إبراهيم العلوش
اندلعت مواجهات خلال الأيام الماضية بين الجيش الإسرائيلي وحركة “الجهاد الإسلامي” في غزة، قُتل فيها 46 على الأقل من المدنيين الفلسطينيين، بالإضافة إلى الترويع الذي أصابهم بشكل كبير، بينما كان المدنيون الإسرائيليون يتّبعون إجراءات السلامة الموفّرة لهم.
الجديد في هذه الاشتباكات هو أن إيران هي صاحبة التحرك، وبعض قادة “الجهاد الإسلامي” كانوا يديرون رشق الصواريخ في غزة من طهران، نفس العاصمة التي أدارت رشق الصواريخ والميليشيات الطائفية لقتل السوريين وتهجيرهم بالتعاون مع نظام الأسد والطائرات الروسية.
لا شك أن القضية الفلسطينية ذات أبعاد أهم بكثير من التحالف مع إيران، كما قال الكاتب أحمد مولود الطيار، في مداخلة له بإحدى الجامعات الكندية. ووجود إسرائيل اعتمد على الإرث الاستعماري الغربي أكثر من اعتماده على قيام دولة لشعب مضطهد ارتُكبت بحقة مذابح لطخت سمعة العشرات من المدن الأوروبية، وتورط قادتها في الفترة النازية بارتكابها، ولعل الزائر لأي مدينة من تلك المدن لا يستطيع تجاهل ذكريات “الهولوكوست” الذي مرّ في شوارعها وفي ميادينها بشكل أو بآخر.
ولكن إسرائيل، المدعومة من العالم الغربي بشكل يتخطى لوائح حقوق الإنسان، تورطت في استنساخ الأفكار الاستعمارية والعنصرية التي تدغدغ ذاكرة الغرب، وتهيّج ذكرياته الحميمية التي عاشها في القرون الثلاثة السابقة وهو يهيمن على العالم ويستبيح ثرواته.
وكانت إسرائيل من أقرب الدول إلى دولة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، التي تم إنهاؤها من قبل الأفارقة وبمساعدة القانون الدولي عام 1994، وكانت خسارة إسرائيل كبيرة في فقدان توأمها في التمييز العنصري. وقال الناشط الجنوب إفريقي من أصل يهودي ارثير غولدريخ، الذي عاش في إسرائيل لاحقًا، “إن إسرائيل تمثّل كل ما كنتُ أقاتل ضده في جنوب إفريقيا”، مع صديقه نيلسون مانديلا، وأضاف، “السلام لا يهم إسرائيل بقدر اهتمامها بالأراضي والاستيلاء عليها”.
النظام السوري الذي لا يزال منهمكًا في أكبر جريمة إبادة جماعية بحق السوريين، طالب عبر صحيفة “الوطن” اليومية بضرورة نصرة المقاومة، وعاب على حركة “حماس” التي تركت الأمور بيد حركة “الجهاد الإسلامي” لوحدها، ولم تدعمها إلا بالتنديدات والبيانات.
وينسى نظام الأسد أنه لم يسهم في تلك المعركة بشيء أكثر من الخطابات الجوفاء، ويتجاهل المذابح التي ارتكبها بحق الفلسطينيين في مخيم “اليرموك” بدمشق وغيره من المخيمات، بالإضافة إلى تأجير “جيش التحرير الفلسطيني” كميليشيا تقاتل إلى جانب الروس ضد السوريين، وتفتح المزيد من المساحات للهيمنة الإيرانية وللدعوات التبشيرية التي تقودها إيران في منطقة الجزيرة السورية ووادي الفرات.
وقد انتهجت إيران سياسة الاستيلاء على البيوت والأراضي في حركة استيطانية بدأت من أحياء دمشق، ولن تنتهي عند حلب أو وادي الفرات، فالشهية الإيرانية للاستيلاء على سوريا ليس لها حدود، والميليشيات الإيرانية ارتكبت من المجازر بحق السوريين ما لا يقارن بما ارتكبته عصابات “الهاغانا” الإسرائيلية، إذ هجّرت إيران نصف الشعب السوري في هندسة ديموغرافية واستيطانية تعبّر عن مخططات مستقبلية للهيمنة على سوريا.
تدعم الكثير من التنظيمات الدينية السورية إيران، ليس لكونها دولة مقاومة كما يدّعي نظام الأسد، بل لكونها دولة دينية تعطي مشروعية مستقبلية لـ”النصرة”، ولـ”داعش”، وللأفكار السلفية التي تحتقر الحاضر والمستقبل لمصلحة الماضي المقدس.
بعض الناشطين السوريين وعلى غير العادة رفعوا أصواتهم عاليًا في استنكار الهيمنة الإيرانية على قطاع غزة وإدارة العمليات فيه من طهران، فإيران هي سبب مأساة السوريين المهجّرين والمعذّبين، والذين تم تدمير بيوتهم، وهم لا يتسامحون مع دولة الملالي ولا مع أهدافها حتى ولو كانت تلك الأهداف تتضمن القضية الفلسطينية، وكان للفيديو الذي بثه الناشط مشعل العدوي، بعنوان: “عملاء إيران يتاجرون بدماء أهل غزة”، بعد عاطفي وهو يدافع عن أطفال سوريا وعن درعا التي تنتهكها ميليشيات إيران في نفس الوقت الذي يدّعي فيه محور الممانعة الدفاع عن فلسطين.
استعملت إيران قضية غزة من أجل تخفيف الضغط عنها في مفاوضات “فيينا” حول إعادة الاتفاق النووي وإنهاء العقوبات ضدها، واستعرضت عضلاتها على حساب الشعب الفلسطيني لتكسب موقفًا تفاوضيًا هناك، بالإضافة إلى ثأرها من الاختراقات الإسرائيلية في داخلها، التي تسببت بمقتل قادة عسكريين وخبراء نوويين، واستولت على أطنان من السجلات التي تتعلق بالنشاط النووي الإيراني ومن داخل إيران.
القضية الفلسطينية قضية نضال شعب ضحى منذ القرن الماضي من أجل أن ينال حريته وحقه في المساواة، وأنتج أسماء مهمة في تاريخ النضال الوطني من زمن عز الدين القسام، إلى ياسر عرفات الذي تقترب رمزيته من رمزية تشي غيفارا في القرن الـ20، والفدائي الفلسطيني صار رمزًا للتضحية، وقصص غسان كنفاني وأشعار محمود درويش وكتب إدوارد سعيد وغيرهم من المبدعين لا يمكن تجييرها لمصلحة دولة الملالي وأهدافها التكتيكية التي تبتز بها الشعب الفلسطيني من أجل التفاوض على ملفها النووي.
ولعل الألم السوري وتضحيات السوريين صارت ترتقي إلى رمزية جديدة في القرن الـ21، وهي تتصدى للدكتاتورية المدعومة من إيران، ولن تكون سوريا ولا فلسطين لقمة سائغة في فم إيران مهما بذلت من ثرواتها النفطية، ومهما نشرت من ميليشيات وفتاوى قادمة من مقابر التاريخ.