عنب بلدي – جنى العيسى
نهاية آب الماضي، قالت العميدة السابقة لكلية الاقتصاد في محافظة القنيطرة جنوبي سوريا، رشا سيروب، إن التضخم في سوريا، بناء على عدة معطيات، سيصل إلى ذروته في الشتاء المقبل، مضيفة أن الغذاء والطاقة سيدفعانه نحو “الجموح” (التضخم الجامح).
واستندت سيروب في توقعاتها إلى مستويات التضخم العام التي تأثرت بانتشار فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) منذ بداية 2021، و”الغزو” الروسي لأوكرانيا في شباط الماضي، الذي أثّر في إمدادات الطاقة والغذاء على وجه الخصوص.
كما سيكون لتغيّر المناخ الأثر في جعل إنتاج الغذاء العالمي أكثر تقلبًا، ويدفع الأسعار إلى الارتفاع، بحسب سيروب.
تناقش عنب بلدي في هذا التقرير، احتمالات وصول سوريا فعلًا إلى مستوى التضخم “الجامح”، وأسباب ذلك في حال حدوثه، مع الإشارة إلى معدلات التضخم الحالية وتوقعات مستوياتها في المستقبل القريب.
سوريا تعيش حالة متطرفة للركود
بناء على ما يجري في سوريا اليوم من ارتفاع في أسعار السلع الأساسية، يعتبر نوع التضخم الموجود حاليًا حالة متطرفة للركود التضخمي، وهو من أسوأ الأوضاع الاقتصادية التي من الممكن أن تصل إليها أي دولة، بحسب ما قاله الباحث الاقتصادي زكي محشي.
ما الركود التضخمي (Stagflation)هو مصطلح يصف الاقتصاد الذي يعاني خللًا، إذ تستمر الأسعار بالارتفاع، بينما ينخفض النمو الاقتصادي، ويرتفع معدل الزيادة لإنتاج السلع والخدمات. |
وأوضح الباحث لعنب بلدي، أن هذه الحالة تتمثل بارتفاع كبير بالأسعار الاسمية للسلع، يترافق مع انخفاض كبير بالإنتاج المحلي، أو انخفاض كبير بمعدلات النمو الاقتصادي، وارتفاع كبير بمعدلات البطالة.
ومن أبرز الأسباب العامة للركود التضخمي أو للتضخم في سوريا من وجهة نظر اقتصادية، نقص المعروض السلعي، وندرة بعض السلع، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها بالعملة المحلية، ونتيجة لانهيار الإنتاج المحلي، والاعتماد بشكل أساسي على الاستيراد بالقطع الأجنبي، فإن ذلك سيرفع حتمًا الأسعار الاسمية للسلع.
وبما أن حالة الركود التضخمي في سوريا تترافق مع انخفاض كبير بمعدلات النمو الاقتصادي، وارتفاع كبير بمعدلات البطالة، فهنا يمكن أن نطلق على نوع التضخم الحاصل “حالة متطرفة للركود التضخمي”، وفقًا للباحث الاقتصادي زكي محشي.
هل نصل إلى التضخم “الجامح”؟
يعتبر التضخم “المفرط” أو “الجامح” (Hyperinflation)، أحد أنواع التضخم الناتجة عن زيادة عرض النقد في السوق، ما يؤدي إلى انخفاض قيمته الشرائية.
ويعرفه الاقتصاديون بأنه الحالة التي يزيد فيها معدل الارتفاع في الأسعار على 50% شهريًا، وهو بشكل عام معدل مرتفع جدًا للزيادة في أسعار السلع والخدمات، وعليه فإن التضخم “الجامح” هو حالة من التضخم الحاد الذي تأخذ فيه معدلات الزيادة في الأسعار نحو 1300% سنويًا أو أكثر.
وفي حالات التضخم الجامح الحاد، تصل معدلات الزيادة في الأسعار إلى أرقام فلكية، بحيث تصبح النقود بلا قيمة تقريبًا، وهذه الحالة من أقسى وأخطر أنواع التضخم.
ورغم أن التضخم “الجامح” يعتبر حدثًا نادرًا بالنسبة للدول المتقدمة، فإنه حدث لعدة مرات بالتاريخ في عدة بلدان، كالصين وألمانيا وروسيا والمجر والأرجنتين.
ويمكن أن يحدث التضخم “الجامح” في أوقات الحرب، وفي حالة الاضطرابات الاقتصادية باقتصاد الإنتاج الأساسي، بالتزامن مع قيام البنك المركزي بطباعة مبالغ زائدة من المال.
من جهته، أوضح الباحث الاقتصادي زكي محشي، أنه على الرغم من مستويات التضخم المرتفعة جدًا التي حدثت في سوريا، مثلًا كتقدير أولي ارتفعت الأسعار بحدود أربعة أضعاف بين بداية عام 2021 ومطلع العام الحالي، فإن الحالة لم تصل بعد إلى مستويات التضخم “الجامح”.
ويستبعد الباحث زكي محشي حدوث التضخم “الجامح” في سوريا، أو التوقعات بحدوثه قريبًا، وذلك ضمن الشروط المؤسساتية الموجودة في سوريا، خاصة التدخل الأمني لضبط الأسعار، وتدخل البنك المركزي لسحب السيولة، والأدوات المالية والنقدية الأخرى، كإجبار البنوك على شراء “سندات الخزينة”.
ويعكس الوصول إلى التضخم “الجامح” حالة انهيار لأجهزة الدولة، وعدم قدرتها على السيطرة على الاقتصاد، كما يحدث في فنزويلا حاليًا مثلًا، بحسب الباحث.
وأكد محشي أن التضخم الجامح يعني ارتفاع أسعار السلع سنويًا بمعدل نحو 1500%، بينما في سوريا حاليًا تبلغ معدلات الارتفاع السنوي حوالي 300- 400%.
وبالإضافة إلى الأدوات التي تملكها حكومة النظام، يبدو أن عوامل مرافقة لها تسهم حاليًا بعدم الوصول إلى هذه المستويات، كالدعم المباشر من بعض دول الخليج رغم قيمته “البسيطة”، والتحويلات المالية التي تصل إلى السوريين داخل سوريا عبر ذويهم في الخارج، التي تدعم العملة المحلية وتؤثر إيجابًا على سعر الصرف وبالتالي معدل التضخم في سوريا.
هل تستطيع حكومة النظام منع “الجموح”؟
بحسب الباحث زكي محشي، لا تزال حكومة النظام السوري تملك بعض الأدوات التي تمكّنها من تقليل احتمالية حدوث التضخم “الجامح” في سوريا، عبر عملها على أكثر من صعيد، منها الأدوات المالية والنقدية، التي تحاول الأجهزة الحكومية كالبنك المركزي استخدامها، كرفع سعر الفائدة، وضبط السيولة النقدية الحرة بالأسواق عبر طرح “سندات الخزينة”.
وفي كانون الأول 2021، أعلنت وزارة المالية عن نيتها تنظيم أربعة مزادات للاكتتاب على سندات الخزينة لعام 2022، بقيمة 600 مليار ليرة، بآجال وقيم مختلفة.
كما أصدر مجلس النقد والتسليف، منتصف نيسان الماضي، قرارًا يقضي بزيادة معدلات الفائدة التي تدفعها المصارف العاملة على الودائع والحسابات الجارية الدائنة، وحسابات شهادات الاستثمار بالليرة السورية سنويًا، محددًا قيمتها بـ0% على الحسابات الجارية الدائنة والودائع تحت الطلب، و11% لكل من الودائع لأجل شهر، وشهادات الاستثمار.
كما تضمّن القرار اعتبار معدل الفائدة (11%) الحد الأدنى على الودائع لبقية الآجال، وسط تبريرات بأن هدفه جذب المدخرات وتوجيه التسهيلات نحو الأنشطة الإنتاجية الداعمة للتنمية، وذلك بغية “حماية” استقرار سعر الصرف، بالإضافة إلى عدم ملاءمة أسعار الفائدة التي تدفعها المصارف على الودائع بالليرة السورية للواقع الاقتصادي، ولإعادة هيكلة السيولة لدى المصارف.
ولكن هذه الأدوات لوحدها لا تعتبر كافية، لذا يستخدم النظام الضبط الأمني للأسواق كأداة رئيسة، فبسبب غياب الثقة بين التجار والجهات الحكومية، لن يشتري أحد سندات الخزينة لدولة مفلسة، لذا تمارس الأجهزة الأمنية ضغوطات عديدة على المصارف أو أصحاب رؤوس الأموال، لشرائها من الدولة، بحسب الباحث زكي محشي.
كما تعمل الأجهزة الأمنية أيضًا على ضبط سعر الصرف عبر الأجهزة الأمنية، الذي يؤثر بدوره على معدلات التضخم.
وبالتالي، فإن الأدوات التي تملكها حكومة النظام اليوم “محدودة” بأدوات نقدية وأخرى أمنية، لكنها تنجح عبرها لفترة “مؤقتة” بضبط أو كبح التضخم.
مَن المستفيد من التضخم
لا يعني تحول التضخم إلى “كابوس مرعب” يهدد لقمة عيش كثيرين أنه كذلك بالنسبة لفئات أخرى في سوريا، تزداد دخولها مع كل موجة تضخم تصيب البلاد، أو على الأقل كانت دخول بعضها تتماشى لحظيًا مع مؤشر التضخم، بحسب تقرير أعده الصحفي السوري المتخصص بالشؤون الاقتصادية زياد غصن، نُشر في جريدة “الأخبار” اللبنانية، في آذار الماضي.
وتضم الفئات المستفيدة من ارتفاع معدلات التضخم في سوريا حاليًا، بحسب التقرير، المنظمين، أصحاب المزارع، المقاولين، الصناعيين، الوسطاء، ذوي المهن الحرة، أصحاب الشركات التجارية، وذلك بالاعتماد على دراسة أعدها الباحث الاقتصادي السوري شامل بدران، الذي برر تصنيف هذه الفئات كمستفيدة من التضخم، بكون “دخول معظمها تتسم بالمرونة، والاستجابة السريعة لتغيرات المستوى العام للأسعار”.
بدوره، أكد الباحث الاقتصادي زكي محشي وجود طيف واسع من المنتفعين من ارتفاع معدلات التضخم في سوريا، منهم صغار التجار الذين يعملون على إخفاء بضاعتهم من الأسواق، وطرحها مجددًا حين ارتفاع سعرها، بالإضافة إلى كبار التجار ومنهم المحسوبون على النظام، الذين يخزنون بضائعهم بكميات هائلة، بالإضافة إلى المضاربين على العملة الذين يسهمون بانخفاض قيمة الليرة، الذي يزيد بدوره مستويات التضخم نتيجة عدم الثقة بالعملة المحلية.
توقعات التضخم في سوريا
سيستمر التضخم في سوريا بالارتفاع، رغم وجود الأدوات النقدية والأمنية لدى النظام، وذلك باستمرار وجود مسبباته من انخفاض معدلات النمو، وانخفاض الإنتاج المحلي، وارتفاع معدلات البطالة، وما ينتج عن ذلك من ارتفاع الأسعار الاسمية للسلع، بحسب ما أكده الباحث زكي محشي.
وأضاف الباحث أنه يمكن كبح التضخم في سوريا في حالة واحدة فقط، وهو حدوث تغيير جذري على المستوى السياسي والاقتصادي، الذي يؤدي بدوره إلى العودة التدريجية للإنتاج المحلي، وجذب مشاريع الاستثمار الأجنبي، وإنشاء مشاريع استثمارية، وتحريك العجلة الاقتصادية.
ووفقًا لنماذج الاقتصاد القياسي، من المتوقع أن يتجه معدل التضخم في سوريا إلى زيادة بنسبة 12% في العام الحالي، و9.80% في عام 2023.