خطيب بدلة
سنة 1990، وفي عز دين الهبل القذافي، غنت ثلاث مطربات عربيات، هن اللبنانية جوليا بطرس، والسورية أمل عرفة، والتونسية سوسن حمامي، أغنية “وين الملايين”، من كلمات الشاعر الليبي علي الكيلاني، واشتهرت الأغنية في كل البلدان، بوصفها نشيدًا للثورة العربية!
تقصدتُ أن أستخدم كلمة “الهبل” في هذا المقام، لأن الأغنية، من رأسها إلى أساسها، تقوم على فكرة شبيهة بالحكاية التي رواها عادل إمام في مسرحية “الواد سيد الشغال”، عن رجل كان يسبح في البحر، وسقط منه خاتم، وبعد 30 سنة، تصور، اشترى سمكًا من السوق، وعندما فتح بطن أول سمكة، “لم يجد الخاتم في داخلها”!
أقام معمر القذافي حكمه، منذ أيلول 1970، على وهم زعامة الأمة العربية، ومع أن جاره التونسي الحبيب بورقيبة نصحه، في احتفالية علنية منقولة على الهواء، بأن يتعقل، ويلتفت لشؤون دولته الصغيرة ليبيا، ويدير باله على شعبه الغلبان، إلا أنه لم يرعوِ، وبقي يبدد المال، ويستكري منظمات إرهابية، ويستجلب أدباء تعبانين من البلاد “الثائرة”، وبالأخص سوريا، ليقايضوه المديح بكمشة من المال، تسترهم في بلادهم التي أفقرتها الأنظمة القومية الاشتراكية المناضلة.
أراد الشاعر علي الكيلاني أن يحشد بأغنيته ملايين العرب الشرفاء، المقاومين، المناضلين، لنصرة الشعب الفلسطيني الذي كان منتفضًا يومذاك، مع أن هذا الشعب الغلبان عانى من الحكام العرب، منذ 1948، ربما أكثر مما عانى من المحتل الإسرائيلي، وراح، الكيلاني، ينتقد الحكام (عدا القذافي طبعًا) قائلًا إنهم يرتاحون، ويكيفون، ويتنعمون بالمال، بينما الملايين تشقى، ويمتدح ثورة الرجال التي لا تباع بالمال، ولعل قمة الوهم عنده تتجلى في قوله: ناديت ولم يأتني واحد من مئة مليون، و”ناديت الجيوش، صوتي ما سمعوش”، إلى آخر ما هنالك من اللغط، والكلام المرسَل الذي اعتدناه من الحكام الذين اعتلوا كراسي الحكم في بلادهم بانقلابات عسكرية، وما عادت قوة على وجه الأرض بقادرة على زحزحتهم قيد أنملة.
إن مصطلح “الملايين” ينطوي، بلا شك، على احتقار للإنسان العربي، وإقلال من شأنه، ودعس على كرامته، إذ يبدو الأمر وكأنه ليس أكثر من واحد من كمشة ملايين، وهؤلاء لم يلبوا نداء المطربات الجميلات اللواتي كن يسألن “وين الملايين؟”، ولن يلبوا أي نداء كهذا في المستقبل، ليس لأنهم جبناء، متخاذلون، كما يحلو للبعض أن يصفهم، بل لأنهم طفرانون، تعبانون، مشمئزون من النداءات التي توجه إليهم بالجملة، وتتكلم باسمهم بالجملة، مثلما فعل الشاعر المصري إسماعيل الحبروك، حينما كتب لعبد الحليم حافظ أغنية “يا جمال يا حبيب الملايين”، وادعى أن جمال صحى الشرق كله، وديانًا وجبالًا وشعوبًا، بينما الملايين البائسة متجمعة في مكان واحد، تصيح نحن الملايين.
هل تعرف أين الملايين اليوم يا سيدي المحترم؟ أنا أقول لك: كل ثلاثة أو أربعة ملايين يتابعون شيخًا داعية على “تويتر”، ومجموعة أخرى من الملايين تتابع مهرجًا سخيفًا على “إنستجرام”، وملايين أخرى زعلت على مقتل الظواهري، وأخرى تتزاحم على الخيام، وغيرها عالقة على حدود أوروبا، وما زال أصحاب الأجندات المضللة يسألون: وين الملايين؟