جذبت قضية محاكمة “كوبلنز” للضابط السابق في المخابرات العامة السورية، أنور رسلان، وسائل الإعلام والشارع السوري بشكلٍ كبير، حتى صارت تغطية تطورات المحكمة جزءًا من الحديث الدائم على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما انخفض مستوى المتابعة والاهتمام من قبل السوريين بالمحاكمات الأخرى التي لم تأخذ صدى كبيرًا في الشارع السوري.
وبعد أشهر من انتهاء محاكمة “كوبلنز“، في 13 من كانون الثاني الماضي، والحكم على رسلان بالسجن المؤبد، استمرت محاكمة الطبيب السوري علاء موسى، في فرانكفورت غربي ألمانيا، كما بدأت محاكمة “موفق د.”، (لم يُكشف اسمه الكامل لأسباب تتعلق بالخصوصية في المحاكم الألمانية)، في 25 من آب، لكنّ المعلومات المتداولة حول القضيتين اقتصرت على تغطيات مقتضبة من قبل وسائل إعلام عالمية، إلى جانب تقارير من قبل منظمات حقوقية سورية.
المحاكمة الأولى من نوعها
شكّلت أفرع المخابرات السورية هاجسًا للسوريين، بعد أن عانوا طويلًا من مخاوف الحديث عنها وعن الانتهاكات المرتكبة داخلها، ما جعل فكرة إدانة أحد الضباط الكبار المسؤولين فيها، حلمًا بعيد المنال.
وباعتبار محاكمة رسلان الأولى من نوعها، حققت نقلة نوعية في مسار العدالة لآلاف السوريين الذين تعرضوا للانتهاكات في أفرع المخابرات السورية والمعتقلات.
مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، أرجع في حديث إلى عنب بلدي، حصول محاكمة رسلان على الاهتمام الأكبر من قبل وسائل الإعلام السورية والشارع السوري، إلى كونها المحاكمة الأولى لضابط مخابرات.
كما حمّل مسؤول قسم المناصرة والتواصل في “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، الدبلوماسي السوري السابق داني البعاج، مسؤولية انخفاض الاهتمام بالمحاكمات لوسائل الإعلام، معتبرًا أن المحاكمة الأولى تحصد الاهتمام الأكبر بشكل تلقائي.
ولعب الجدل الذي حصل حول محاكمة رسلان، باعتباره منشقًا عن النظام منذ فترة طويلة، دورًا مهمًا في جذب اهتمام الشارع السوري، وفق ما قاله البعاج.
تقييد الوصول للمعلومات
طلبت المحكمة العليا في فرانكفورت، إزالة تقارير إعلامية وحقوقية مفصلة عن محاكمة الطبيب السوري علاء موسى، وعدم نشر إفادات الشهود، في نيسان الماضي، بسبب قلق القاضي الذي يترأس المحكمة من تأثير تلك التقارير سلبًا على مسار المحاكمة، ما قيّد وصول السوريين إلى معلومات حول المحاكمة، وأسهم بحجب تفاصيل جريمة موسى والشهادات التي تدينه عن الرأي العام السوري.
هذا ما أرجعه العبدلله إلى حماية الشهود، بعد تعرض الشهود في محكمة “كوبلنز” لتهديدات، إلى جانب حماية القضية من تكرار الشهادات غير الدقيقة التي قُدمت خلال المحاكمة السابقة.
وازداد تقييد الوصول إلى المعلومات، بسبب الأعباء المادية على المنظمات الحقوقية التي لا تستطيع تغطية تكلفة إرسال موظفينها مرتين أسبوعيًا لمتابعة تطورات المحكمة، أضاف العبدلله.
ويواجه “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” مشكلة مشابهة، إذ قال مسؤول المناصرة في المركز، داني البعاج، إن قلة الموارد، تمنع منظمات المجتمع المدني من الوصول إلى إلى المحاكمات بشكل دائم.
تتحمل وسائل الإعلام القادرة على الحضور المسؤولية الأكبر، وإعطاؤها اهتمامًا أكبر يجعل المحاكمات موضع اهتمام ومتابعة أكبر من قبل الشارع السوري، وفق ما ذكره البعاج.
وأضاف البعاج، أن محامي الدفاع عن علاء موسى، عملوا على الحد من وصول السوريين إلى المعلومات، لخفض الأثر الشعبي للمحاكمة، ما أرجعه إلى قدرة موسى على دفع تكاليف محاميين لم تعينهم المحكمة.
بين المبالغة والأهمية الحقيقية
تضاربت الآراء حول محاكمة “كوبلنز” بعد أن صوّرها البعض على أنها نقطة تحقيق العدالة المنشودة كاملة، بينما حاول آخرون التأكيد على أنها ليست إلا خطوة أولى في طريق طويل، ما لعب دورًا بخفض الاهتمام بمتابعة القضايا بعد أن “حُكم أنور رسلان وبقي الفرع (251)”، بحسب تعبير مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة” محمد العبد الله.
وقال العبدلله، إن للمحاكمة أهمية لا يمكن تجاوزها، لكنّ تضخيم توقعات الجمهور، وتصوير المحاكمة على أنها قادرة على خلق حالة رعب بين الضباط السوريين، انعكس سلبًا على اهتمام السوريين بالمحاكمات الأخرى.
كما شكّلت المحاكمة عامل ردع للضباط الذين يحاولون الانشقاق عن النظام السوري واللجوء إلى أوروبا، ما يعني إحجام الكثير منهم عن الإدلاء بشهاداتهم للمنظمات الحقوقية.
بينما يرى البعاج، أن من الضروري الحفاظ على إيمان الشارع السوري بأهمية المحاكمات، التي اعتبرها “خطوة باتجاه العدالة”.
ويتطلب تحقيق العدالة ومحاكمة النظام السوري قرارًا سياسيًا لإحالة ملف سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية، ما يجعل المحاكمات الفردية البديل الوحيد أمام السوريين في الوقت الراهن، بحسب ما قاله البعاج.
كما تتركز أهمية محاكمة أنور رسلان، بكونها أول قرار محكمة مبرم يثبت أن الأدلة اللي عملت عشرات المنظمات على جمعها منذ سنوات حقيقية، ما ينفي رواية النظام التي تحاول إثبات أن الأدلة التي تدينه “مفبركة”، أضاف البعاج.
هذا ما توقع البعاج أن يتكرر في محاكمة الطبيب علاء موسى، إذ تعد المحاكمة إثباتًا على أن الأدلة التي قدمت حصلت على مصداقية قضائية.
“من الضروري تعزيز إيمان الشارع السوري بالمحاكمات، كونها قادرة على تثبيت الأدلة التي تدين النظام قضائيًا من خلال محاكم مختصة وحيادية، ما يجعل قرارات المحكمة أدلة يبنى عليها في المحاكمات المرتقبة”
مسؤول قسم المناصرة والتواصل في “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، الدبلوماسي السوري داني البعاج. |
عمل علاء موسى طبيبًا في سجن لـ”المخابرات العسكرية” بمدينة حمص عام 2011، كما عمل طبيبًا وعميلًا في جهاز المخابرات بمستشفى “المزة العسكري” رقم “601” المعروف باسم “المسلخ البشري”، حيث التُقطت صور “قيصر”.
ويعتبر الطبيب موسى ضالعًا في العنف الجنسي، والتعذيب، وقتل مدنيين في المستشفى العسكري وفرع “المخابرات العسكرية” في حمص.
بينما يتهم “موفق د” (55 عامًا) الذي يمثل أمام محكمة ألمانية، بإطلاق قذيفة صاروخية على مجموعة من المدنيين في سوريا قبل ثماني سنوات، ما أسفر عن مقتل سبعة أشخاص على الأقل.
كما يتهم “موفق د” بأنه عضو في حركة “فلسطين حرة” وهي عبارة عن حركة فلسطينية- سورية تنقسم لشق مسلح، ومنظمة مجتمعية، أسسها رجل الأعمال الفلسطيني، ياسر قشلق، والتي تدعم النظام السوري، بالإضافة إلى الاشتباه بكونه عضو سابق في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة”، بين تموز 2013 ونيسان 2015.
وتعتبر محاكمة الأشخاص الضالعين بجرائم الحرب في سوريا، خاصة الذين يتحملون مسؤولية فردية مباشرة عن الجرائم، جزءًا أساسيًا من العدالة الانتقالية المنشودة في سوريا.
ويتحمل مسؤولية العمل على الوصول إلى هذه المحاكمة، الناشطون السوريون والصحفيون ومنظمات المجتمع المدني، إلى جانب صانعي السياسات، من خلال العمل على التحقيق والتوثيق للجرائم والانتهاكات التي حدثت في سوريا بعد 2011.