رغم القلق الدائم وعدم الاستقرار المالي..
“فريلانسرز” سوريون: فرصنا أكثر وخياراتنا بأيدينا
عنب بلدي- صالح ملص
تمرير البطاقة المصرفية عبر جهاز الدفع الإلكتروني، أو النقر على الهاتف المحمول في مواقع المتاجر الإلكترونية، ممارسات يومية قد تكون ضمن النشاط الاعتيادي للأفراد من أجل الدفع مقابل شراء الأشياء.
لكن ذلك ما لا يعيشه، بالشكل المأمول، كثير من السوريين المشتغلين بشكل حر، ومنهم مصممو “جرافيك” التقتهم عنب بلدي في مدينة اسطنبول، يعملون “فريلانسرز” عبر الإنترنت.
ففي ظل الأوضاع المعيشية للسوريين في تركيا، وتدني مستويات الدخل وغياب فرص التوظيف، يعاني المشتغلون في مجال تصميم “الجرافيك” تجارب سلبية تؤثر في قدرتهم على تحسين وضعهم المادي، لكن رغم ذلك، تبقى لديهم دوافع متعددة للاستمرار في هذا العمل عبر ممارسته عن طريق الإنترنت.
أبرز أسباب هذه التجارب السلبية، عدم تحصيل كامل مستحقاتهم المالية من قبل الشركات أو المؤسسات التي تعاونوا معها لتقديم خدماتهم في سياق مشاريع معيّنة، بالإضافة إلى عراقيل إجرائية في المعاملات المصرفية، بعد تحويل المستحقات.
عمل حر لكنه مقلق
في الأعوام الأخيرة، انتشر على الصعيد العالمي ما يسمى بالعمل الحر عبر الإنترنت (Freelance)، إذ صارت العديد من الشركات والمؤسسات تلجأ لتشغيل أفراد يعملون عن بُعد في مختلف التخصصات، أبرزها مجال التصميم “الجرافيكي”، وصار بإمكان أي شركة الوصول للكفاءات والخبرات المختلفة في كل المجالات.
لهذا النمط من العمل العديد من الميزات، فلا التزام مع جهة مشغلة واحدة على المدى الطويل، واستقلالية كاملة يتمتع بها الشخص ضمن أسلوب العمل من خلال توظيف مهاراته في تحقيق عائد مادي.
لكن في مقابل ذلك، يعتبر هذا النمط من العمل أيضًا “مغامرة خطرة ومقلقة تجبر الشخص على اللهاث وراء فرص العمل دون توقف”، وفق ما ذكرته آية خربطلي (26 عامًا)، وهي تعمل في مجال تصميم “الجرافيك” منذ خمسة أعوام مع عدة مؤسسات متخصصة بمختلف المجالات في اسطنبول.
مشاعر القلق المرهقة لدى آية نتجت عن تجارب سلبية مع عملاء قدمت لهم خدماتها قصيرة الأجل، وفق ما ذكرته لعنب بلدي، فـ”عندما لا تحصل على المبلغ المتفق عليه، أنت مجبر بالتأكيد على البحث بشكل مكثف أكثر لتعويض هذه الخسارة”.
ويزيد الأمر صعوبة “عندما تعرف هذه الشركات أن الشخص الذي تتعامل معه لتصميم جرافيك معيّن هو أنثى، عندها تنطبع لدى تلك الجهة فكرة نمطية مفادها أن الأنثى ليس لديها التزامات”، وبالتالي لا تهتم هذه الجهة بدفع كامل المستحقات المالية لها.
لا نحصل على كامل مستحقاتنا
أسوأ المواقف بالنسبة للمصمم هو عندما لا يدفع العميل ثمن الخدمة المطلوب في الوقت المحدد، وهو أمر ناتج عن “التقليل من أهمية طلب تصميم (لوجو) ما، أو مشروع تسويقي، على اعتبار أن هذا المجال ليس مهنة بحد ذاتها”، وفق ما أوضحته المصممة.
وفي هذه الحالة يكون العميل قد تبنى قرارًا مسبقًا بعدم الدفع أو المماطلة حتى يتم نسيان الأمر من قبل المصمم.
الأمر نفسه تعرض له مهند حمود (28 عامًا)، وهو مصمم “جرافيك” يعمل بشكل حر مع عدة شركات في مجال التسويق والدعاية باسطنبول، إذ كثيرًا ما يتفق مع العميل على مبلغ معيّن، ولا يحصّل أكثر من نصفه بعد تسليم المشروع.
“يتفق المصمم مع الزبون على السعر، ويفترض أن يتسلّم كامل أجرته بعد تسليم التصميم، لكن الزبون غالبًا ما يحول نصف المبلغ فقط”، وفق ما ذكره مهند حمود لعنب بلدي.
ومجال تصميم “الجرافيك” يعد من الأعمال الإبداعية، ويمكن أن يأتي الإلهام من العديد من المصادر عند البدء بتنفيذ حملة إعلانية، لكن مشكلات من نوع آخر تظهر، عندما يتم الاعتداء على ملكية المصمم الفكرية، والتي نتجت عن أفكار أصلية خاصة به، وهو المكان الذي تنشأ منه نزاعات الملكية الفكرية.
لعدم وجود حلول فعالة لمشكلات تسديد الأجور عن بُعد، يحتاج العاملون بشكل حر إلى إعادة تقييم تجاربهم السابقة مع الجهات والشركات التي تعاونوا معها، واختيار الجهات الموثوقة والمتجاوبة، وبناء علاقة طويلة الأمد معهم، أو الطلب منهم ترشيح جهات تتمتع بذات المهنية والمصداقية في عملها.
وبحسب ما يراه مهند، من خلال تجاربه المتراكمة في هذا المجال، على المصمم التفاهم بشكل واضح ومباشر مع الجهة التي ينوي التعاون معها، والتحقق من كل مراحل العمل، من تقارير المشروع إلى الجداول الزمنية للتسليم، وصولًا إلى موعد وشروط الدفع، مشيرًا إلى أهمية “قاعدة المثلث” لكل من المصمم والعميل، وهي الجودة، وموعد التسليم، والسعر.
البنوك تقيّد حساباتنا
تحاصر مشكلات المستحقات المتأخرة معظم المشتغلين في العمل الحر عبر الإنترنت، لكنها تزيد لدى السوريين بشكل خاص، بسبب صعوبة تحويل المبالغ الخارجية عبر البنوك التركية، خوفًا من ارتباط هذه التحويلات بقضايا تمويل الإرهاب أو غسل الأموال.
في 2018، أوقف البنك حساب مهند حمود بعد تلقيه دفعة من خارج تركيا بعملة أجنبية، وكان ذلك قبل حصوله على الجنسية التركية، بحسب ما قاله، مشيرًا إلى أنه لجأ إلى حساب صديقه التركي حينها، للهروب من التدقيق الأمني على كل حوالة تأتيه من شركات تتخذ من دول أجنبية مقرًا لها.
وفي بعض الأحيان، تعود العراقيل المصرفية إلى مزاجية الموظف، “حين يعرف أنك سوري، يتهاون بخدمتك وتسيير معاملتك بشكل تلقائي”، وفق ما تراه آية خربطلي.
“كورونا” قلب الطاولة
خلال عام انتشار جائحة “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) في 2020، احتفظ معظم العاملين بوظائفهم داخل المؤسسات بسبب حالة عدم اليقين التي أحدثها الفيروس بشأن البطالة، والركود الاقتصادي، وازداد الغموض حول مدى استجابة العالم لوضع الحلول الخاصة من أجل الوصول إلى مرحلة التعافي الاقتصادي.
لكن نسبة الاستقالات الطوعية عام 2021 ازدادت على العام الذي سبقه، مع تراجع حالة عدم اليقين تلك، ما اعتبرته منصة “هارفارد بزنس ريفيو” المتخصصة بعلوم الإدارة في مقالها المترجم عبر موقع “مجرة”، “خروجًا جماعيًا غير مسبوق من قوة العمل”، وأطلقت عليه مسمى “الاستقالة الكبرى”.
كان سبب “الاستقالة الكبرى” هو تغيرات أحدثها تفشي “كورونا”، أفرزت عوامل في سوق العمل متعلقة بالانتقال إلى أنماط مختلفة من الحياة والعمل.
فالعاملون المستقيلون غالبًا ما يعيدون النظر في التوازن بين العمل والحياة الشخصية ومسؤولياتهم الأسرية، ويجرون تغييرات جذرية بين مختلف قطاعات العمل، أي أنهم يعيدون هيكلة مسيرتهم المهنية، بدلًا من الخروج من سوق العمل بالكامل، ويُظهرون التردد في العودة إلى المقار المكتبية بسبب المخاوف المتعلقة بعودة انتشار الفيروس.
والمخاوف المتعلقة بعودة انتشار “كورونا” والإغلاق العام كانت من الأسباب البارزة لاختيار آية خربطلي الاستمرار في العمل الحر عبر الإنترنت، فرغم المخاطر المالية التي تواجهها في سياق عملها عن بُعد، هناك شعور بإمكانية استمرار العمل حتى في حال عودة حالة الإجراءات الاحترازية في اسطنبول، الأمر الذي قد لا تشعر به في حال بقيت ضمن الوظيفة التقليدية بمؤسسة ما.
كذلك، يحرص مهند حمود على اعتياد العمل عن بُعد، كون هذا النمط بالإمكان الاعتماد عليه في أوقات الأزمات، فنموذج العمل التقليدي قد يؤدي إلى اضطرابات تتعلق باستمرارية العمل داخل المؤسسة، مع عدم وجود حلول فورية لذلك حاليًا سوى العمل عبر الإنترنت.
نحن نتحكم.. نحن نقرر
رغم التحديات المعيشية التي تفاقمت بعد “الغزو” الروسي لأوكرانيا في شباط الماضي، وعدم وجود أمان مادي دائم، لا يزال مهند وآية، مثل كثير من المشتغلين في مجال تصميم “الجرافيك” عبر الإنترنت، متمسكين بهذا النموذج من العمل، إذ بإمكانهم ملاحظة عدة مزايا للاستمرار في هذا النمط.
يرى مهند أن “جانب الإبداع والابتكار للوصول إلى أفكار جديدة أمر أساسي في هذه المهنة، والعمل (فريلانسر) يقدم ميزة مهمة تفقدها داخل المؤسسة المحكومة بعقود ونظام عمل صارم، وهي أنك أنت المتحكم باختيار نوعية العملاء، وأنت المسيطر على إبداعك”.
قد لا يتمكن فريق التصميم ضمن مؤسسة ما من تقديم مشروع جديد لمرؤوسيه، نتيجة التخوف من تطبيق ما هو جديد، و”هذا المجال يحتاج إلى الابتكار بشكل متجدد وبمرونة سريعة”، وفق ما ذكره مهند، و”في معظم المؤسسات ستسمع عبارة (لم نعتد مثل هذا التصميم من قبل)”.
هذا الأمر يجب ألا يكون سببًا وجيهًا للوقوف في وجه الإبداع، بل يجب الدخول في محاولات عديدة من التجريب بشكل مستمر ودائم.
وخلال العمل عبر الإنترنت، بإمكان المشتغل في مجال بالتصميم اختيار بيئات متعددة محلية وعالمية تناسب الهوية الفكرية التي يرغب بالعمل فيها، وتفتح له آفاقًا مهنية أكثر بالمقارنة مع التركيز على مؤسسة واحدة، وفق ما تراه آية خربطلي.
وفي بيئات العمل التقليدية داخل المؤسسات والشركات، تنمو المهارات الشخصية والمهنية، عبر الاجتماعات والنقاشات اليومية، التي تشجع الموظفين على اكتشاف ما يملكون من قدرات كي يظهروها ضمن عملهم، لتوليد أفكار جديدة، لكن هذا الأمر يغيب في العمل الحر ضمن عمل مستقل فردي يخلو من أي احتكاك مع الأشخاص يوميًا لمواكبة التطور والمهارات في مجال معيّن.
لكن رغم ذلك، يعتقد كل من مهند وآية أن هذه الخبرة لا تشكّل مشكلة حقيقية في عملهم عن بُعد، فهناك دائمًا فرص لاكتساب المهارات والتعلم ضمن ورشات العمل والدورات التدريبية التي تنظمها منصات متخصصة في موضوع تلك الدورات، بالإضافة إلى الاجتماع المتكرر مع أصحاب الخبرة، فالتطوير الذاتي لا يعتمد على مكان العمل، بل على رغبة الفرد واتخاذه قرار التعلم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :