على عكازين متصببًا عرقًا، يتنقل محمود (شاب سوري 25 عامًا) بين غرفته وصالة المنزل خلال ساعات اليوم، ويجلس بضع ساعات من الليل أمام منزله الواقع في منطقة جبزة، بالطرف الآسيوي من مدينة اسطنبول.
لا يزال الشاب ينتظر حتى نهاية آب الحالي، للحصول على تعويضات مالية اعترضتها عدة عقبات، بعد عشرة أشهر من تعرضه لحادث سير في منطقة إزميت بولاية كوجالي، الواقعة شمال غربي تركيا، وتبعد عن مدينة اسطنبول 100 كيلومتر شرقًا.
الشاب قال لعنب بلدي، إنه لم يستطع العودة إلى عمله في معمل إنتاج الحديد بمنطقة جبزة منذ حادث السير، الذي تعرض له مع والده ورجل تركي كان يقود بهما دراجة بثلاث عجلات، في 22 من تشرين الثاني 2021.
حادث حي في الذاكرة
بعد ست سنوات من وصول محمود وعائلته إلى تركيا، وبعدما أسس عائلة ولديه مع زوجته طفلان، اشترى دراجة بثلاث عجلات ليبدأ العمل لحسابه الشخصي بعيدًا عن ساعات العمل الشاق بوردية صباحية ومسائية تتقلب كل أسبوع في المعمل.
يسرد الشاب قصة حادث السير الخالد في ذاكرته بتفاصيله، والذي وقع حين كان في طريقه مع والده وصاحب الدراجة لتثبيت عقد شرائها لدى الكاتب العدل (Noter) (وهو الشخص المعتمد من قبل الدولة التركية ليقوم بتصديق الوثائق من أجل ضمان حقوق المواطنين وضمان منع نشوء النزاعات).
اصطدمت الدراجة التي كان يستقلها الثلاثة بسيارة في منطقة إزميت، وأدى الحادث إلى وفاة سائق الدراجة التركي، وإصابة محمود في عظم الحوض، وبضعة كسور في يد والده.
“بألم الولادة أو ما يعادله مئة مرة، وصرخات ملأت أجواء المستشفى”، وصف الشاب شعور الألم بعد الحادث، وقال إنه انتظر لمدة أسبوع في المستشفى لمراقبة أي مضاعفات صحية، ثم أُجريت له عملية تركيب صفائح معدنية في منطقة الحوض.
ابتعد عظم الحوض عن عظم الفخذ من كلا الجانبين نتيجة الحادث، ووُضع في جانب منهما برغي ومن جانب آخر جنزير، واضطر الشاب أن يخضع لعملية مدتها 40 دقيقة.
وتشهد تركيا وتيرة مرتفعة لحوادث المرور، وسجلت “هيئة الإحصاء التركية” مليونًا و186 ألفًا و353 حادثًا مروريًا في شبكة الطرق عام 2021، وقع 78.6% من هذه الحوادث داخل المناطق السكنية، و21.4% خارجها، وأسفرت هذه الحوادث عن وفاة خمسة آلاف و362 شخصًا، وإصابة 274 ألفًا و615 شخصًا.
عملية “احتيال” فاشلة
زار أبناء الرجل التركي المتوفى الشاب محمود بعد حوالي عشرة أيام من إجرائه عملية تركيب الصفائح المعدنية، طالبين منه التوقيع على بضع أوراق تفيد بعدم وجوده في أثناء وقوع الحادث، بحجة التعاطف مع وضعه الصحي ووضع عائلته المعيشي، وعدم إقحامه في دفع مستحقات مالية مترتبة عليه.
بوجود محامٍ مع أبناء الرجل المتوفى، تردد محمود بالتوقيع على الأوراق، طالبًا منهم أن يرسل صورة لمحاميته التركية التي وكّلها بمتابعة ملفه وقضيته في الحصول على ما يستحقه من تعويضات مالية عقب تعرضه لأضرار من حادث السير.
بعد أن وصلتها الصورة، اتصلت المحامية بمحمود الذي يجيد اللغة التركية، ونبّهته إلى عدم التوقيع على الأوراق لأنها تفيد بأنه غير موجود في أثناء الحادثة، وذلك سيحرمه من أي تعويض مالي.
تحدّثت المحامية مع المحامي القادم مع أبناء الرجل، وطلبت منه التعريف عن نفسه وأوراقه الثبوتية، ليتبين أنه أحد أقرباء المتوفى وينتحل شخصية محامٍ، وتحت تهديد المحامية بمحاسبتهم إذا كرروا التعرّض لمحمود، خرجوا من منزل الشاب دون أن يستطيعوا تحقيق مساعيهم.
“العنصرية” تعرقل التعويض
بعد مضي ستة أشهر على حادث السير، عُرض محمود على لجنة طبية مختصة في مستشفى بولاية كوجالي، لتقييم وضعه وحالته الصحية، وبعد رؤية تقاريره الطبية السابقة، منح الطبيب المشرف على التقييم مدة أسبوع للشاب حتى تظهر نتيجة التقييم.
“ذنبك أنك سوري”، هذه الكلمات التي نقلها محمود لعنب بلدي عن المحامية التي وكّلها، بعد أن فوجئت بأن نسبة العجز الموجودة في تقرير اللجنة هي 3% فقط، عازية نتيجة التقرير لأسباب “عنصرية”، مقدرة نسبة الضرر بـ30%.
وتُدفع تعويضات مالية للأشخاص الذين تعرّضوا لحوادث سير في تركيا بحالات الوفاة لذوي المتوفى، سواء أكان المتوفى سائقًا أو راكبًا، ولمختلف الجنسيات سواء أكان سوريًا أو تركيًا أو من جنسية أخرى، وسواء أكانت السيارة تركية أو سورية، حتى في حالة وقوع حادث السير نتيجة خطأ من السائق، أو وقوعه كحادث إفرادي.
وتُعطى تعويضات مادية للمصابين باختلاف الحالة وتقييمها من قبل أطباء في مستشفيات حكومية معتمدة ومختصة بتقييم هذه الحالات، وتختلف التعويضات المدفوعة في حالة وجود شلل في الأطراف العلوية، أو السفلية، أو اليدين، أو الظهر، أو الرأس، أو وجود كسر، أو عند تركيب الصفائح المعدنية في مواضع الجسم المختلفة.
وتختلف قيمة التعويضات أيضًا بحسب ما تقيّمه الشرطة حين تحدد نسبة التسبب بحادث السير، وفي حال توكيل محامٍ، فهو زيادة تكاليف عندما يكون المصاب سوريًا أو من أي جنسية أجنبية أخرى، على الحالة التي يكون فيها المصاب تركيًا.
وأوضح محمود نقلًا عن المحامية التي تعاملت معه بإنسانية، حسب وصفه، ولم تأخذ أتعابًا على عملها حتى لحظة إعداد هذا التقرير، أن التقييم الطبي لم يكن “منصفًا ولا نزيهًا”، وبعد نقاش وسجال مع الطبيب، تحاول المحامية تحويل ملف الشاب الطبي إلى أنقرة كي يحصل على مستحقاته المالية والتعويضات بعد الحادث، وعرضه على طبيب مغاير ينصف حالته.
ويقيم في تركيا ثلاثة ملايين و654 ألفًا و257 لاجئًا سوريًا، وفق أحدث إحصائية للمديرية العامة لإدارة الهجرة التركية، حتى تاريخ 25 من آب الحالي، يواجه معظمهم تحديات معقدة ومتشابكة آخذة في التنامي.
وأبرز هذه التحديات موجات متلاحقة من الخطاب العنصري، متغذية على ما بقي عالقًا من رواسب اجتماعية جراء مشكلات وخطابات سابقة، إلى جانب ضخ إعلامي تحريضي من بعض الأحزاب المعارضة لوجودهم على الأراضي التركية يؤجج حالة العنصرية.
–