حضارة الأمن العسكري

  • 2022/08/07
  • 10:55 ص

إبراهيم العلوش

الأمن العسكري هو أهم إنجاز حققه حافظ الأسد، وهو الذي طبع الحياة السورية بطابعه العنيف المتمثل باحتقار حقوق الإنسان، واحتقار المواطن السوري حتى ولو كان من أشد المؤيدين للنظام.

احتفل نظام الأسد خلال الأسبوع الماضي بعيد الجيش الذي وافق 1 من آب الحالي، وكالعادة أفرط إعلام النظام في مديح الجيش إلى درجة رفع صورة البوط العسكري فوق كل الرموز السورية الأخرى، وقد قدم التلفزيون السوري خلال السنوات الماضية مشاهد لمشاهير يقبّلون البوط العسكري، ووصل الأمر إلى استئجار المذيعة التونسية الشهيرة كوثر البشراوي لتقبيل البوط العسكري في بث مباشر.

ولكن شركاء النظام يكيلون الإهانة تلو الأخرى لجيشه، وآخرها الفيديو الذي تداولته مواقع “الميديا” لإهانة وزير الدفاع، علي محمود عباس، في طرطوس، ومنعه من مرافقة القائد العسكري الروسي في أثناء الاحتفال بعيد القوى البحرية الروسية الذي تزامن مع عيد جيش النظام.

نظرة سريعة على تاريخ الجيش في ظل عائلة الأسد تشير إلى أن الأمن العسكري ومشتقاته، من أمن جوي وفروع مستقلة وغيرها، هي التي أودت بمكانة الجيش وحولته إلى خادم لعائلة الأسد وللقوى الاستعمارية الروسية والإيرانية، عبر التحكم بضباطه الكبار والصغار، عندما جعلت الوشاية هي الشرف العسكري، والمبالغة بتكريس “قدسية” عائلة الأسد هي الواجب الوطني والعسكري المشرِّف.

لمع نجم الأمن العسكري بعد أحداث الثمانينيات، مع اعتقال عشرات ألوف السوريين وتصفية الكثير منهم بحجة أنهم “إخوان مسلمون” و”بعث عراقي”، وقد تمت تصفية جيل كامل من الشباب السوري في الثمانينيات عبر التعذيب والاعتقال، وتم تعقيم الجيش وتصفية ولائه الوطني عبر شعارات من قبيل “قائدنا إلى الأبد”، و”الانتخاب بالدم”، وتم رفع المسؤول الأمني الذي يتبع للأمن العسكري إلى مرتبة أعلى من قائد القطعة العسكرية، حتى ولو كان قائد القطعة برتبة لواء والمسؤول الأمني برتبة مساعد أول.

في منتصف الثمانينيات، وبعدما أعلن رفعت الأسد تمرده على نمط الأمن العسكري في حكم سوريا، وطالب بالحكم المافيوي العلني بدل التستر بالشعارات والخطابات الوطنية والقومية الرنانة، انتبه حافظ الأسد إلى خريطة القوى العسكرية المتنامية حوله، بعد ترحيل أخيه رفعت من البلاد، فاستعمل الأمن العسكري لتهميش بعض قادة الجيش الكبار، أو إركاعهم، رغم الخدمات التي قدموها والمذابح التي ارتكبوها من أجله.

وقد كان مشهد تشليح سلاح علي حيدر قائد القوات الخاصة في أحد مقار الأمن العسكري ذا دلالة رمزية، فعلي حيدر الذي ارتكب المجازر في حلب وحماة ولبنان، وابن العشيرة العلوية الكبيرة، سخر من فكرة توريث الحكم لبشار الأسد، وشكّك في كفاءاته قائلًا: “الرئيس حافظ عم يغلط. يعني لما يجيب ابنه رئيس بعده فهو يرتكب خطيئة كبيرة، لماذا يريد تركيب هذا الولد”، كما نقل الصحفي اللبناني حسن صبرة في كتابه “سوريا.. سقوط العائلة”.

وهذا المشهد يعبّر عن انعطاف الأسد من الاعتماد على قادة الجيش، إلى الاعتماد على قادة الأمن الذين يتلاعب بهم ويوظفهم كمخبرين ضد بعضهم بعضًا، حتى ولو كانوا في نفس الفرع أو المفرزة، فعلي دوبا قائد الأمن العسكري هو من اعتقل علي حيدر رفيق دربه. وقد كان له نفس المصير من الإقصاء كما تنبأ له علي حيدر بذلك، وهم يجردونه من سلاحه.

ومنذ الثمانينيات، ازدهرت نشاطات الأمن العسكري التي اتسمت بالإرهاب والتخويف ونشر النفاق، وانتشر مخبرو الأمن في دوائر الدولة والمنظمات الشعبية والنقابات، في مشهد “حضاري” يعبر عن نظريات الأسد وترسيخ نهجه المافيوي، وصارت كتابة التقارير هي الوسيلة المتاحة للترفع الوظيفي والنجاة من الاشتباه الذي يحوم فوق الموالي قبل المعارض، وصارت أغاني “طلائع البعث” و”الشبيبة” هي مصدر الفن والولاء، وتأخذ النصيب الأكبر من الرعاية وهي تُعد أبناء الأسد وشبيبة الأسد.

وتطور التفرد الأمني من عزل المواطن وإخراسه إلى احتقار وجوده وتهجيره في عصر الأسد الابن، فأولى المذابح التي ارتُكبت بحق المتظاهرين في مطلع ثورة آذار 2011 كانت من قبل الفرق الأمنية، وعصابات “الشبيحة” كانت منظمة ومؤدلجة طائفيًا من قبل الفروع الأمنية، ولعل مذبحة حي التضامن شاهد واضح من آلاف المذابح التي ارتكبتها عصابات التشبيح التي نظمها الأمن العسكري.

لم يكتفِ الأمن العسكري بمراقبة الجيش والمجتمع السوري، بل “شبَح” سوريا كلها وعلّقها على صورة كل المعتقلين الذي ذاقوا العذاب في دهاليزه المظلمة والمليئة بالتهديد والوعيد، وتم احتكار السلطة والثروة بين أعضاء العائلة وتابعيهم الذين يتم تغيير أسمائهم بين فترة وأخرى بشكل منظم ويراعي شكلية الأنظمة والقوانين.

ولعل عائلة مخلوف أبرز مثال على الاحتكار الاقتصادي، وفي نفس الوقت هي مثال على الإقصاء المباشر رغم كل الخدمات التي قدمتها والقرابة التي تصلها بعائلة الأسد.

“حضارة الأمن العسكري” هو الوصف المناسب لكل مرحلة حكم عائلة الأسد، التي ابتدأت في عصر الأسد الأب بكتابة التقارير ونشر النفاق وممارسة التعذيب، وانتقلت مع الأسد الابن إلى طور عصابات “التشبيح” والبراميل المتفجرة وتدمير المدن، وتهجير السكان وتجويع من تبقى منهم، وتأجير الجيش وقطعاته للإيرانيين والروس، هذه هي الحصيلة التي أنتجتها مئات الفروع والمفارز الأمنية بكل مسمياتها عبر 50 سنة ومن خلال مئات الأطنان من الدراسات الأمنية والتقارير التي لا تزال هي الوسيلة الوحيدة لاستمرار حكم عائلة الأسد!

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي