مأمون البستاني | ديانا رحيمة | خالد الجرعتلي | حسام محمود
يتحكم محوران دوليان بالملف السوري، ويكاد أحدهما يبتلع الآخر، الأول يتمثل بضامني “أستانة”، روسيا وتركيا وإيران، بينما يتضمن المحور الثاني داعمي العملية السياسية في “جنيف” برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
ويزيد المحور الأول حضوره في سوريا، محاولًا سحب البساط من المحور الثاني، عبر نشاط سياسي، آخره لقاء الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في مدينة سوتشي الروسية، في 5 من آب الحالي.
وسبق لقاء الرئيسين الروسي والتركي انعقاد قمة جمعتهما في العاصمة الإيرانية طهران، بالرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، وكانت بمنزلة تشديد سياسي على تكتل يجمع الدول الثلاث ويؤكّد مسار “أستانة” دون غيره على الساحة السورية.
في المقابل، لم تشهد قمة “جدّة للأمن والتنمية” الأمريكية- العربية، التي انعقدت في 16 من تموز الماضي، والتي جمعت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، جو بايدن، مع زعماء تسع دول عربية، مساحة واسعة للحديث حول سوريا، إذ مرّ ذكرها على لسان عدد من الرؤساء مرورًا “خجولًا” لم يحمل أي تغيير.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف، مع باحثين ومحليين وأكاديميين مختصين، التحركات السياسية للقوى الفاعلة في سوريا، والتغيرات العسكرية على الأرض، واندفاع قوى مقابل انكفاء أخرى عن الملف السوري، وتأثير ذلك على مسارات الحل المستقبلية في سوريا.
عند الشدائد.. لا أصدقاء للشعب السوري
في تموز الماضي، أعلن المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، إلغاء موعد الجولة التاسعة لاجتماعات اللجنة الدستورية التي كانت مقررة من 25 إلى 29 من الشهر ذاته.
وكان الرئيس المشترك للجنة الدستورية، هادي البحرة، أعلن أن بيدرسون أبلغه برسالة رسمية بتأجيل الجولة لـ”إخطاره من قبل الرئيس المشترك الذي رشحته حكومة الجمهورية العربية السورية، أن وفده سيكون مستعدًا للمشاركة في الدورة التاسعة فقط عندما تتم تلبية ما وصفه بالطلبات المقدمة من الاتحاد الروسي”.
في 16 من حزيران الماضي، أشار مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، إلى المدن التي يمكن أن تحتضن اجتماعات اللجنة الدستورية السورية بدلًا من جنيف السويسرية، مقترحًا ثلاث عواصم عربية (مسقط، أبو ظبي، الجزائر).
“أستانة” تضعف “جنيف”
الأكاديمي السوري- الكندي فيصل عباس محمد، الحاصل على دكتوراه في الدراسات الشرق أوسطية من كندا، قال لعنب بلدي، إن مطالبة روسيا بتغيير مكان هذه المفاوضات تعكس موقفًا كيديًا موجهًا ضد أوروبا، وهو موقف يتعلق بالشكل أكثر مما يتعلق بالمضمون أو المسار، ومكان الانعقاد لن يؤثر كثيرًا على مفاوضات هي عقيمة في الأساس، كما برهنت الجلسات الثماني “الهزلية” حتى الآن.
وكان البحرة أجاب، في وقت سابق لعنب بلدي، عما إذا كان مسار اللجنة الدستورية مثمرًا في المستقبل القريب، وعن استمرار تعويل المعارضة السورية عليه وتمسكها به، بـ“إننا نعي تمامًا أن اللجنة الدستورية ليست إلا جزءًا أساسيًا ومدخلًا للعملية السياسية، وليست بأي حال من الأحوال اختزالًا لها”.
لا أصدقاء لسوريا
حول الاجتماع الأخير لـ”مجموعة أصدقاء سوريا” الذي جرى في واشنطن، في 3 من آذار الماضي، يرى الأكاديمي فيصل محمد، أنه يُظهر غيابًا للجدية وللفاعلية في التعامل مع الملف السوري، باستثناء التعامل مع ملف المساعدات الإنسانية.
وفي 3 من آذار الماضي، قال ممثلون عن عدد من الدول العربية والغربية، عقب اجتماع أُقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، إنهم رحبوا بالإحاطة التي قدمها غير بيدرسون، خلال الاجتماع، “بما في ذلك عملية خطوة بخطوة”.
جاء ذلك في بيان نشرته وزارة الخارجية الأمريكية، عقب اجتماع حضره ممثلون عن كل من جامعة الدول العربية، ومصر، والاتحاد الأوروبي، وفرنسا، وألمانيا، والعراق، والأردن، والنرويج، وقطر، والسعودية، وتركيا، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب بيدرسون.
ويرى الأكاديمي فيصل محمد أن ترحيب المشاركين بـ”بدعة” (خطوة بخطوة) التي يروّج لها بيدرسون، لإحراز تقدم في “العملية السياسية” السورية، يدل على قصر نظر سياسي أو إبقاء الكرة في ملعب الأمم المتحدة، أو يشي بكليهما، وأن هذا لن يتغير إلا إذا أَنهت الدولة الأهم في هذه المجموعة (أي الولايات المتحدة) فتورها إزاء القضية السورية.
ويصوّر بيدرسون المقاربة التي يتحدث عنها، والتي تتجلى بوجود تقارب أمريكي- روسي بالملف السوري، وهو حجر الأساس في مقاربته، بأنها لا تزال في مرحلة العصف الفكري، وأن هنالك جولات إضافية من المشاورات، ولكن خطوات التقارب بين الدولتين لم تبدأ الآن.
“مجموعة أصدقاء سوريا”
هي تكتل من مجموعة دول وهيئات ومنظمات، على رأسها أمريكا والاتحاد الأوروبي وتركيا والسعودية والجامعة العربية، اتخذت موقفًا مناصرًا للثورة السورية. لكن دورها تراجع مع سيطرة النظام المدعوم روسيًا على مناطق واسعة في سوريا، وتحول المسار السياسي إلى “أستانة” الذي تضمنه روسيا وتركيا وإيران، كمسار بديل عن “جنيف”. |
هذه العوامل تجعل مسار “أستانة” يستأثر بالأضواء على حساب كل المعنيين بهذه القضية، بحسب الأكاديمي فيصل محمد، مع التذكير بأن هذا المسار ليس أكثر من إطار لإدارة الخلافات بين اللاعبين الأساسيين على الساحة السورية (روسيا وإيران وتركيا)، ولم يكن معنيًا يومًا بتقديم مخرج سياسي من المحرقة السورية.
“العملية السياسية في سوريا ولدت ميتة في الأساس”، بحسب الأكاديمي، الذي اعتبر أن الحل السياسي للصراع في سوريا يتطلب تدخلًا دوليًا وازنًا يفترض توافقًا بالحد الأدنى بين الدول الكبرى، وهو غير موجود، ليس بسبب “الفيتو” الروسي والصيني فحسب، بل وبسبب لامبالاة الاتحاد الأوروبي وأمريكا.
وعليه ستبقى العملية السياسية في سوريا مجمدة ضمن هذه الظروف وأسيرة بين محورين (أصدقاء سوريا وضامنو أستانة)، الأول غير فعال حتى الآن، والثاني يصطدم بواقع أن لاعبَين من أصل ثلاثة، هما روسيا وإيران، لا مصلحة لهما بحل سياسي في سوريا، لأنه يعني نهاية نظام يشكّل ركيزة مهمة لنفوذهما في المنطقة العربية.
أعين واشنطن على النفط ونووي إيران
انكفاء أمريكي متواصل عن سوريا
أظهرت زيارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إلى منطقة الشرق الأوسط في تموز الماضي، التي التقى خلالها مع حلفاء واشنطن في المنطقة، مدى الانكفاء الأمريكي عن الملف السوري ووقوف إدارة بايدن بعيدًا عن سوريا سياسيًا وعسكريًا.
وخلال الفترة بين 13 و16 من تموز الماضي، كان الملف السوري شبه غائب خلال وجود بايدن في إسرائيل، وحضر بخجل، في أثناء لقاء بايدن مع بعض القادة العرب في قمة “جدة للأمن والتنمية” في المملكة العربية السعودية.
غياب وحضور
غياب الملف السوري عن حقيبة بايدن خلال جولته الأولى في الشرق الأوسط منذ تسلّم منصبه في كانون الأول 2020، قابله حضور قوي لملفي نووي إيران والنفط، وهما الهدف المعلَن من الزيارة أساسًا.
رئيس المجلس السوري- الأمريكي، زكي اللبابيدي، قال لعنب بلدي، إن اهتمام الإدارة الأمريكية الحالية بالملف السوري تراجع بشكل كبير، واعتبر أن إدارة بايدن ليست مهتمة بإيجاد حل لسوريا.
وأضاف اللبابيدي أن إدارة بايدن أعلنت بعد أشهر قليلة من تسلّمه لمنصبه أنها تجري دراسة للخروج باستراتيجية حول سوريا، إلا أنه وبعد أن استغرقت الدراسة سنة تقريبًا، خرجت الإدارة باستراتيجية اقتصرت على نقطتين أساسيتين، هما التركيز على إيصال المساعدات الإنسانية ومحاربة الإرهاب.
ورغم أن إيصال المساعدات الإنسانية كان على رأس الأولويات الأمريكية تجاه سوريا، فإن واشنطن لم تتمكن من تجديد آلية إدخال المساعدات عبر الحدود لمدة عام، إذ تم تقليص المدة إلى ستة أشهر بضغط من روسيا التي تريد إيصال المساعدات عن طريق النظام السوري عبر خطوط التماس.
أسباب داخلية وخارجية
أما عن أسباب تراجع الاهتمام الأمريكي في الملف السوري، فقال اللبابيدي، إنها لا تتعلق بسوريا بقدر ما تتعلق بالوضع الداخلي في الولايات المتحدة، إذ إن لديها مشكلات داخلية وخارجية كثيرة أهمها: فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19)، التضخم المالي، مواجهة التحالف الصيني- الروسي، أزمة الطاقة.
“تراجع الاهتمام الأمريكي مرتبط بالأمور الداخلية وتحسين معيشة المواطن الأمريكي”، بحسب اللبابيدي، مشيرًا إلى أنه بالنسبة “للوضع الجيوسياسي العالمي، صارت سوريا مسألة ثانوية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وخوف الغرب من أن يربح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في أوكرانيا، ويهدد كل دول أوروبا الشرقية التي كانت تحت هيمنة الاتحاد السوفييتي”.
كما أن التوتر بين أمريكا والصين، الذي كان آخره زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان، التي أدت إلى إجراء الصين مناورات عسكرية كبيرة، يشغل القادة الأمريكيين السياسيين والعسكريين، مشيرًا إلى أن كل هذا الأسباب جاءت ضد مصلحة السوريين.
“تنازل عن سوريا”.. لمن؟
الانكفاء الأمريكي عن سوريا، دفع الصحفي والمحلل السياسي الأمريكي جوش روجين لكتابة مقال رأي نُشر في صحيفة “واشنطن بوست“، في 20 من تموز الماضي، قال فيه إن بايدن تنازل عن سوريا لمصلحة روسيا وإيران، وفق ما أظهرته زيارته الأخيرة إلى الشرق الأوسط.
روجين اعتبر أن إدارة بايدن تخلت عن أي تظاهر بالقيادة الأمريكية بشأن معالجة الملف السوري، وباتت “سياسة الإهمال” التي تُمارسها الإدارة تقوّض المصالح الأمريكية والإقليمية، وتهدد بترك أمن المنطقة في أيدي روسيا وإيران.
وذكر أن بايدن خلال الزيارة لم يأتِ بأي أفكار جديدة لحل الأزمة السياسية السورية، ولم يقدم أي تحذيرات علنية لدول الخليج التي “كانت تنهي ببطء وثبات الوضع المنبوذ للرئيس السوري، بشار الأسد”، مشيرًا إلى أن بايدن ذكر سوريا فقط مرة واحدة للترويج لمهمة أمنية أمريكية قتلت إرهابيًا هناك.
“القيادة من الخلف”
الدبلوماسي السوري المقيم في واشنطن بسام بربندي، قال لعنب بلدي، إن “تراجع الاهتمام الأمريكي بالملف السوري وبالشرق الأوسط ليس جديدًا، فذلك بدأ منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، الذي أطلق شعار (القيادة من الخلف)”، بمعنى أن الدول الإقليمية هي التي يمكن أن تحل الأزمات الموجودة فيها، بينما تدعم أمريكا حلفاءها من الخلف دون أي تدخل.
وأضاف بربندي أنه “كان واضحًا منذ عهد أوباما التغيّر في السياسة الخارجية الأمريكية، إذ تم التركيز على قضيتين فقط، الأولى التنافس مع الصين للحد من نموها السياسي والعسكري والاقتصادي، والثانية بناء وتعزيز الاقتصاد الداخلي للولايات المتحدة”.
وترافقت السياسة الخارجية التي استمرت أيضًا خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، والإدارة الحالية، مع سحب القوات العسكرية أو تخفيف وجودها أو إقامة حلف عسكري مع دول المنطقة، بحسب بربندي.
يرى بربندي أن سوريا دفعت الثمن الأكبر من سياسة الانكفاء الأمريكي للوراء، فبينما كانت واشنطن تفاوض طهران على الملف النووي في عام 2015، كانت إيران تتمدد في سوريا، حتى جاء ترامب وفرض عقوبات على إيران وانسحبت واشنطن من الاتفاق النووي في 2018.
واعتبر بربندي أن “ترامب كان أكثر وضوحًا وفجاجة بالتعبير عن السياسة الأمريكية تجاه سوريا، عندما قال صراحة إنه لا مصالح لواشنطن في سوريا، وأعلن عن انسحاب القوات الأمريكية منها، قبل أن يتراجع ويبقي على جزء منها”.
وذكر أن نقطة التحول في السياسة الأمريكية تجاه سوريا اتضحت في عهد ترامب، إذ اختُصرت بثلاث مسائل تمثلت في وقف إطلاق النار، ومكافحة الإرهاب، وإدخال المساعدات الإنسانية، وبينما سارت إدارة بايدن على نهج سابقتها، إلا أنها كانت على نحو أضعف، وركزت أيضًا على وقف إطلاق النار والمساعدات الإنسانية ومنع عودة تنظيم “الدولة الإسلامية”.
“بعبع” روسيا ونووي إيران
منذ بدء “الغزو” الروسي لأوكرانيا في شباط الماضي، أعلنت واشنطن دعمها لكييف في مواجهة القوات الروسية، وبالإضافة للدعم العسكري والمادي الذي قدمته لأوكرانيا، تعمل إدارة بايدن على دعم انضمام دول جديدة لـ”حلف شمال الأطلسي” (الناتو).
وفي 3 من آب الحالي، وافق مجلس الشيوخ الأمريكي بأغلبية ساحقة على انضمام كل من السويد وفنلندا إلى “الناتو”، لتكون الولايات المتحدة العضو الـ23 في الحلف الذي يصدّق على انضمام الدولتين الاسكندنافيتين منذ إطلاق عملية التصديق في 5 من تموز الماضي، بعد أن تقدمتا بطلب رسمي للانضمام في أيار الماضي.
تعتبر موافقة مجلس الشيوخ هذه الأسرع منذ 1981، ما جعل الرئيس الأمريكي، جو بايدن، يشيد بها، ويصدر بيانًا قاله فيه، “هذا التصويت التاريخي يرسل إشارة مهمة حول التزام الولايات المتحدة المستمر من الحزبين تجاه حلف (الناتو)، وضمان أن تحالفنا على أهبة الاستعداد لمواجهة تحديات اليوم والغد”.
في سياق آخر، تتحضّر واشنطن لاستئناف المفاوضات حول إحياء الاتفاق النووي الإيراني في العاصمة النمساوية فيينا، بعد توقف المفاوضات منذ آذار الماضي.
وأعلن المبعوث الأمريكي الخاص لإيران، روبرت مالي، عبر حسابه في موقع “تويتر”، في 3 من آب الحالي، أنه يستعد للسفر إلى فيينا لإجراء محادثات حول النووي الإيراني.
وأشار إلى أن التوقعات من المفاوضات “قيد التدقيق، لكن الولايات المتحدة ترحب بجهود الاتحاد الأوروبي، وهي مستعدة لمحاولة صادقة للتوصل إلى اتفاق. سيتضح قريبًا ما إذا كانت إيران مستعدة لذلك”.
الإعلان الأمريكي تبعه إعلان طهران عن مغادرة الوفد الإيراني المشارك في مفاوضات الاتفاق النووي البلاد باتجاه فيينا، لاستئناف هذه المفاوضات، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، إن هذه الجولة ستجري على غرار سابقاتها بتنسيق الاتحاد الأوروبي، وستكون على غرار محادثات “الدوحة” غير المباشرة التي سيّرها المنسق الأوروبي للمفاوضات، أنريكي مورا.
ينقسم السوريون بعد أكثر من 11 عامًا على انطلاق الثورة السورية حول القوى الخارجية الأكثر تأثيرًا في سوريا عسكريًا وسياسيًا.
هذا الانقسام تثبته إلى حد ما نتائج استطلاع للرأي أجرته عنب بلدي عبر موقعها الإلكتروني، حول من يؤثر في الملف السوري أكثر، إذ جاءت النتائج متقاربة.
وصوّت 54% ممن شاركوا في الاستطلاع لمصلحة الدول الضامنة لمسار “أستانة” (روسيا وتركيا وإيران، في حين صوّت 46% لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
أين العرب
يتشابه الموقف العربي من النظام السوري في الوقت الراهن إلى حد بعيد مع مواقف الدول العربية منه حين انطلقت الثورة السورية عام 2011، إذ قُسّمت ردود الفعل السياسية حينها ضمن مسارين، اختار أحدهما القطيعة السياسية ودعم الحراك الشعبي في سوريا، بينما خففت دول أخرى حدّة مواقفها، ما سهّل مع الوقت إحداث تقاربات مع النظام السوري في هذا المنحى.
ويعكس غياب الإجماع العربي حاليًا الانقسام بين المحورين الرئيسين المؤثرين في سوريا، إذ اقتربت بعض الدول من المحور الروسي- الإيراني- التركي رغم أنها محسوبة على المحور الأمريكي في المنطقة، وهو ما يؤكد الانكفاء الأمريكي وغياب دور الرادع في سوريا.
انقسام عربي
في 1 من آب الحالي، أفصح الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، عن مساعي بلاده “بكل قواها” لإنجاح عودة سوريا إلى الجامعة العربية، قائلًا في لقاء مع وكالة الأنباء الجزائرية (APS)، إن “القمة العربية المقبلة ستكون ناجحة طالما أن الجزائر ليست لديها نية أخرى وراء تنظيم هذه القمة سوى العمل على توحيد الصف العربي”.
تصريحات تبون سبقها بنحو أسبوع لقاء وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في العاصمة السورية دمشق، في 25 من تموز الماضي.
وبما يتعارض مع هجومه على “الجامعة” خلال لقاء مع قناة “روسيا اليوم”، في حزيران الماضي، اعتبر الأسد خلال لقائه لعمامرة أن “الجامعة العربية مرآة الوضع العربي”، وأن ما يهم سوريا هو صيغة ومحتوى ونتاج العمل العربي المشترك.
اللقاء الذي تخلله تبادل تسليم رسائل بين الأسد وتبون عبر لعمامرة، تبعه مؤتمر صحفي لوزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، ونظيره الجزائري، دعا خلاله المقداد للتعامل مع الأمور “بواقعية”، والتفكير بالضغوط الممارَسة على مختلف الأصعدة لحل كثير من القضايا، معتبرًا أن سوريا كانت وستبقى في “قلب العمل العربي المشترك”، على حد تعبيره، محافظًا على إيقاع التودد للدول العربية، الذي استعمله الأسد خلال مقابلته مع “روسيا اليوم”.
لبنان الذي اتخذ مطلع الثورة قرار “النأي بالنفس” دون تطبيق، يبدي ترحيبًا بعودة النظام إلى الجامعة العربية، ويشاركه الموقف أيضًا كل من سلطنة عمان، والعراق، والجزائر، الدولة المضيفة للقمة العربية.
وفي الوقت نفسه، تعارض دول أخرى عودة النظام، منها قطر، والسعودية التي شددت في كانون الأول 2021، على لسان مندوبها لدى الأمم المتحدة، عبد الله المعلمي، على أن الحرب في سوريا لم تنتهِ بعد، مشككًا في روايات النظام حول ما يعتبره انتصارًا.
وقال المعلمي خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، “ما النصر الذي حققوه إذا وقف زعيمهم على هرم من الجثث؟”.
بالمقابل، تحدث تقرير لصحيفة “الجارديان”، في أيار الماضي، عن زيارة لرئيس المخابرات السعودية، خالد الحميدان، إلى دمشق، ولقائه بمسؤولين من حكومة النظام، ما فُسِّر حينها بأنه مقدمة لانفراج وشيك بين خصمين إقليميين كانا على خلاف طوال سنوات الصراع.
ورغم لقاء وزير الخارجية المصري، سامح شكري، مع المقداد، في تشرين الثاني 2021، خلال زيارة الأخير إلى مقر البعثة المصرية في نيويورك، والحديث عن “استكشاف كيفية إسهام مصر في خروج سوريا من أزمتها واستعادتها استقلال أراضيها وعودتها مرة أخرى إلى حظيرتها العربية”، وفق مداخلة هاتفية لشكري ضمن برنامج “الحكاية” عبر قناة “MBC مصر”، نقل موقع “إنتلجنس أونلاين“، مطلع تموز الماضي، أن مصر تعارض عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية التي ستعقد قمتها في تشرين الثاني المقبل.
من جانبه، أبدى الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، خلال مقابلة أجراها مع قناة “الجزائر“، في 21 من حزيران الماضي، أن “مشاركة سوريا في القمة العربية عندما تتم سوف تكون من خلال توافق عربي كبير”، وذلك بعد ثلاثة أشهر من حديثه إلى صحيفة “الشرق الأوسط“، في 28 من آذار الماضي، الذي أبدى خلاله عدم معرفته بما إذا كانت سوريا ستعود للجامعة العربية قريبًا، “ربما في المرة المقبلة، وربما بعد سنوات مقبلة، لا أعرف”.
موقف أمريكي؟
الولايات المتحدة الأمريكية التي تعارض بتصريحات مسؤوليها التقارب مع النظام السوري، لم تتخذ خطوات واضحة ومرئية أمام تقارب دول حليفة لها مع النظام، وأبرزها الإمارات، التي كسرت عزلة بشار الأسد السياسية، ومنحته أولى زياراته لبلد عربي منذ اندلاع الثورة السورية 2011.
واكتفت الولايات المتحدة بالتنديد بالزيارة في اليوم نفسه، على لسان المتحدث باسم الخارجية، نيد برايس، الذي تحدث عن خيبة أمل عميقة ومقلقة لدى واشنطن من محاول إضفاء الشرعية على الأسد، وأكد أن مواصلة واشنطن معارضتها جهود تطبيع العلاقات أو إعادة تأهيل الأسد، وعدم تنازلها أو رفعها للعقوبات عن سوريا دون إحراز تقدم نحو حل سياسي للصراع الذي أودى بحياة مئات الآلاف منذ اندلاع الثورة ضد الأسد.
كما نقل موقع “أكسيوس” الأمريكي، عن مصدرَين وصفهما بـ”المطلعَين”، أن إدارة بايدن علمت بالزيارة من وسائل الإعلام، مضيفين أن مسؤولي البيت الأبيض ووزارة الخارجية شعروا بالذهول.
وفي 15 من آذار 2022، قدّم الحزبان “الجمهوري” و”الديمقراطي” مشروع قرار يشدّد الخناق على النظام السوري بهدف محاسبته على جرائمه ضد الإنسانية، واصفًا إياه بـ”المجرم المدعوم من روسيا وإيران”.
المشروع عارض تطبيع أي دولة مع النظام، كما أقر بغياب الحل في سوريا مع وجود النظام السوري، ودعا الرئيس الأمريكي لعدم الاعتراف بحكومة سورية بقيادة بشار الأسد، أو أي انتخابات مستقبلية في سوريا بقيادته، إلى جانب فرض قانون “قيصر” لحماية المدنيين في سوريا لعام 2019 بقوة، خاصة للجهات الحكومية التي طبّعت علاقاتها مع النظام، وفرض وقف تنفيذ مشروع “خط الغاز العربي” وأي اتفاقات طاقة أخرى ستزوّد النظام بالغاز والكهرباء.
وفي مطلع الشهر نفسه، نشرت السفارة الأمريكية في دمشق تغريدة، عبر حسابها الرسمي في “تويتر”، أعلنت فيها آذار “شهر المحاسبة”، وأن الإفلات من العقاب “سينتهي” في سوريا، لكن الأمر لم يتعدَّ نطاق “التغريدات”.
تحالف روسي- إيراني في وجه التهديد التركي
انقسام داخل محور “أستانة”؟
يعتبر مسار “أستانة” الذي انطلق منذ عام 2017، من العوامل التي أثرت على تغيّر مناطق الانتشار والسيطرة في سوريا خلال السنوات الخمس الماضية كل وفق مصالحه وتوجيهه لمصطلح “الإرهاب” في سوريا.
بين عامي 2017 و2022 عُقدت 18 جولة من محادثات “أستانة”، أحدثها في حزيران الماضي، وخيّمت على أجوائها العملية العسكرية التي تلوّح بها تركيا على حدودها الجنوبية مع سوريا، والتي تستهدف بها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تراها امتدادًا لحزب “العمال الكردستاني” المصنف إرهابيًا على قوائمها.
في حين تحاول روسيا وإيران تحقيق مكاسبهما الخاصة التي تتقاطع مع مكاسب للنظام السوري، المدعوم من قبل الدولتين ضد فصائل المعارضة المدعومة من تركيا شمال غربي سوريا.
إيران تملأ “الفراغ”
لم تغب إيران عن هذه المؤتمرات والمباحثات السياسية حول سوريا، وفي قمة “طهران” الأخيرة، تصدّر الحديث عن العمل العسكري الذي تلوّح به تركيا في سوريا منذ عدة أشهر، إلا أنه لم يُحسم بسبب الرفض الروسي- الإيراني.
الباحث المختص في الشأن الإيراني مصطفى النعيمي، اعتبر أن التصدّر الإيراني مؤخرًا بالملفين العسكري والسياسي في سوريا هو “ملء للفراغ الروسي”، خصوصًا في حال اتساع هذا الفراغ مع مرور الوقت.
وفسّر النعيمي، لعنب بلدي، عقد القمة السياسية المتعلقة بسوريا في طهران بالتحديد، على أنها دعم روسي لإيران لزيادة نفوذها في هذا الملف تحضيرًا لاتساع فراغ وجودها في الملف نفسه مستقبلًا.
وكان لروسيا دور كبير في زيادة نفوذ طهران السياسي والعسكري في سوريا، من خلال دفع إيران لمحاولة “إجهاض” مخطط العملية التركية عبر لعب دور الوسيط بين قوات النظام وتركيا.
انتشار عسكري إيراني كثيف
المصلحة الإيرانية في سوريا بالطبع لا تقتصر على مكاسب سياسية يمكن تحقيقها من الملف السوري، إذ زادت من وجودها العسكري بمختلف المحافظات السورية خلال السنوات الماضية، مع تقدم قوات النظام على حساب فصائل المعارضة وتنظيم “الدولة الإسلامية” منذ عام 2017 وحتى 2020.
وفي مطلع نيسان الماضي، سلّمت القوات الروسية شرقي حمص المستودعات العسكرية في منطقة مهين، ثاني أكبر مستودعات السلاح والذخيرة في سوريا، لميليشيا “حزب الله” اللبناني، وقوات من “الفرقة الرابعة” الموالية لإيران في الجيش السوري، بحسب تقرير نشرته صحيفة “الشرق الأوسط“.
ومع تسليم مستودعات “مهين” لإيران، صارت المناطق الممتدة من القلمون المحاذية للبنان إلى دير عطية ومهين والقريتين والسخنة شرقي حمص، وصولًا إلى مناطق أثريا بريف حماة الشرقي وحقول النفط في جنوب الطبقة بريف محافظة الرقة، كلها خاضعة للنفوذ الإيراني، بحسب الصحيفة.
وفي دراسة أعدها مركز “جسور للدراسات”، أحصت القواعد العسكرية الأجنبية المنتشرة في سوريا، والتي بلغت 753 موقعًا حتى منتصف العام الحالي، من بينها 469 موقعًا عسكريًا إيرانيًا موزعًا بين مواقع عسكرية وعملياتية وأمنية.
كما أشارت الدراسة إلى أن القوات الإيرانية كانت الأكثر زيادة من بين القوات الأجنبية المنتشرة في سوريا خلال النصف الأول من العام الحالي.
أمريكا وتركيا بين “حليف وعدو”
مع الحديث عن تغير انتشار القوات وتوزعها في سوريا خلال السنوات الأخيرة، لا بد من الإشارة إلى التجاذب الروسي- التركي شمال غربي سوريا، خصوصًا في الريف الجنوبي لمحافظتي إدلب وحلب، والذي انتهى بسيطرة النظام على مناطق واسعة في المنطقة كمدن سراقب ومعرة النعمان.
الباحث المساعد في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” والزميل في معهد “التحرير لسياسات الشرق الأوسط” محسن المصطفى، اعتبر أن الابتعاد الأمريكي عن الملف السوري على الصعيد العسكري خلال السنوات الماضية، لا يمكن اعتباره إقصاء لأمريكا التي تخلّت عن رأس العين وتل أبيض (شمال شرق) لمصلحة تركيا، بينما لم تتخلَّ عن أي مناطق لمصلحة روسيا وإيران.
ولا تعتبر الدوريات التي تسيّرها روسيا في مناطق من شمال شرقي سوريا، ولا حتى تثبيت بعض النقاط العسكرية أو المواقع هنا أو هناك سيطرة روسية، بحسب ما قاله المصطفى لعنب بلدي.
واعتبر الباحث أن الصراع العسكري اليوم بات “مجمدًا”، إذ لا تبدو لدى روسيا أو تركيا نية نقض اتفاق “خفض التصعيد”، الذي أوقف العمليات العسكرية شمال غربي سوريا، وهو ما يدفع تركيا للبحث عن توافق مع روسيا لشن عملية عسكرية ضد “قسد” لاستكمال إنشاء “منطقة آمنة” بعمق 30 كيلومترًا على طول حدودها داخل سوريا.
أصدقاء كذبوا بلطف..
سوريا إلى أين؟
في خضم هذا التحرك السياسي والعسكري النشط لمحور “أستانة”، بينما تواصل أمريكا تجاهل الملف السوري، يبقى المستقبل السياسي والعسكري في سوريا غامضًا.
المفكر وأستاذ علم الاجتماع السياسي المعاصر في جامعة “السوربون” الفرنسية برهان غليون، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن “كل ما حصل حتى الآن هو تمثيلية ومزحة سوداء للإيحاء بإمكانية الوصول إلى حل بالسياسة، وذلك لكسب الوقت وتحقيق النصر العسكري الكامل الذي طالما تغنى به النظام، ولم يكف عن إعلان تحقيقه مرة وثانية وثالثة وفي كل مفترق منذ أن أعلنت مستشارته (العبقرية) بثينة شعبان، ورددت أن الأمر انتهى أو أن العملية العسكرية ستنتهي خلال شهرين على الأكثر”.
أكذوبة لطيفة.. وأمل إبليس
ويرى غليون أن “مجموعة أصدقاء سوريا” كانت أيضًا “أكذوبة لطيفة، حيث اعتقد الغربيون في الأشهر الأولى أن رئيس النظام السوري، بشار الأسد، ساقط لا محالة أمام حجم الثورة الشعبية وتصميم السوريين وتضحياتهم التي لا تتوقف، لكن سرعان ما انتبهوا أن حساباتهم لم تكن دقيقة، وأن دخول طهران ثم روسيا على الخط، وتبنيهما لانتصار الأسد بأي ثمن، أي حتى بتدمير سوريا وتحطيم شعبها، لم يترك لهم هامش مناورة يُذكر”.
و”أصبح تحقيق الوعود يتطلب انخراطًا جديًا في الصراع لم يكن ضمن توقعاتهم، وبالتالي تكلفة عالية لا يريدون أو لا يستطيعون تقديمها وليست في حساباتهم، فانسحبوا بهدوء، ثم غابوا عن الصورة تمامًا”، بحسب غليون.
وأشار إلى أن “أستانة” لم تكن سوى “مزحة ثقيلة أراد بها الروس أن يخرجوا الغرب من دائرة الصراع في سوريا، وهو ما اشتراه الغربيون بطرابيشهم، وما كانوا ينتظرون فرصة أفضل للانسحاب وسحب أيديهم من المحرقة التي سوف يتحملها السوريون وحدهم”، فـ”قبلوا من دون نقاش باللجنة الدستورية، ليوحوا للسوريين أنهم لا يزالون يدعمونهم سياسيًا”.
أما “مؤتمر (جنيف) فقد جبّته (أستانة) وحلّت محله، ولم يعد للتذكير بقراراته لدى الغربيين والمعارضة السورية وظيفة، سوى كسب الوقت من دون أي انحياز، وتبرير الاحتفاظ بالرواتب والمناصب التي ولدت على هامشه، وفي أمل انعقاده”، بحسب غليون، و”الأمل بهذا الانعقاد هو ما ينطبق عليه القول: أمل إبليس بالجنة، للأسف”.