عنب بلدي – حسام المحمود
“ألو ألو، يعطيك العافيي، معك الملازم أول بو صقر”، بهذه البطاقة التعريفية التي تطغى فيها جدية الصوت الملوّن بلهجة ساحلية واضحة، يجري الشاب السوري يمان نجار حلقات البث المباشر عبر تطبيق “تيك توك”، مستهدفًا في كل اتصال شخصًا من العاملين في إحدى المؤسسات التابعة للنظام، سواء كانت أمنية أم لا.
وعبر هذه الاتصالات المسجلة بالكامل، يختار الشاب من يتصل بهم بناء على “تزكيات” متابعيه، إذ يتحدث أحدهم عن فساد شخص ما هنا، أو انتهاك معيّن يرتكبه آخر هناك، ما يعني بالضرورة مكالمة بين الشخص المذكور و”الملازم أول بو صقر”.
ورغم أن أسلوب الاتصالات هذا، وتمريره كـ”خدعة” أو “مقلب”، ليس جديدًا على نجار، باعتباره ينشر تسجيلات مصوّرة من هذا النوع منذ ما لا يقل عن سنتين، ويركّز فيها على التسلية، وإجراء المقالب دون تحديد، عبر الاتصال بأشخاص من جنسيات عربية مختلفة، فإن توجه نجار بدا واضحًا مؤخرًا، لتغيير مسار موضوعات مقالبه، وجعل طرفي الاتصال الهاتفي سوريين.
المقالب والاتصالات، والحديث أو محاولة الحديث مع أحد الأفراد أو الموظفين أو المسؤولين ضمن مناطق سيطرة النظام، سبقتها أكثر من تجربة سورية في هذا السياق، لكن ما اختلف اليوم زيادة في منسوب التأثير باتجاهين، أحدهما دفع خلاله “بو صقر” عسكريًا للفرار إلى تركيا، إلى جانب زيادة المتابعة، باعتبار أن الأسلوب أخف حدّة.
سكرتير “رابطة الصحفيين السوريين”، صخر إدريس، اعتبر الحالة التي يقدّمها نجار أو أي شخص آخر قد يشارك أو يحاكي أو يطور تجارب من هذا النوع، ذات منحى إيجابي، إذا خلت من السباب والشتائم خلال الحديث، معبّرًا عن عدم اقتناعه بجدوى استخدام التجريح واللهجة الهجومية في الحوار، كونه يمتص أهمية الاتصال، ولا سيما عند تفاوت أسلوب الشخص (مجري الاتصال أو المقلب) في التعاطي بين مسؤول أو متلقٍّ للاتصال وآخر.
وقال إدريس في اتصال عبر تطبيق “واتساب”، مع عنب بلدي، “إذا كانت هذه الاتصالات بلا جدوى ولا يُعتد بها في أروقة المحاكم، فهي تبقى على الأقل في ذاكرة الشعب السوري، وتسهم في تكوين وعي الشارع، وإيصال صورة واضحة عن مطالبه المحقة”.
كما أشار إلى أن المكالمة إلى جانب فحواها وما يدور فيها من حوار، فهي تحمل جزئيًا حس فكاهة، عبر التركيز أكثر على “الدعابة والمقالب”، ما قد يدفع الجهات التي تُستهدف عادة إلى أخذ احتياطاتها.
وحول جدوى استخدام المكالمات والمقالب بالنسبة إلى الثورة السورية، أوضح إدريس أن تعويل السوريين لا يتوقف عند هذا الحد الذي لا يعدو كونه ترضية نفسية بعض الشيء، لأن الاتصالات أيًا كان فحواها وما يدور خلالها من اعترافات ربما، غير كافية للشارع السوري، ما لم تتبعها محاسبة.
دليل إدانة؟
حول الجدوى القانونية مما قد يرد في اتصالات يمان نجار وغيره من اعترافات تتراوح بين المقصود، وما يخرج تحت تخدير الغضب، أو “سحب الكلام”، باعتبار أن المسألة لم تخلُ من حالات من هذا النوع، أوضح رئيس “تجمع المحامين السوريين الأحرار”، المحامي غزوان قرنفل، لعنب بلدي، أن كل ما يصدر في سياق هذه الاتصالات ويسمى “معلومات”، لا قيمة قانونية له، ولا يمكن وضعه ضمن ما يسمى أدلة في ملفات قضائية تتعلق بالمحاسبة، ولا سيما أن المعلومات في حال كانت صحيحة، فالحصول عليها جرى بطريقة احتيالية.
الباحث في “المركز السوري للحريات الصحفية” التابع لـ”رابطة الصحفيين السوريين” محمد الصطوف، لا يتفق مع رأي قرنفل تمامًا بهذا الصدد، باعتبار أن المنظور القانوني حساس، ولا جواب حاسم للقضية، كما أن المحاكم الجزائية تترك الموضوع لتقدير القاضي، فيأخذ ويُهمل ما يريد من الأدلة.
وقال الصطوف لعنب بلدي، “أرى أن ما يُبث يمكن أن يؤخذ على سبيل الاسترشاد والاستئناس، بشرط أن يكون الموضوع حساسًا”، مشيرًا في الوقت نفسه إلى حالة التأثير العامة التي شكّلها يمان نجار، وكشفها بشكل جزئي عن حالة هشاشة في بنية النظام، وكيفية تحرك أجهزته الأمنية وغير الأمنية، وحتى الإدارات والمؤسسات.
وأمام بوادر توجّه نحو هذا الأسلوب، وتحويله إلى ظاهرة متصاعدة عبر الوقت، فالفكرة تكمن في وقوع أجهزة النظام المختلفة بشكل متكرر في المقلب، إن صح التعبير، وخوفها من لهجة معيّنة على الهاتف أو من رقم مجهول.
وبحسب الباحث، فمن المبكر الحديث عن صلاحية هذه الاتصالات للاستخدام كأدلة محاكمات، في ظل وجود أدلة تثبت ارتكاب النظام أو الميليشيات التابعة له انتهاكات وجرائم بحق الشعب السوري، وهي أدلة وثّقتها منظمات حقوقية سورية ودولية، لكن مسار العدالة “متعثّر” في المنظومة الدولية تجاه ملف الانتهاكات في سوريا، بفعل تدخل دول مثل روسيا والصين وغيرهما.
ليس جديدًا
منذ بداية الثورة السورية عام 2011، كان الظهور الأول لهذا الأسلوب على الساحة السورية، من خلال الاتصال بفنانين أو ضباط في قوات الأمن التابعة للنظام السوري، للتعليق على مجريات الأحداث التي كانت في طور البداية، بما تحمله من فورة الغضب وكسر جدار الصمت والخوف، والحديث لأول مرة وبشكل موثّق بموضوعات وقضايا ظلت حبيسة التحريم الأمني في سوريا عقودًا من الزمن.
“حسين جبري” (أبو زهير)، الاسم الذي افتتح هذا الأسلوب، ليوجه رسالته لأفراد من السلطة، ومؤمنين بشرعية تعاطيها مع الحراك السلمي الشعبي حينها، خالطًا النكتة والدعابة بالحديث الموضوعي، الذي قد يتعدى في بعض الاتصالات إلى السباب والشتائم، وفقًا للشخص الذي يستهدفه اتصال “أبو زهير”.
وعبر هذه الاتصالات، وفي أيلول 2011، أجرى حسين جبري اتصالًا مع الضابط في “المخابرات الجوية” حينها بشار عوض، الذي حاول استمالة “أبو زهير” من خلال “التملص طائفيًا من النظام”، قبل أن يشتم الصحابي عمر بن الخطاب، ويعترف بقتله الناشط السوري غياث مطر.
اتصالات “حسين جبري” التي تحضر في كثير منها السخرية بوضوح، كشفت وجهًا آخر لبعض الشخصيات التي يضعها الشارع السوري ربما في منزلة نخبوية.
وفي مكالمة أخرى مع الممثل بشار إسماعيل، غطت الشتائم المتبادلة على الاتصال، كما أتبعها إسماعيل بشتم النبي محمد، بينما اختلف أسلوب الحوار في اتصال “أبو زهير” مع الممثل مصطفى الخاني، إذ خلت المكالمة التي امتدت لنحو ثلث ساعة من الشتائم والتجريح والسباب، وكانت بمنزلة حوار وتبادل وجهات نظر تمسك خلالها كل من طرفي الاتصال برأيه.
وفي وقت لاحق، ظهرت الناشطة السورية ميسون بيرقدار، من بوابة الاتصالات والمقالب أيضًا، مستهدفة هذه المرة مناصب أرفع، وشخصيات أكثر ثقلًا في هرم سلطة النظام.
هذه الاتصالات التي لطالما كان ختامها شتائم، خففت من وطأتها مع بعض متلقي الاتصال، كالممثل عاصم حوّاط، في مكالمة أبدى خلالها حوّاط ابتعاده عن السياسة، ورفضه في الوقت نفسه انتهاكات مثل مجزرة “التضامن“، التي كشف عنها تحقيق لصحيفة “الجارديان” البريطانية، صدر في نيسان الماضي، ووثّق مقتل 41 شخصًا على يد قوات النظام في حي التضامن بالعاصمة السورية، دمشق، ودفنهم في مقبرة جماعية، في نيسان 2013.
ومما أثار مؤخرًا موجة من التفاعل، الاتصال الذي أجرته بيرقدار مع المعلّق الرياضي الجزائري حفيظ درّاجي، على خلفية حديثه عبر “تويتر” عما اعتبرها “خيانة السوريين وبيعهم وطنهم وقضيتهم وشرفهم وتدميرهم بلدهم” من أجل إسقاط “رئيسهم”، وذلك في معرض رده على تغريدة للمذيع في قناة “الجزيرة” فيصل القاسم، انتقد خلالها حديث الجزائر عن مساعيها للمّ شمل العرب في “القمة العربية” المزمع انعقادها مطلع تشرين الثاني المقبل في الجزائر.
درّاجي الذي حاول ترميم تغريدته الأولى بأخرى أبدى خلالها تضامنه مع “إرادة الشعوب في التغيير”، استقبل اتصالًا من بيرقدار التي عرّفت بنفسها كموظفة في “القصر الجمهوري” تشكره على موقفه، وبعث عبرها سلامًا لرئيس النظام السوري، بشار الأسد.
وفي وقت لاحق، تحدّثت بيرقدار عن توجه درّاجي لرفع دعوى ضدها لـ”طردها” من دول الاتحاد الأوروبي.