عنب بلدي- صالح ملص
تعد الحماية الجنائية أحد أنواع الحماية القانونية، وأكثرها أثرًا في إطار حقوق الإنسان، وعلى اعتبار أن القضاء هو الأداة الرئيسة من أجل مواجهة الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الأفراد، والتي تشكّل جرائم دولية، تدفع منظمات حقوقية سورية نحو محاسبة جهات محددة فاعلة في النزاع السوري، في محاولة لمواصلة استهداف منتهكي حقوق الناس.
في 14 من تموز الحالي، نشر “المركز السوري للعدالة والمساءلة” تقريرًا تعمّق في أنماط معيّنة من الانتهاكات من أجل تحديد مصادر معيّنة للنشاط الإجرامي، وظهر أحد هذه الأنماط فيما يتعلق بالانتهاكات التي ارتكبتها الجماعات المسلحة المدعومة من تركيا في عفرين شمالي سوريا، وتحديدًا تلك التي ارتكبها عناصر فصيل “فرقة السلطان سليمان شاه”، المعروف باسم “العمشات”، في شيخ الحديد.
واستدعت الطبيعة الممنهجة لهذه الانتهاكات في التقرير، إلقاء نظرة فاحصة على أثر الجرائم التي خلّفها قائد الفصيل محمد الجاسم (أبو عمشة)، التابع لـ”الجيش الوطني السوري”.
ومن أبرز الجرائم التي عرضتها تحقيقات فريق التحقيق التابع لـ”المركز السوري”، جريمة “الكسب غير المشروع”، ضمن ممارسات غير مشروعة “تولد إيرادات تزيد على 30 مليون دولار أمريكي سنويًا”.
وعلى الرغم من وجود نشاط حقوقي سوري واسع بمحاسبة مرتكبي الانتهاكات في سوريا، لا تزال تلك الانتهاكات تتوسع على نحو أكبر.
وبناء على تقرير آخر، نشرته منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، أواخر حزيران الماضي، يحصل “أبو عمشة” على ملايين الدولارات سنويًا بثلاث طرق رئيسة، منها التجارة والاستثمار غير المشروع عبر مكاتب تحويل أموال بين سوريا وتركيا في ولايات تركية منها الريحانية واسطنبول، وشركة عقارات في كلّس.
سياقات متعددة
امتلاك “أبو عمشة” مشاريع استثمارية في عدة ولايات تركية مختلفة، قد يكون منفذًا حقوقيًا للمنظمات المعنية في تركيا، لإثبات المسؤولية الجنائية التي يتحمّلها “أبو عمشة”، ومحاسبته في حال كان للمحاكم التركية ولاية قضائية على تلك الجرائم.
وبحسب ما قاله رئيس “تجمع المحامين السوريين الأحرار”، المحامي غزوان قرنفل، فإن أساس أي دعوى هو توفر الصفة والمصلحة أولًا، أي يجب أن يكون هناك مدّعٍ له صفة بكونه متضررًا من الفعل الجرمي المنسوب للخصم، وبالتالي له مصلحة في مقاضاته بقصد الوصول إلى الإنصاف والعدالة.
وفيما يخص جريمة “الكسب غير المشروع” التي وُجهت لـ”أبو عمشة” من قبل منظمات حقوقية، فمن المهم معرفة هل للقضاء التركي ولاية قضائية لمحاكمة شخص ليس تركيًا، وأن الجرائم التي ارتكبها لم يتم ارتكابها على الأراضي التركية، بحسب ما يراه المحامي قرنفل، ومن المهم الإجابة عن هذا السؤال قبل حسم مسألة إمكانية أو عدم إمكانية محاكمة “أبو عمشة”.
ومن حيث المبدأ، هناك سياقان يمكن من خلالهما محاكمة “أبو عمشة” في تركيا، بحسب قرنفل، الأول يكمن بوجوب توفر مدّعٍ أو مدعين أتراك، أو أن يكون المدعى عليه تركيًا، أو أن تكون الجريمة أو الجرائم مرتكَبة على أرض تركية.
أما السياق الثاني، ففي حال عدم توفر تلك الشروط، يجب أن يكون “أبو عمشة” موجودًا داخل الأراضي التركية، وأن تكون الجرائم المنسوبة إليه تمس السلامة الوطنية للبلد، مثل جرائم تهريب المخدرات أو تبييض الأموال أو الإرهاب أو الاتجار بالبشر أو إدارة مجموعات هجرة غير شرعية، فإن توفر أحد هذين الأمرين بإمكان المنظمات العمل على محاكمته.
والملجأ الأخير للمنظمات الحقوقية في تركيا هو “مبدأ الولاية العالمية”، الذي بحسب قرنفل، “يتمتع به القضاء التركي ربما ضمن نطاق وشروط أضيق قليلًا من بعض الدول الأوروبية، لكنه موجود، وهو إمكانية مقاضاة (أبو عمشة) ببعض الجرائم التي توصف بكونها جرائم ضد الإنسانية”.
تستند محاكمات حقوق الإنسان في أوروبا إلى مبدأ “الولاية القضائية العالمية”، الذي يشير إلى الأطر القانونية التي تسمح للنظم القضائية الوطنية بالتحقيق في بعض الجرائم ومقاضاة مرتكبيها، حتى لو لم يرتكبها أحد رعاياها على أراضي البلد أو ضد أحد رعاياها.
وتستخدم المحاكم الأوروبية قوانين “الولاية القضائية العالمية” للتحقيق في الادعاءات بارتكاب جرائم خطيرة في سوريا. وفي حين أن من الأفضل، من حيث المبدأ، إقامة العدالة في البلدان التي تُرتكب فيها الجرائم، فإنه لا يكون ذلك ممكنًا في كثير من الأحيان.
ويقلل هذا المبدأ من فكرة “الملاذ الآمن” التي قد تمكّن مرتكبي هذه الجرائم من الإفلات من العقاب، وتوجه إشارة قوية إلى طبيعة الجرائم الأساسية وخطورتها.
مشكلة جوهرية
المشكلة القائمة في مسألة محاكمة “أبو عمشة” داخل تركيا، هي أن الاستثمارات التجارية الموجودة له ليست مسجلة باسمه فعليًا، وهذه “نقطة جوهرية” في الإفلات من العقاب، بحسب ما قاله الحقوقي السوري طه غازي لعنب بلدي.
الأملاك التي تعد ركائز أساسية لتوليد ثروة “أبو عمشة”، داخل تركيا، مسجلة باسم أشخاص “من الدائرة الضيقة” لـ”أبو عمشة”.
وبالتالي، يرى الحقوقي غازي أن الاحتمالات القضائية لهذه المسألة معدومة ضمن المعطيات الحالية، إلا إذا كانت هناك إقامة، ولو مؤقتة، لـ”أبو عمشة” داخل الأراضي التركية، لكن حتى هذا الخيار يتوقف على تقديم الشكوى من قبل ضحايا سوريين، أي وجود جهة ادعاء لتقديم تلك الجرائم إلى القضاء التركي.
وفي هذه الفترة، يعمل الحقوقي غازي مع عدة منظمات حقوقية تركية على إعداد مشروع قائم لمحاسبة مرتكبي الجرائم في جميع المناطق السورية، بغض النظر عن النفوذ العسكري المسيطر على تلك المناطق.
لكن الأمور التي تعرقل محاسبة منتهكي حقوق الإنسان من السوريين، داخل تركيا، هي عدم امتلاك ولاية قضائية على تلك الجرائم، لذلك، “دائمًا ما يكون الجهد متوجهًا داخل ميدان محكمة العدل الدولية”.
ويملك هذا المشروع توثيق 1900 حالة من حالات انتهاك حقوق الإنسان لأفراد سوريين، مسجلة ضمن محكمة العدل الدولية في لاهاي.
وتعتبر محكمة العدل الدولية الجسم القضائي الأساسي للأمم المتحدة، ويتمثل اختصاصها في دورين أساسيين: معالجة الخلافات القانونية بين الدول من خلال أحكام قضائية، وإصدار آراء استشارية بخصوص أسئلة حول القانون الدولي.