عنب بلدي – صالح ملص
يعد ظهور المؤسسات الإعلامية السورية المستقلة بعد 2011 تحديًا لتقديم قطاع إعلامي بديل عن بنية الإعلام الحكومي، خارج إطار ملكية الدولة أو رجال الأعمال، من صحف وإذاعات وقنوات فضائية، تتسم معلوماتها ونشرات أخبارها بالموضوعية والمسؤولية الأخلاقية، وتعدد الآراء، يؤسسها ويديرها أفراد ملتزمون بالقيم المهنية، ولا تربطهم صلات بأي جماعات سياسية أو غيرها من التكتلات المختلفة المصالح.
وبسبب غياب القوانين السورية الحامية لحرية التعبير، احتاجت تلك المؤسسات الإعلامية البديلة إلى آليات التنظيم الذاتي لضبط عملها، في الوقت الذي تتحكم فيه الجهات الحكومية في سوريا من خلال أدواتها الإدارية والقانونية بجميع القطاعات الإعلامية، وتنحصر وظيفتها في شرح سياسات الدولة والحزب الحاكم ومواقفها وتعبئة الجماهير لتأييدها.
ينص النظام الداخلي لوزارة الإعلام السورية في المادة رقم “3” على أن “تكون مهمة وزارة الإعلام استخدام جميع وسائل الإعلام لتنوير الرأي العام، وترسيخ الاتجاهات القومية العربية في القطر، ودعم الصلات مع الدول العربية والدول الصديقة وفقًا لمبادئ حزب (البعث العربي الاشتراكي) وسياسة الدولة”، ولا تزال أجهزة الدولة عبر مؤسساتها الحكومية وأجهزتها التنفيذية تتحكم بجميع مفاصل العملية الإعلامية، بحسب منظمة “Freedom House“.
ويعتبر معدل حرية التعبير والاستقلالية في وسائل الإعلام السورية ضمن المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري صفرًا من أربعة، بحسب مؤشر حرية الصحافة الخاص بالمنظمة لعام 2022.
كما تحتكر الدولة منح تراخيص إنشاء مؤسسة إعلامية وسحبها، وذلك من خلال إعطاء الحق المطلق في هذا الأمر إلى رئيس مجلس الوزراء، بناء على اقتراح وزير الإعلام، بالإضافة إلى عدم وجود قانون للحق في الوصول إلى المعلومات من قبل الصحفيين.
الحاجة إلى التنظيم الذاتي
التقييد الحكومي للإعلام في سوريا، أفرز حاجة المؤسسات المستقلة في هذا القطاع لامتلاك تجربة إنشاء آليات التنظيم الذاتي في سياق عمل المؤسسات الإعلامية البديلة عن وسائل إعلام الدولة، التي أسستها تلك المؤسسات لنفسها من أجل احترام أخلاقيات المهنة، وكعلاج لأزمة مصداقية الإعلام في البلد.
في عام 2015، صدر عن مجموعة من وسائل الإعلام السورية البديلة ميثاق جامع ينظم عملها، تحت اسم “ميثاق شرف للإعلاميين السوريين”، ضمن منظمة مستقلة غير حكومية لا تتبع لأي جهة.
وأنشأت هيئة الميثاق نظامًا خاصًا بالشكاوى مستقلًا عن إدارة الميثاق، في مطلع شباط الماضي، بهدف تطوير الممارسة الإعلامية، ورفع الجودة المهنية للمحتوى الصحفي المنشور في وسائل الإعلام السورية المختلفة، وللتعامل مع الشكاوى الواردة من مستخدمي هذه الوسائل بشأن الانتهاكات المحتملة لأخلاقيات الصحافة.
وظهر هذا النوع من هيئات التنظيم الذاتي للصحافة لأول مرة في السويد عام 1916، ثم أُسست فيما بعد في أغلبية دول الاتحاد الأوروبي وبعض دول العالم.
وتعرّف “يونسكو” مدوّنات الأخلاق الصحفية على أنها هيئة جماعية مستقلة عن السلطة السياسية، مهمتها اتخاذ القرارات الخاصة بمعالجة شكاوى المواطنين ضد المؤسسات الإعلامية أو المتصلة بتجاوزات الصحفيين.
حق الأفراد بمراقبة الإعلام
يعمل نظام الشكاوى ضمن الميثاق على أي انتهاك مهني صادر عن أعضاء الميثاق فقط، البالغ عددهم في الوقت الحالي 26 مؤسسة من صحف وإذاعات وقنوات فضائية.
وبحسب ما قالته رئيسة مجلس إدارة “ميثاق شرف للإعلاميين السوريين”، غصون أبو الدهب، لعنب بلدي، فإن “من حق أي شخص تقديم شكوى على المؤسسة التي تنشر مادة صحفية تنتهك حقًا من حقوقه، أو تحرض على العنصرية، أو على خطاب الكراهية، أو لاستخدامها صورة تخصه موضوعة بغير محلها وتخترق خصوصيته”.
وآلية الشكوى غير معقدة، فضمن كل مادة منشورة بوسيلة إعلامية هناك أيقونة مقرونة مباشرة ببريد إلكتروني خاص بلجنة الشكاوى، ومن مهام هذه اللجنة التحقيق في الشكوى المتعلقة بالمحتوى الصحفي المنشور على هذه الوسيلة.
وفي هذه الحالة، وسيلة الإعلام التي وُجهت الشكوى ضدها، لا تكون لديها قدرة الاطلاع على مضمون الشكوى، وفق ما ذكرته أبو الدهب، “حرصًا على موضوع الشفافية، وكي تذهب الشكوى إلى الجهات المختصة، دون تدخل أي جهة أخرى”.
ولا يمنع أن تكون الوسيلة الإعلامية منضمّة إلى لجنة الشكاوى دون انضمامها إلى “ميثاق شرف”، وفق ما أوضحته أبو الدهب، كون هناك استقلالية تامة عن إدارة الميثاق بتصويب الأخطاء المهنية، وإصدار التقارير المتعلقة بانتهاكات قواعد المهنة.
التزام ضمني
هذا التنظيم الذاتي في بلدان العالم، هو آلية تنظيمية تضمن مهنية ممارسة العمل الصحفي، حين تقترن بضمانات دستورية وتشريعية صارمة ومحددة، وتعد نقطة مرجعية أساسية توجه الصحفيين بشأن دورهم وحقوقهم وواجباتهم، وكيفية أداء عملهم على أفضل وجه.
ويعد الإطار القانوني والتنظيمي في الدول الأداة التمكينية لضمان قدرة الصحافة على القيام بعملها دون عوائق.
بالنسبة إلى لجنة الشكاوى في “ميثاق شرف”، يعتمد أعضاؤها على المرجعيات الأخلاقية والأعراف المهنية لمهنة الصحافة، وجميع قراراتها ذات إلزام أخلاقي وأدبي، وفق ما أوضحته أبو الدهب، إلا أن هذه القرارات غير ملزمة قانونيًا، ولا ينشأ عنها أي إجراءات قضائية أو عقوبات مالية.
ولكن، حين تنضم وسيلة إعلامية معيّنة إلى لجنة الشكاوى بمحض إرادة القائمين على هذه الوسيلة، فهي تعلن ضمنيًا التزامها بجميع الضوابط والمبادئ التي تعمل عليها لجنة الشكاوى، والتزامها أيضًا بتنفيذ جميع القرارات الصادرة عن أعضاء اللجنة، التي تضم خبراء قانونيين وصحفيين يملكون خبرة واسعة في العمل الصحفي.
وبالتالي، فإن انضمام الوسيلة الإعلامية إلى نظام لجنة الشكاوى، هو الضمان الأساسي لالتزامها بأي تحقيق قد يبحث في انتهاك معيّن نشرته في موادها الصحفية.
كما أن الوسائل الإعلامية المستقلة المنضمة إلى لجنة الشكاوى ستحرص على أن تكون سمعتها المهنية سليمة من أي شكاوى تجاهلت معالجتها، أو أي مخالفة صدرت عنها، كون من أبرز مهام اللجنة هو إصدار التقارير والأحكام المتعلقة بهذه الخروقات، وستكون هذه التقارير مرجعية لأي جهة تنوي تمويل وسائل الإعلام السورية المستقلة، ومن مصلحتها أن يتجه هذا التمويل إلى المؤسسات المنضبطة بأخلاقيات مهنة الصحافة.