرة على التحول إلى مصادر أخرى لإمدادات الطاقة بكميات مناسبة في وقت قريب.
أوقفت ألمانيا تشغيل محطتين من محطات الطاقة النووية قبل 20 عامًا، وستؤجل إغلاق الثلاث المتبقية، لكن ذلك لن يوفر سوى جزء صغير من احتياجات الطاقة الألمانية.
ولا يمكن تحويل المولدات الأوروبية التي تعمل بالغاز إلى النفط أو الفحم بسهولة، وبالمقابل، يمكن “للحفظ المعزز” أن يساعد دون ملء الفراغ، وفقًا لمجلة “The American Prospect” الأمريكية.
“سلاح الغاز”
رغم تضاؤل مبيعات الغاز، ساعد الارتفاع الكبير بالأسعار في الحفاظ على دخل عالٍ لروسيا، كما أن واردات الطاقة كانت خارج نطاق العقوبات لاعتماد أوروبا الكبير عليها.
وبلغت عائدات روسيا من صادرات الوقود الأحفوري 158 مليار يورو في الفترة من شباط إلى آب الماضيين، وفقًا لمركز “أبحاث الطاقة والهواء النظيف” الفنلندي.
ويميل النفط ليكون مصدر المال الرئيس لـ”الكرملين”، إذ يمكن بيعه في جميع أنحاء العالم عن طريق الناقلات، على عكس الغاز الذي ينقل عبر خطوط الأنابيب الثابتة إلى أوروبا.
من جهته، قال نائب المستشار الألماني، روبرت هابيك، إن “تدفق الغاز من أوروبا لم يعد يقوم بدور في حساباتي، الشيء الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه من روسيا هو الأكاذيب”.
وأضاف، “إذا كان بوتين يعتقد أن لديه أي نفوذ من الغاز، فإن الوقت ينفد بالنسبة له لاستخدامه”.
بالمقابل، هدد بوتين بقطع جميع إمدادات الطاقة إلى أوروبا بحال فرض حد أقصى لسعر الغاز الروسي، وفقًا لصحيفة “غلوبال تايمز” الصينية.
البدائل المدروسة
في 2020، جاءت أكثر من ثلاثة أرباع واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي من دول: روسيا 43%، وكان للنرويج النصيب الأكبر بعدها بنسبة 21%، والجزائر 8%، وقطر 5%.
في حين أن أكثر من نصف الوقود الأحفوري الصلب (معظم واردات الفحم) جاء من روسيا بنسبة 54%، تليها الولايات المتحدة 16%، وأستراليا 14%، وفقًا للمديرية العامة للمفوضية الأوروبية (أوروستات- Euro Stat).
وفي 18 من تموز الماضي، وقعت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، صفقة مع أذربيجان لتزويد الاتحاد الأوروبي بـ20 مليار متر مكعب سنويًا من الغاز الطبيعي بحلول عام 2027.
وقالت أورسولا في بيان، سنضاعف إمدادات الغاز من أذربيجان إلى الاتحاد الأوروبي، ونلتزم بتوسيع ممر الغاز الجنوبي، وأوضحت أن الخط يوفر حاليًا أكثر من ثمانية مليارات متر مكعب من الغاز سنويًا.
وأكدت أن الاتحاد سيقوم بتوسيع طاقته إلى 20 مليار متر مكعب، وشددت على ضرورة أن يصل الإمداد إلى 12 مليار متر مكعب اعتبارًا من العام المقبل، ما يساعد في تعويض الغاز الروسي، ويسهم في أمن الإمدادات الأوروبية، حسب قولها.
–