عنب بلدي – لجين مراد
“طلبت إحدى الجهات الإعلامية مني الحديث عن تعليق النساء من أثدائهن، باعتباره أحد أساليب التعذيب الجنسي التي تتعرض لها النساء”.
هذا ما قالته لعنب بلدي صبا (35 عامًا)، إحدى الفتيات اللواتي عشن تجربة الاعتقال في أحد أفرع “المخابرات الجوية” التابعة لقوات النظام السوري، لتُظهر الجانب الآخر من حديث الإعلام حول التعذيب الجنسي في المعتقلات.
ويسهم توثيق الانتهاكات المرتكَبة داخل مراكز الاحتجاز بإدانة النظام السوري، ويعتبر تسليط الضوء على هذه القضية ضرورة للحفاظ على السردية الحقيقية، والتأكيد على المسؤولية الإنسانية للمجتمع الدولي ومنظمات المجتمع المدني تجاه المعتقلين.
وخلال السنوات الماضية، ظهرت العديد من البرامج الإعلامية عبر وسائل إعلام سورية، لنقل شهادات الناجين والناجيات من الاعتقال.
ورغم الأثر الكبير الذي يتركه الحديث عن الجرائم المرتكَبة داخل المعتقلات، ضجت وسائل الإعلام بحوادث حول التعذيب الجنسي داخل المعتقلات، وصلت إلى حد “التهويل”، وقوبلت بالتشكيك على وسائل التواصل الاجتماعي.
الحقيقة كافية
عملت عشرات المنظمات الحقوقية خلال السنوات الماضية على إصدار تقارير توثّق الانتهاكات المرتكَبة داخل المعتقلات في سوريا، بطريقة منهجية وعلمية.
وحملت العديد من التقارير أدلة تدين النظام السوري، وتكشف عن وسائل التعذيب المستخدمة، وبينها التعذيب الجنسي.
هذه الأدلة وغيرها من الحقائق التي يعيشها المعتقل، كافية لتظهر “وحشية” النظام السوري، بحسب ما قاله مؤسس “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، دياب سرية، خلال مقابلة أجرتها معه عنب بلدي في مكتبها باسطنبول، منتقدًا المبالغة بسرد تفاصيل الاعتقال، خاصة المرتبطة بالتعذيب الجنسي.
“(بكرا بس تطلعوا ما حدا رح يصدقكم)، عبارة سمعها مرارًا معظم من عاش تجربة الاعتقال”، أضاف سرية، واصفًا “الهمجية والوحشية” المرتكَبة داخل مراكز الاحتجاز، ما يجعل الوقائع دليلًا يدين النظام السوري دون الحاجة إلى تهويل، وفق تعبيره.
وترى إحدى الناجيات من الاعتقال، صبا (تحفظت على ذكر اسمها الكامل لأسباب أمنية)، أن عدم التهويل والحفاظ على سرد الحقيقة ليس إنكارًا لجرائم النظام، بل تأكيد على أن ما عاشه المعتقل جريمة حقيقية لا يتطلّب إثباتها الكذب أو المبالغة، وفق تعبيرها.
ولا يختلف رأي الناجية نورة الهبول، لعنب بلدي، حول التعذيب الجنسي، إذ اعتبرت أن انتهاكات النظام وحوادث التعذيب الجنسي حقيقة لا يمكن إنكارها، لكنها لا تُعمّم ولا يتطلّب إثباتها التهويل من قبل ضحاياها.
لماذا التهويل
يحمل الحديث عن الاعتداءات الجنسية داخل المعتقلات حساسية نظرة المجتمع إلى الأمر، لكنها من أبرز الانتهاكات التي تُتهم بالتهويل في كثير من الأحيان.
هذا ما أرجعه مؤسس “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، دياب سرية، إلى رغبة وسائل الإعلام والناجين والناجيات بتسليط الضوء على قضاياهم، وجذب الاهتمام نحوها.
كما قالت صبا، إن العديد من الناجين والناجيات ووسائل الإعلام، يعتقدون أن التهويل يمكن أن يحقق العدالة لقضيتهم.
“النظام ضرب كيماوي وما حدا حكى”، هذا ما قالته صبا، معتبرة أن المشكلة الحقيقية وأسباب صمت المجتمع الدولي ليس حجم الكارثة التي عاشها السوريون، وأن المبالغة بالحديث عن التعذيب الجنسي لن تحل المشكلة.
وسائل الإعلام مسؤولة
يضبط عمل وسائل الإعلام أخلاقيات مهنية أبرزها المصداقية والشفافية، إلى جانب وجود ضوابط بالتعامل مع المصادر.
ويشكّل عدم الالتزام بهذه الأخلاقيات في قضية مثل التعذيب الجنسي، ضررًا كبيرًا على الشاهد والمتلقي.
ويعتبر تكرار سرد تفاصيل التعذيب الجنسي وغيره من أساليب التعذيب بمنزلة إعادة الصدمة للناجين والناجيات وذوي المعتقلين، بحسب ما قاله دياب سرية.
وأضاف سرية أن للتعذيب الجنسي حساسية كبيرة لدى المجتمع، وأن غياب الدقة والمهنية بالتعامل مع هذه القضية من قبل وسائل الإعلام، يتحول إلى أذى يظهر أثره مع مرور الوقت.
وحمّل سرية وسائل الإعلام مسؤولية التحقق من حديث الناجين والناجيات، خاصة في حال ابتكار طرق تعذيب غير التي صارت معروفة بالنسبة للجميع، حسب تعبيره.
واعتبرت الناجية من الاعتقال نورة الهبول، أن من مسؤولية وسائل الإعلام تجاه هذه القضية كشف ما يحدث داخل مراكز الاحتجاز، بشرط أن تحافظ على مصداقيتها، وألا يقتصر هدفها على تقديم “مادة إعلامية مؤثرة”، وفق قولها.
اختصاصية الدعم النفسي في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، ضمن مشروع “مركز العائلة”، سلوى عرابي، قالت إن تجربة الاعتداء الجنسي داخل المعتقل من أصعب أنواع التعذيب وأشدها أثرًا على الناجي، باعتبارها تستهدف خصوصية وكرامة الإنسان.
“حديث الإعلام حول التعذيب الجنسي يجعل النساء اللواتي تعرضن لهذا النوع من التعذيب يشعرن بالعار ولوم الذات، إن لم يكن ضمن إطار علمي متخصص”.
اختصاصية الدعم النفسي في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” ضمن مشروع “مركز العائلة” سلوى عرابي |
ويعدّ إجبار النساء من قبل بعض وسائل الإعلام على ذكر تجاربهن، إعادة اختبار للانتهاك الذي تعرضن له، ما يؤخر فرصة تجاوز أثر الانتهاك، بحسب ما قالته عرابي.
وتوجد العديد من الطرق العلمية عند الحديث عن تجربة مشابهة، إذ يجب عدم تحفيز الضحايا أو تشجيعهم على ذكر تفاصيل حول هذه التجربة، أضافت عرابي.
كما يحمل المتحدث إلى الناجية مسؤولية من خلال ردود فعله على حديثها، إذ تلعب دورًا بإعطاء الناجية مساحة آمنة وتجنيبها الشعور بالذنب.
وأشارت الاختصاصية النفسية إلى أن النساء اللواتي تعرضن لهذا الانتهاك، يحتجن إلى علاج طبيعي ونفسي في المرتبة الأولى.
“المبالغات تنسف جزءًا كبيرًا من سردية الاعتقال وتفتح بابًا للتشكيك، والمبالغة من قبل شخص تضع جميع سرديات المعتقلين الآخرين أمام خطر التشكيك والتكذيب”
مؤسس “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، دياب سرية |
ولا يزال حوالي 154 ألفًا و398 شخصًا، بينهم 5161 طفلًا وعشرة آلاف و159 سيدة، قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا، منذ آذار 2011 وحتى آب 2022، بحسب تقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” الصادر في 30 من آب الماضي.
وفي تقرير آخر، وثّقت “الشبكة السورية” حوالي 11 ألفًا و523 حادثة عنف جنسي ضد الإناث على يد أطراف النزاع، منذ آذار 2011 وحتى آذار 2022، بينها ثمانية آلاف و13 حادثة على يد قوات النظام السوري.