مروان فرزات
تمكنت طهران من الوصول إلى اتفاقٍ، وصف بـ “التاريخي“، مع الولايات المتحدة حول مشروعها النووي، ووقعت الاتفاق منتصف تموز 2015، لتبدأ بإزاحة العقوبات المفروضة على اقتصادها من الغرب، ويتحوّل وصف أمريكا في السياسة الإيرانية من “الشيطان الأكبر” إلى “العدو القديم“.
في الوقت ذاته، نلحظ تغييبًا في خطاب الغرب لـ “الثورة السورية“، وتكرار مصطلحات على غرار “مكافحة الإرهاب” و“الحفاظ على مؤسسات الدولة“، رغم اتفاق الدول الكبرى، عدا روسيا، على انتهاكات النظام السوري واتهامه بجرائم “حرب“.
يتعلّق هذا التحوّل بأسباب عديدة، منها حرب “اللوبيات” الخفية، التي تحاول الضغط والتأثير عبر علاقاتها على القرارات الحكومية وسياسات الدول، وأبرزها اللوبي الإيراني والإسرائيلي والعربي في الولايات المتحدة.
تعني كلمة “لوبي” الردهة أو صالة الاستقبال في الفندق، والتي تصلح لاستقبال شخص ما والاجتماع به أو التجول فيها ومراقبة ما يفعله الآخرون من تصرفات، إما بدافع فضولي أو بدافع مهني، ومن خلال هذه المراقبة نستطيع معرفة كيفية التعامل مع هؤلاء الأشخاص وما يجب علينا أن نتخذ من إجراءات حيالهم.
أما اصطلاحًا، فيمكن اختصار تعريف اللوبي بأنه مجموعات منظمة تسعى للتأثير على القرارات الحكومية والتشريعات القانونية والانتخابات، ولكنها لا تخطط لممارسة نفوذ حكومي رسمي، منها ما يعمل داخل بلده ومنها ما يعمل لمصلحة بلده في بلدان كبيرة وذات أهمية عالمية.
واللوبيات غالبًا ما تكون قريبة من الحكومة والبرلمان، كقربها من الشعب، لذلك فهي نقطة الوصل بين الشعب ومؤسسات المجتمع المدني من جهة، وبين الحكومة والبرلمان من جهة أخرى، فهي تضغط على الحكومة لتحقيق مطالب الشعب، كما أنها تلعب دورًا في تهدئة الشعب إذا ثار على الحكومة، فوجودها بات ضروريًا لاستمرار الاستقرار في البلد.
وهنا يجب أن نفرق بين مجموعات الضغط “اللوبيات” ومراكز الثينك تانكس (Think Tanks)، وهي مراكز للأبحاث والدراسات الاستراتيجية، والفرق بينها وبين اللوبيات أنها منظمات غير ربحية ولا تسعى لممارسة ضغوط على الحكومة أو البرلمان، وإنما تكتفي بتقديم النصح لهم من خلال الدراسات التي تقدمها لهم.
وتسعى معظم اللوبيات إلى إنشاء معاهد ومراكز أبحاث خاصة بها أو دعم أحد هذه المعاهد، فمراكز الأبحاث تحتاج إلى تمويل كبير للقيام بعملها، وغالبًا ما يقوم تجار ورجال أعمال كبار بتمويلها لضمان خروج دراسات تثمر تشريعات وقوانين تلبي مصالحهم، أو عن طريق رجال اللوبي من السياسيين الكبار.
وفي مثال الولايات المتحدة الأمريكية، فإن مؤسسة “هيرتيج” ومعهد “إنتربريز“، الذي يعمل به ريتشارد بيريل وليين تشيني، زوجة ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي، معروفان بانحيازهما للمحافظين الجدد.
أما على مستوى مراكز الأبحاث العاملة لصالح دولة ما، فإن “معهد الشرق الأوسط” معروف بانحيازه للدول العربية، بينما يعرف “معهد واشنطن للشرق الأدنى” بانحيازه المطلق لإسرائيل، في حين تنحاز مؤسسة “سلام الشرق الأوسط” للقضية الفلسطينية.
كما تصدر هذه المراكز صحفًا ومجلات، غالبًا ما تكون موجهة بمنشوراتها للسياسيين. فمعظم السياسيين يعتمدون على هذه المراكز للحصول على معلومات معينة، وتكون هذه المقالات المنشورة بمثابة إيعاز للسياسيين في بعض الأحيان.
فالعلاقة بين مراكز “الثينك تانكس” واللوبيات من جهة، وبين السياسيين من جهة أخرى، هي علاقة تكامل. فمعظم السياسيين الأمريكيين تربطهم علاقات وثيقة بمراكز “الثينك تانكس” واللوبيات.
تشير الدراسات إلى أن أكثر من 40% من أعضاء الكونغرس الأمريكي يعملون في شركات اللوبي بعد التقاعد، وهذه أحد مرتكزات اللوبيات، من حيث الاستفادة من خبرات السياسي وعلاقاته. كما تعتمد اللوبيات في عملها على تدريب كوادرها على فنون الحوار والمناقشات والتفاوض والتحالف والإقناع ومعرفة كيفية اغتنام الفرص.
اللوبيات الاجتماعية والثقافية (العاملة داخل بلادها)
تنحصر أهداف هذه اللوبيات داخل البلد فقط، أو في قضايا اجتماعية وثقافية وتربوية واقتصادية وغيرها من القضايا التي تخص هذا البلد. وهذا النوع من الجماعات تعود نشأته إلى أكثر من ثلاثة قرون خلت. وتعتبر “مجموعة مكافحة تجار العبيد” لمؤسسها وليم ويلبرفورس عام 1787 في الولايات المتحدة، من أهم الأمثلة على هذا النوع من الجماعات، فقد نجحت بكسب تأييد شعبي كبير للترويج لفكرتها، وفعلًا تم لها النصر في النهاية وألغيت هذه التجارة عام 1807.
وتعتبر أيضًا كل من “مجموعة الأرض والسلام الأخضر“، والمجموعة التي تشكلت للمطالبة بحظر الأسلحة النووية في بريطانيا، والمجموعة الرافضة لكل الحروب الأمريكية السابقة، التي تشكلت في أمريكا، أحد الأمثلة على هكذا نوع من جماعات الضغط.
وهنا أيضًا يجب أن نذكر مجموعة “فيلق أمريكا” في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تضم كل من شارك في الحرب العالمية الأولى والثانية وفيتنام والخليج وأفغانستان والعراق، وقد أثمرت جهود هذه المجموعة عن تشكيل إدارة شؤون المحاربين التي تقدم كافة الخدمات الاجتماعية والطبية للمحاربين القدماء وأسرهم، عن طريق علاقاتها الواسعة ومؤيديها الكثر في الكونغرس وباقي مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية.
اللوبيات السياسية (العاملة خارج حدود الوطن)
هي مجموعات ضغط تعمل لصالح دولة معينة داخل دولة كبيرة وذات تأثير عالمي، ويعود الفضل في تأسيس هذه المجموعات إلى البعثات الدبلوماسية والمغتربين في تلك الدولة.
فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى والثانية، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية إلى الواجهة، كأكبر قوة مهيمنة في العالم، سعت معظم دول الشرق الأوسط إلى إنشاء مجموعات ضغط تعمل لصالحها داخل الولايات المتحدة، وكانت إسرائيل هي السباقة في هذا المجال، بإنشاء منظمة “إيباك” اليهودية، وهي اختصار لـ “لجنة العلاقات العامة الأمريكية– الإسرائيلية American – Israeil Public Affairs committee“.
اللوبي الإسرائيلي
تعتبر “إيباك” من أقوى وأقدم اللوبيات في أمريكا، وتسيطر تقريبًا على القرار السياسي والعسكري الأمريكي، وتجنده لمصلحة إسرائيل.
تعود نشأة إيباك إلى ستينيات القرن الماضي، وقد سعت منذ تأسيسها إلى لم شمل اليهود في الولايات المتحدة وتوحيد توجهاتهم للدفاع عن إسرائيل والعمل لصالحها، فاليهود نسبتهم لا تتجاوز 3% من سكان الولايات المتحدة الأمريكية، لكن إحصائيات ودراسات لنفوذهم تتحدث عن أن أكثر من 20% من من أساتذة الجامعات الكبرى في أمريكا هم من اليهود، وحوالي 50% من أفضل 200 مثقف في أمريكا وحوالي 60% من كتاب ومنتجي أفضل وأقوى الأفلام والمسلسلات الأمريكية هم أيضًا من اليهود، ناهيك عن الصحف والمجلات والقنوات الفضائية وكبرى شركات النفط والسلاح، وذلك وفق اثنين من الكتاب اليهود المعروفين، وهما سيمور ليبست وإيرل راب، في كتابهما “اليهود والحال الأمريكي الجديد“، المنشور عام 1995، وتتحدث النسب عن العقود الثلاثة التي سبقت نشر الكتاب.
كل هذه الإحصائيات تدل على نجاح اللوبي اليهودي بفرض نفسه كلاعب أساسي في السياسة الأمريكية، من خلال تغلغله الواضح في مختلف مناحي الحياة في المجتمع الأمريكي وتحكمه بها.
كما سعت إيباك منذ بدايات نشأتها، كما معظم اللوبيات، إلى توطيد علاقاتها مع كبار المسؤولين الأمريكيين من نواب ووزراء ومستشارين وغيرهم، وتوجيههم لما يخدم مصلحة إسرائيل داخل الولايات المتحدة وخارجها، إذ تسعى إيباك للسيطرة على مراكز مهمة في مؤسسات صنع القرار الأمريكية وتجنيدها لخدمة مصالحها ومصالح اليهود داخل الولايات المتحدة وخارجها.
وتصرح إيباك على موقعها الرسمي على الإنترنت أن مقابلاتها مع أعضاء الكونغرس الأمريكي تتجاوز 2000 مقابلة سنويًا، تقدم من خلالها تقارير ودراسات استراتيجية عن الشرق الأوسط والعالم ومدى إمكانية الاستفادة من الفرص المتاحة في كل منطقة لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. ولا تعترف إيباك بممارستها ضغوطًا على النواب والسياسيين الأمريكيين، وتقول إنها فقط تقدم لهم النصائح عن طريق هذه التقارير، التي تثمر حوالي 100 تشريع وقانون لصالح إسرائيل سنويًا .
كما تصدر إيباك مجلة “تقرير الشرق الأدنى“، وهي مجلة نصف شهرية تتحدث عن العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية بشكل دوري، وما هي المشاكل التي تواجهها وما الحلول المطروحة.
لا يقتصر اللوبي اليهودي في أمريكا على العمل السياسي فقط، بل يسعى إلى بناء جيل جديد مدرب من اليهود الأمريكيين للدفاع عن إسرائيل في المستقبل، وهو أحد أهداف هذا اللوبي، ومن هنا جاءت فكرة مشروع “اكتب لأجل إسرائيل write on for Israel“، الذي تتبناه صحيفة “نيويورك جويش The New York Jewish Week“.
يهدف المشروع إلى خلق جيل جديد من الأمريكيين اليهود عالي الثقافة والتدريب والإخلاص لإسرائيل للدفاع عنها، يتم التركيز فيه على فئة طلاب الثانوية والجامعات ويتم تدريبهم وتأهيلهم ليصبحوا محامين ومثقفين وإعلاميين يدافعون عن بلادهم في المحافل المحلية والدولية. ويتم إخضاع الطلاب لدورات مكثفة يعرف الطالب خلالها على الصعوبات التي واجهتها إسرائيل والصراعات التي خاضتها لتثبيت وجودها في المنطقة، والأخطار التي تواجهها وتهدد أمنها، حاليًا وفي المستقبل. تتخلل الدورات رحلات وزيارات للطلاب إلى إسرائيل ليتعرفوا على البلاد التي سيدافعون عنها في المستقبل.
يدير المشروع مراسلة قناة “سي إن إن” السابقة ليندا سكيرزر، التي زارت دمشق وعددًا من العواصم العربية عدة مرات. كما يساعدها في إدارة المشروع مجموعة كبيرة من كبار الإعلاميين اليهود في أمريكا.
الأهداف التي يضعها اللوبي اليهودي في أولى اهتماماته عديدة:
1- لم شمل جميع يهود أمريكا والعالم وتوحيد تطلعاتهم وجهودهم في العمل لصالح إسرائيل.
2- الهيمنة على مختلف مجالات الحياة في المجتمع الأمريكي والتحكم بقرارها السياسي والاقتصادي.
3- منع وعرقلة أي قرار من مجلس الأمن لا يصب في مصلحة إسرائيل، عن طريق استخدام ورقة الفيتو الأمريكي.
4- منع وعرقلة الولايات المتحدة من عقد أي صفقات بيع لأسلحة نوعية ومتطورة للدول العربية.
5- منع إيران من الحصول على القنبلة النووية، لتبقى إسرائيل هي الدولة النووية الوحيدة في المنطقة.
6- بناء جيل يهودي جديد مدرب يضمن لها استمرارية عملها للدفاع عن إسرائيل من أخطار الغد.
وقد نجح اللوبي اليهودي بتحقيق عدد غير قليل من هذه الأهداف وغيرها، إلا أنه يواجه عددًا من التحديات التي تؤثر على بقائه كقوة خفية مهيمنة داخل الولايات المتحدة، أحدها الفضائح، التي ترافق نشاطه.
فمثلًا في عام 2005 شهد مكتب إيباك في ولاية فيرجينيا فضيحة من العيار الثقيل، حيث قامت المنظمة باستغلال أحد محللي وزارة الدفاع الأمريكية للحصول على معلومات ووثائق سرية وتسريبها لإسرائيل، وهذه من الأمور التي تعتبر خطًا أحمر في الولايات المتحدة، لما لها من تأثير وتداعيات على الأمن القومي الأمريكي، فاضطرت إيباك إلى فصل الموظفين اللذين قاما بهذا العمل، وهما من كبار الموظفين لديها.
ومن التحديات التي تواجه إيباك أيضًا المنافسة من المنظمات اليهودية الأخرى داخل الولايات المتحدة التي تتهمها بالانحياز لليمين المحافظ، ومنها منتدى إسرائيل للسياسات.
كما تواجه إيباك منافسة من منظمة يهودية أخرى تدعى “مجلس المصلحة القومية“، وهي منظمة تهتم بالمصلحة الأمريكية والأمن القومي الأمريكي، حتى لو تعارض مع أهداف إسرائيل ومصالحها. كما أنها وجهت اتهامات عديدة لإيباك أثناء فضيحة التجسس.
ولابد من ذكر التحدي الأقوى الذي يواجه هذا اللوبي في أمريكا، وهو المنافسة من اللوبيات الأخرى، ومنها اللوبيات العربية واللوبي الإيراني.
اللوبي الإيراني
شهدت الولايات المتحدة موجتين من الهجرة الإيرانية في القرن الماضي، أولها كانت مطلع عام 1960، وضمت العائلات الغنية التي تبحث عن الاستقرار السياسي للعمل والتجارة، أما الهجرة الثانية فكانت إبان الحرب العراقية الإيرانية، حيث كان أغلب المهاجرين من الفارّين من الخدمة واللاجئين السياسيين.
يبلغ الآن عدد الإيرانيين في أمريكا حوالي ثلاثة ملايين نسمة، أسس هؤلاء ما يقارب 300 شركة كبيرة، كما يساهمون في 400 شركة أخرى، وتصل نسبة الحاصلين على درجة الليسانس حوالي 26% من عدد المهاجرين، ما يضعهم في المرتبة الأولى بين المهاجرين من حيث التعليم العالي، بحسب دراسة عن اللوبي الإيراني، للكاتب لي سميث.
ظلت هذه الجالية نائمة وصامتة داخل الولايات المتحدة لانشغالهم، كأي مهاجر آخر، بتأمين سبل العيش الكريم ومقوماته، إلى أن برز جيل من الشباب الذين ولدوا وترعرعوا في الولايات المتحدة الأمريكية لكنهم أخذوا لغة بلادهم الأم وثقافتها من آبائهم، وأصبح الوطن أحد أولى اهتماماتهم.
فشكلوا “المجلس الإيراني الأمريكي” عام 1997 لجمع أبناء الجالية الإيرانية فيه، بزعامة “هوشك أمير أحمدي“، ليحل محله بعدها “المجلس القومي الإيراني في أمريكا” والمعروف بـ “ناياك” ويتزعمه تريتا بارسي، ويعتبر أقوى لوبي إيراني في أمريكا.
وبارسي هو باحث إيراني يحمل الجنسية السويدية ويقيم في الولايات المتحدة ومقرب من صانعي القرار ووزارة الخارجية الأمريكية.
ومن مؤسسات اللوبي الإيراني في أمريكا أيضًا، مؤسسة “علوي“، التي يعود تأسيسها إلى شاه إيران عام 1973، ولكن لم تكن حينها تلعب الدور السياسي الذي تلعبه الآن بعد سيطرة نظام الملالي عليها.
يقع مقر هذه المؤسسة في الجادة الخامسة في نيويورك، وتدعي أن مهمتها شرح الثقافة الفارسية والإسلامية، لكن في الحقيقة هي من أكبر اللوبيات الإيرانية في الولايات المتحدة، ويسيطر وزير الخارجية الإيرانية، جواد ظريف، على قراراتها، وتمتلك ناطحة سحاب في نيويورك تعود عليها بأموال ضخمة، تستخدمها لتمويل أكثر من 30 مؤسسة تعليمية في أمريكا.
تتركز أهداف اللوبي الإيراني في الولايات المتحدة على ما يلي:
1- العمل على جمع كل أبناء الجالية الإيرانية في الولايات المتحدة وتوحيد جهودهم للدفاع عن حقوق هذه الجالية داخل أمريكا.
2- منع استصدار أي قرار حرب على إيران وتوضيح مخاطر هكذا مغامرة على المصالح الأمريكية وتعميق الحوار والمفاوضات كحل بديل للضربات الجوية.
3- إقناع الولايات المتحدة أن إيران ليست عدوًا للشعب الأمريكي، بل تكاد تكون صديقًا وحليفًا استراتيجيًا لأمريكا في المنطقة إذا عرفت كيف تستثمرها.
4- الالتفاف على العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، وخصوصًا بيع النفط والتعاملات التجارية والمالية.
5- منافسة المملكة العربية السعودية والخليج العربي، عن طريق إظهار نفسها كشريك بديل عن السعودية للولايات المتحدة في الخليج والمنطقة ككل.
6- الحفاظ على الأنظمة العربية الموالية لها في المنطقة (سوريا، العراق، لبنان، اليمن).
بعكس الدول العربية، تسعى إيران دائمًا إلى لغة الأرض والعمل، التي تختلف كليًا عن لغة الشعارات التي يطلقها الساسة والقادة الإيرانيون، فهي تطلق الشعارات المعادية للغرب وتعمل في الخفاء لعقد صفقات وتحالفات معه.
فمثلًا شعار “الموت لأمريكا.. الشيطان الأكبر“، هي كلمات لا تلقى أي أهمية لدى الولايات المتحدة الأمريكية، التي تنظر إلى لغة الأفعال لا الشعارات. فلو أن أمريكا تنظر لهكذا شعارات لما رأينا الآن الشارع الإيراني يتغنى بالاتفاق النووي مع أمريكا، التي تحولت بين ليلة وضحاها من “شيطان أكبر” إلى “ملاك“.
علينا أن نلاحظ طريق تعامل حلفاء إيران في المنطقة أيضًا، فهم يستخدمون نفس الأسلوب، فالنظام السوري وحزب الله اللبناني “المقاومان الممانعان” لا يكاد يخلو خطاب لهما من تهديد ووعيد لإسرائيل، بينما أسلحتهما موجهة باتجاه الشعب السوري، معتبرين أن طريق القدس يمر من سوريا، كما صرح أمين عام حزب الله، حسن نصر الله.
وهكذا تنظر الولايات المتحدة لإيران عن طريق أفعالها لا أقوالها، يساعدها في هذا مجموعة من الكتّاب والمفكرين والساسة الأمريكيين، ومعظمهم من أصل إيراني أو ممن عملوا في السلك الدبلوماسي في إيران. وتكون مهمة هؤلاء الكتّاب هي إقناع البيت الأبيض الأمريكي أن الحرب على إيران ستجعل الشعب الإيراني يلتف حول قيادته، وأن الضغط على إيران قد يجعلها ترتمي بأحضان روسيا والصين، ما يشكل خطرًا على الأمن القومي الأمريكي.
كما أن إيران أصبحت قوة عسكرية لا يستهان بها، وأي اعتداء عليها سيشعل منطقة الخليج الاستراتيجية. وذهب الكاتب روبرت بير أبعد من ذلك، إذ حذر في كتابه “الشيطان الذي نعرفه” من أن إيران قد تجند انتحاريين داخل الولايات المتحدة إذا ما تم الاعتداء عليها، لذلك “يجب أن نتحاور معها للوصول إلى اتفاق يرضي الطرفين“.
يضاف إلى ذلك أن الإيرانيين حين اطمأنوا لسياسة الرئيس أوباما والديمقراطيين بشكل عام، قدموا لهم حسن روحاني، الرئيس الإصلاحي الجديد، كبادرة حُسن نية، لبدء مرحلة جديدة من العلاقات الأمريكية– الإيرانية، البعيدة عن تشدد الجمهوريين والإصلاحيين، والذي أثمر الاتفاق النووي، الذي يعتبر أهم إنجاز للوبي الإيراني في أمريكا.
وما ساعد إيران في هذا الاتفاق، الذي وقع بتاريخ 14 تموز 2015، وأصبح يومًا تاريخيًا بالنسبة للإيرانيين عدة أمور، منها:
1- وجود لوبي إيراني قوي داخل الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة تريتا بارسي، ومن ورائه جواد ظريف، اللذين كان لهما الفضل الأكبر في إتمام الصفقة.
2- حالة الضعف التي تصيب اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة، وخصوصًا بالنسبة للملف الإيراني.
3- ترسيخ اللوبي الإيراني لفكرة الحرب أو الاتفاق لدى صناع القرار الأمريكيين، حيث لا خيار ثالث للملف الإيراني. وساعد إيران في هذا وجود لوبيات داخلية أمريكية تعرقل وتمنع أي حرب تقوم بها أمريكا بغض النظر عن الأسباب، لهذا لم يبق سوى الخيار الثاني، وهو الاتفاق.
لم يكن هذا هو النصر الوحيد للوبي الإيراني، بل سبقه نصر آخر في صيف عام 2013، حين استطاع اللوبي الإيراني عرقلة الضربات الجوية الأمريكية على النظام السوري إثر مجزرة الكيماوي التي قام النظام بها في ريف دمشق.
اللوبيات العربية تتنافس
لما كانت الولايات المتحدة الأمريكية مركز صنع القرار العالمي كان للعرب أيضًا دورهم في صناعة لوبيات داخل أمريكا، فكانت المملكة العربية السعودية سباقة في هذا الأمر.
تعود نشأة اللوبي السعودي إلى أواسط الثمانينيات، حين عُين الأمير بندر بن سلطان سفيرًا للملكة العربية السعودية في واشنطن، وكان له الدور الأكبر في تعميق أواصر الصداقة السعودية– الأمريكية، التي استمرت رغم الهزات الكثيرة التي مرت في تلك الفترة، وأشهرها أحداث الحادي عشر من أيلول في أمريكا وما رافقها من عداء للإسلام عند كثير من الأمريكيين، إلا أن عميد السلك الدبلوماسي في واشنطن كان له الدور الأكبر في منع تأثير هذه الحادثة على العلاقات الأمريكية– السعودية.
اثنان وعشرون عامًا قضاها الأمير بندر سفيرًا لبلاده في الولايات المتحدة الأمريكية، اتصفت هذه الفترة بالاستقرار والازدهار في العلاقات الثنائية بين البلدين، وكانت المملكة شريكًا أساسيًا للأمريكيين في المنطقة.
لا يملك اللوبي السعودي في أمريكا الحاضنة الشعبية التي يتمتع بها اللوبي الإسرائيلي، أحد أكبر خصومه في واشنطن، لكن يتميز بقربه من كبار صناع القرار في الولايات المتحدة.
يقوم اللوبي السعودي بتمويل عدد من مراكز الأبحاث والمؤسسات في الولايات المتحدة، والتي تعتبر أحد الأذرع المساعدة لكل لوبي يعمل في أمريكا، ومنها “معهد الشرق الأوسط، مجلس سياسة الشرق الأوسط، مؤسسة بيل وهيلاري وتشيلسي كلينتون“، كما دعم لفترة من الزمن “مجلس الأطلسي“، وهو مركز أبحاث للدراسات الاستراتيجية يقدم النصح والإرشاد للنواب الأمريكيين.
ذكرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية في كانون الثاني 2010 نقلًا عن مسؤولين أمريكيين، أن الولايات المتحدة في عهد إدارة جورج بوش خرقت الاتفاقية الأمنية مع إسرائيل ببيعها أسلحة متطورة لبعض الدول العربية المعتدلة وأبرزها السعودية والإمارات ومصر لمواجهة الخطر الإيراني، وبحسب الصحيفة فالصفقة مع السعودية تضمنت بيع طائرات من نوع “إف15″، وصواريخ بعيدة المدى مضادة للسفن الحربية، وأجهزة إلكترونية حديثة تشابه مثيلاتها في إسرائيل، التي حاولت كثيرًا عرقلة الصفقة لما لذلك من تأثير على الأمن القومي الإسرائيلي، والحفاظ على التفوق النوعي للجيش الإسرائيلي في المنطقة.
ويقول الكاتب والخبير الأمريكي في شؤون الشرق الأوسط، ميتشيل بيرد، إن اللوبي السعودي في أمريكا منع وعرقل أكثر من مرة قرارًا أمريكيًا مدعومًا من اللوبي الصهيوني بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، لما لذلك من تبعات، منها الاعتراف بيهودية القدس.
كل هذه الإنجازات وغيرها، تحسب للوبي السعودي، ولكن لا يخفى على أحد تراجع قوة هذا اللوبي في الفترة الماضية لعدة أسباب منها:
1- عودة الأمير بندر بن سلطان إلى السعودية في عام 2005، والذي كانت تربطه علاقات وصداقات مع جميع الرؤساء ووزراء الخارجية الأمريكيين الذين عاصروا فترة وجوده في أمريكا.
2- بروز اللوبي الإيراني المنافس القوي للوبي السعودي، محاولًا سحب البساط من تحت قدميه ليقدم نفسه شريكًا لأمريكا في المنطقة.
3- المنافسة القوية مع اللوبي الإسرائيلي الشرس، والذي يعتبر أقوى وأقدم لوبي في الولايات المتحدة.
4- ظهور لوبي إخواني مدعوم قطريًا داخل الولايات المتحدة الأمريكية، نافس اللوبي السعودي بشدة، وظهر هذا التنافس جليًا في مصر وسوريا.
5- منافسة اللوبيات العربية للوبي السعودي، وخصوصًا اللوبي المغربي الذي استطاع أن يكون شريكًا للولايات المتحدة الأمريكية في شمال غرب إفريقيا، ولكن طموحه لا يقف عند هذا الحد، بل ينافس ليكون الشريك الأول لأمريكا في المنطقة العربية أيضًا، ومن المعروف أن المملكة المغربية هي أكثر دول العالم إنفاقًا على اللوبيات، ولكنها تواجه عدة مشاكل، أهمها ملف الصحراء الغربية ومنافسة اللوبي الجزائري لها، والذي يسعى بدوره ليكون الحليف الأمريكي في المنطقة.
أين الثورة السورية من هذه الحرب؟
لم يكن النظام السوري غافلًا عن لعبة الضغط هذه، فقد أسس منذ أكثر من عقد من الزمن “لوبي” صغيرًا داخل الولايات المتحدة، استطاع كسر الجليد بين النظام وأمريكا بعد حادثة اغتيال الحريري عام 2005، وعادت العلاقات الدبلوماسية لطبيعتها عام 2010 حين عُين روبرت فورد سفيرًا للولايات المتحدة في دمشق.
وشهدت العلاقات تحسنًا واضحًا تلك الفترة، حتى انطلاقة الثورة السورية التي عرّت النظام أمام العالم، وأصبح همّ لوبي النظام في أمريكا تلميع الصورة أمام الصحافة والرأي العام، عن طريق المال الذي يدفع للكتاب والصحفيين تارة، وإغراء الصحفيين بمقابلات حصرية مع رأس النظام السوري تارة أخرى.
ساعد اللوبي في هذا حلفاؤه الإيرانيون واللبنانيون المحسوبون على نفس المحور، ويؤسفني أن أقول أن النظام السوري رغم كل جرائمه مايزال يتمتع بعلاقات جيدة وخفية مع معظم عواصم صنع القرار العالمي التي تغص باللاجئين السوريين من الثوار الأوائل، والتي تغيب المظاهرات المؤيدة للثورة عنها، بينما نرى بين الفينة والأخرى مؤيدي النظام يخرجون بمسيرات مناصرة للنظام.
ورغم أن عدد الثوار يفوق عدد المؤيدين بعشرات المرات، لم نعد نسمع من تصريحات المسؤولين الغربيين سوى مصطلحات “الإرهاب والقاعدة وداعش..“، وكأن الثورة السورية تبخرت.
من هنا نستنتج أن اللوبي الإسرائيلي والإيراني قد وصلوا إلى ما وصلوا إليه من نجاح عن طريق توحيد جهود كل منهما لقضيته والتركيز عليها والقيام باستثمارات ضخمة وتحقيق شراكات حقيقية مع الولايات المتحدة داخل أمريكا، بينما نجد أن أغلب اللوبيات العربية لا هم لها سوى أن تنافس بعضها البعض، كما أن الاعتماد على العلاقات والصداقات الشخصية لا يكفي، وهذا أحد أخطاء اللوبي السعودي، الذي اعتمد على صداقات وعلاقات شخصية بين الأمير بندر والرؤساء الأمريكيين، لتنتهي هذه العلاقات وتدخل في مرحلة التراجع بانتهاء مهمته في أمريكا، بينما اللوبيات الإيرانية والإسرائيلية تمتلك الشركات والاستثمارات والمؤسسات التي تتوسع وتكبر علاقاتها يومًا بعد يوم.
إن ما يجري من أحداث في منطقتنا هو نتاج لحرب خفية بين هذه اللوبيات داخل الولايات المتحدة، ولعل هذا العرض يشرح كيف تدار الأمور في متاهات السياسة الخفية، فاللوبيات في عصرنا أصبحت جزءًا لا يتجزأ من السياسة، ومتممة للدبلوماسية، وتلجأ إليها العديد من الدول الآن لتحقق مصالحها الاستراتيجية.
لذلك علينا أن نتعلم في الثورة السورية كيف تدار الأمور، وأن يكون لنا لوبيات داخل مراكز صنع القرار العالمية، لكي نستفيد منها بقرارات تعود علينا وعلى ثورتنا بالنفع، فنحن نمتلك الآن عددًا غير قليل من المغتربين السوريين في أوروبا وأمريكا، والعديد ممن هاجروا منذ عقود وأسسوا استثمارات وشركات وأصبحوا لاعبين أساسيين في بلاد المهجر، وتبعهم في السنوات الأربع الماضية جيل من الشباب الطموح الذي يمتلك طاقات كبيرة، ولكن لا يوجد من يستثمر هذه الطاقات حتى الآن، لذلك يقع على عاتق المهاجرين السوريين ومن سبقهم من المغتربين البدء بتنظيم أنفسهم سياسيًا واقتصاديًا ليكونوا لاعبين مهمين في البلاد التي هاجروا إليها، وليكونوا سندًا للداخل السوري.