تعا تفرج
“حسين طه” ونهاية عصر النهضة
خطيب بدلة
كتب الصحفي اللبناني إلياس خوري مقالة في “القدس العربي”، احتج فيها على تعرض ضريح المفكر طه حسين للهدم، بذريعة توسيع الطريق المتاخم للقَرَافة (المقبرة)، وإنشاء محور مروري، وقد ضمّن مقالته خبرًا مفادُه أن فرنسا أبدت استعدادها لاستقبال رفات هذا المفكر الكبير، ودفنه في ضريح يليق به.
لا يوجد ما يمنع من افتراض سوء النية بالجهة التي ستزيل ضريح طه حسين، ولكن حُسن النية، أيضًا، غير مستبعد، فربما كان واضعو مخطط إزالة القَرَافة لا يهتمون لنوعية الأموات المضطجعين فيها، يعني عميد أدب عربي، شعر جاهلي، لا فرق، أو ربما كانوا متأثرين بفلسفة أبي العلاء المعري التي لخصها في قصيدته “غير مجد في ملتي واعتقادي”، قائلًا إن رفات عباد الله ما فتئت تتراكم تحت الأرض، ميت على ميت، منذ آلاف السنين، وتتحلل، وتندمج مع التراب، حتى ليخال المرءُ أديم الأرض مصنوعًا من أجساد البشر.
من الحكايات الفكاهية التي كنا نتداولها، أيام شبابنا، أن العم أبا عوضين، حضره الموت، ومعلومٌ أن مَن يبلغ لحظة الموت يصبح فيلسوفًا حكيمًا، لذا استدعى أولاده، وقال مخاطبًا كبيرَهم: يا ابني يا عوضين، شرب المَلّيسة بعد وجبتين، مثل قراءة دستويفسكي بعد طه حسين!
ومع أن بعض الناس ضحكوا للنكتة، وآخرين اعتبروها “بايخة”، إلا أنها، كما أرى، تنطوي على تقدير للمفكر التنويري طه حسين، فالمرحوم أبو عوضين فضّله على مؤلف “الإخوة كارامازف” شخصيًا، ووالله معه حق، فطه حسين لم يسبق عصره فقط، بل سبق عصرنا نحن الذين جئنا بعده بمئة سنة، فنحن أثبتنا له وللتاريخ، بتفكيرنا وأفعالنا، أننا نتطور بسرعة، ولكن “أنرييه”!
يأخذنا هذا الاستنتاج إلى حكاية أخرى، وهي أن الجهات المختصة في سوريا المناضلة، عَيّنت لإحدى المؤسسات الثقافية في إحدى المحافظات الكبرى مديرًا، اسمه حسين طه، وكان رجلًا ضحل الثقافة، ضعيف الهمة، بطيء البديهة، جبانًا، أول شيء يفعله عندما يستيقظ في الصباح، وقبل أن يتناول فنجان القهوة (أو ربما كأس المليسة)، أن يستمع إلى نشرة الأخبار، من الإذاعة السورية حصرًا، ويقرأ كل الصحف والمجلات المتاحة، بما فيها مجلة “الحرفيين”، ومجلة “الطليعي”، وصحيفة “الجماهير”، ويراجع بضع الصفحات من كراس المنطلقات النظرية لحزب “البعث”، ومنهاج التثقيف الحزبي، خشية أن يزل لسانه في أثناء الدوام، أو يصدر عنه تصرف، أو تصريح أعوج، يجعل الجهات المختصة تغضب منه، وتطلب منه ترك رئاسة هذه المؤسسة، والتفرغ لحب الوطن المعطاء. وبناء على هذا، أطلق أحدُ المثقفين السوريين حكمة لا تقل بلاغة عن حكمة أبي عوضين، إذ قال: إن عصر النهضة العربية قد بدأ مع طه حسين وانتهى مع حسين طه!
ومن علائم تقدمنا بسرعة، نحن أبناء القرن الـ21، باتجاه “أنرييه”، هو أن مثقفًا مناضلًا، كنا نظن أنه سيكون من كبار التنويريين، شاهد الصور التي نشرتها وكالة الفضاء “ناسا”، فجلس يتمسخر عليها، ويقول بأن العلم شغلة فاضية، ونحن، أبناء هذه الأمة الذاهبة نحو الانقراض، لا ينفعنا شيء مثلما ينفعنا الجهل، وتبني الغيبيات!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :