في قاعة صغيرة، يجلس 14 شابًا بمختلف مستويات التحصيل العلمي ومجالات العمل والدراسة، جمعهم اهتمامهم بتعلم أساسيات البحث، والتعرف عن قرب إلى آليات عمل مراكز الأبحاث.
وخلال الدورة التدريبية التي قدمها مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” التي استمرت لحوالي 15 يومًا، قدّم باحثون من المركز جلسات للإحاطة بالعملية البحثية وأدواتها، وجلسات تفاعلية للإحاطة بالمشهد السوري وتحليله.
وتخللت الدورة نقاشات وجدالات بين المتدربين، إلى جانب تدريبات عملية لتطبيق واختبار المعرفة اليومية التي حصلوا عليها.
“دماء جديدة”
رغم تفاوت أعمار المتدربين، أظهر جميعهم اندفاعًا لاكتساب المعرفة، ورغبة بأن يكون لهم دور بمستقبل أفضل لسوريا.
وأطلق مركز “عمران” التدريب قبل حوالي أربع سنوات، أجرى خلالها أربعة تدريبات في تركيا، وتدريبين في اعزاز.
وجاءت فكرة التدريب بعد وصول المركز إلى مرحلة الإنتاج البحثي، وتأصيل معايير وأسس لمراكز الأبحاث، ما دفع الإدارة للبحث عن طريقة لتطوير العمل من خلال “الدماء الجديدة”، بحسب ما قاله المدير التنفيذي لمركز “عمران”، الدكتور عمار القحف.
وقال القحف لعنب بلدي، إن تقديم المعرفة لهؤلاء الشباب، والتعاون معهم، هي طريقة فعالة لتطوير أدوات المركز بشكل مستدام ومؤصل علميًا ومرتبط بالمستقبل، مؤكدًا ضرورة تحقيق التوازن بين احترام الخبرات القديمة والاهتمام بجيل الشباب.
ويعمل التدريب على تطوير المهارات الشابة التي ينبغي أن يكون لها دور في تشخيص التوصيات للشأن العام، بالإضافة إلى تطوير أفكار المركز لتكون أكثر مرونة، وفق ما ذكر القحف.
“يقدم على التدريب عشرات الشباب سنويًا، ما يعكس حالة العطش للتأثير بالواقع السوري وفقدان البوصلة من قبل العديد من الشباب، بينما يُظهر المتقدمون في الداخل السوري رغبة بالبحث عن حلول للمعضلة التي يعايشونها يوميًا”
المدير التنفيذي لمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، الدكتور عمار القحف. |
مؤهلات الانضمام إلى التدريب
في ظل الحاجة الكبيرة لفهم المشهد السوري، ورغبة مئات الأشخاص باكتساب مهارات جديدة مرتبطة بالعلوم الإنسانية، يندفع العديد من الأشخاص للانضمام لتدريبات العمل البحثي، دون أن يمتلكوا جميعًا ما يؤهلهم للتدريب أو لمتابعة العمل في المجال البحثي.
هذا ما أوضحه الدكتور عمار القحف، شارحًا أهم المؤشرات التي يمكن أن يعرف الشاب من خلالها أن انضمامه للتدريب مجدٍ.
ويعتبر الشغف بتعلم العلوم الإنسانية أحد أهم العوامل التي يمكن أن تخلق للشباب فرصة في العمل البحثي، بحسب ما ذكره القحف.
الاهتمام بالشأن العام وتطوير الأدوات والمهارات البحثية عاملان مهمان، بحسب ما قاله القحف، مشيرًا إلى ضرورة امتلاك المقبلين على العمل بالمجال البحثي القدرة على التحدث إلى الإعلام بشكل منضبط مبني على الملاحظة والعمل المنهجي.
أحد المتدربين ضمن المركز طارق جاموس، وهو طالب لغة إنجليزية، قال لعنب بلدي، إن اهتمامه الدائم بالشأن العام، ورغبته بامتلاك مهارات تجعله قادرًا على التأثير في الواقع الذي يعيشه، هو ما دفعه للالتحاق بالتدريب.
الأثر على الشباب
يضيء التدريب على الخطوات الأولى في طريق عملية البحث، وفق ما قاله الدكتور عمار القحف، مؤكدًا أن المدة القصيرة للتدريب غير كافية لتأهيل باحث.
وأوضح أن على الراغبين بإكمال مسيرتهم في العمل البحثي بذل مجهود كبير، والعمل قرب مجتمع باحثين، إلى جانب تعلم الانضباط بالوقت والمنهجيات، وهو ما يتطلب فترة طويلة من الممارسة.
واستطاع المركز خلال التدريبات الماضية تأهيل العشرات من الأشخاص ليسيروا خطواتهم الأولى في مركز “عمران” وغيره من المراكز البحثية.
هذا ما أكدته مساعدة الباحث في المركز، صبا عبد اللطيف، التي أنهت التدريب واستطاعت العمل ضمن كادر “عمران”.
وقالت عبد اللطيف لعنب بلدي، إن تخرجها في كلية العلوم السياسة والعلاقات الدولية، واهتمامها بالمشهد السوري، دفعها للالتحاق بالتدريب لتطوير مهاراتها، والتعرف إلى المزيد من المعلومات في المجال البحثي.
ومن خلال التدريب، زاد اهتمام صبا عبد اللطيف بالعمل البحثي، إذ إن معرفتها لأصول وقواعد البحث وضوابط هذا العامل، جعلها تندفع للعمل في هذا المجال لتوظيف معرفتها، والإضاءة على القضايا المغيبة، إلى جانب تعلّم المزيد حول العملية البحثية.
كما عزز التدريب رغبة طارق جاموس بالاهتمام بالعمل البحثي، ورفع وعيه بضوابط هذا العمل، والجهد الكبير والمسؤولية التي تقع على عاتق العاملين بالمجال، وفق قوله.
تأهيل الباحثين
“استثمار ناجح” تحدّه الصعوبات
تلعب مراكز الأبحاث دورًا أساسيًا بتقديم الحلول والسياسات التي يمكن أن تسهم بصناعة مستقبل أفضل، خاصة لدول النزاع ودول ما بعد النزاع.
ويرى الدكتور عمار القحف أن الاستثمار بالعمل البحثي هو الاستثمار الأفضل، باعتبار مستقبل هذا المجال قادرًا على الإجابة عن سؤال “كيف”، وتطوير حلول تتماشى مع الواقع السوري.
“نحن بحاجة إلى باحثين حقيقيين، تنقصنا المعرفة الحقيقية، لنفرق بين الحلول المستوردة والحلول المصنعة محليًا، لنتعلم كيفية الاستفادة من الأولى وتطويرها لتكون قابلة للتطبيق”.
المدير التنفيذي لمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، الدكتور عمار القحف. |
ومن أبرز الصعوبات التي تواجهها المراكز البحثية خاصة في عملية تأهيل الباحثين، الحصول على تمويل كافٍ، مؤكدًا ضرورة دعم مراكز الأبحاث التي يمكّن أن تقدم حلولًا بوقت أقصر وتكلفة أقل، إن توفر لها الدعم المناسب.
كما يعتبر توفر باحثين قادرين على تقديم التدريبات، ووجود متدربين جديين وراغبين بأن يكون تدريبهم مثمرًا، من الصعوبات التي تحدّ من قدرة المركز على تقديم دورات تدريبية أطول وأكثر تأصيلًا للعمل البحثي، وفق ما قاله القحف.
قلة الباحثات
تتأثر مراكز الأبحاث وقطاعات العمل في العلوم الإنسانية باستمرار، باعتبارها رفاهية خاصة بالنسبة للإناث، ما يدفع العديد منهن للإحجام عن الخوض بهذه المجالات.
هذا ما يحاول مركز “عمران” معالجته، من خلال وضع نسبة لوجود الإناث ضمن التدريب، تشترط الإدارة تحققها لبدء التدريب.
ويرى القحف أن البحث القائم على فهم جندري عادل، قادر على الإلمام بجميع جوانب المواضيع التي تدرسها مراكز الأبحاث.
نظرة نمطية تعززها العشوائية
لسنوات طويلة اقتصرت رؤية المجتمع إلى مراكز الأبحاث على أنها مراكز استخباراتية، أو مراكز تتوجه إلى النخب فقط، ما دفع مئات الأشخاص للإحجام عن الخوض في عملها أو الإيمان بجدواها.
وعمل مركز “عمران” وغيره من مراكز الأبحاث على كسر الصورة النمطية للعمل البحثي من خلال تدريب المتخرجين من الجامعات حديثًا، إلى جانب إنتاج ما يلامس الواقع السوري، بحسب ما قاله القحف، مشيرًا إلى أن القرب من كل فرد بهذا المجتمع، يزيد مصداقية عمل المركز لدى الشارع السوري.
بينما انتقد القحف وجود عشرات الباحثين الذين يهتمون بالكم أكثر من النوع، ويعملون دون ضوابط، ما يسهم بتعزيز الصور النمطية حول مراكز الأبحاث.
وهذا ما دفع المركز لإجراء التدريبات باستمرار والتأكيد من خلالها على ضرورة التزام الراغبين بالعمل في هذا المجال بضوابط ومعايير تسهم بتطوير مراكز الأبحاث، وفق ما قاله القحف.
–
“نحن أمام تحدٍ كبير لإنهاء 60 عامًا من الجهل بعمل مركز الأبحاث ودورها، وعلينا أن نعيد إنتاج ثقافة البحث التي تخلق بيئة داعمة للحياة البحثية والباحثين”.
المدير التنفيذي لمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، الدكتور عمار القحف. |