نبيل محمد
عادة ما تتم محاكمة أي فيلم سوري يناقش قضية من قضايا الراهن بتهمة الرؤية الضيقة، والتركيز على جانب معيّن من القضية، مقابل إهمال بقيّة الجوانب. وهذا الانتقاد بالذات كان واحدًا من أهم الانتقادات التي تناولت الفيلم السوري القصير “خيمة 56″، الذي دار الجدل حوله مؤخرًا بعد إتاحة عرضه في مواقع التواصل الاجتماعي، على الرغم من أن إنتاج الفيلم يعود إلى ما قبل أربع سنوات، وحصل في سنة إنتاجه على ذهبية أفضل فيلم قصير في مهرجان “الإسكندرية السينمائي”.
أول ما يمكن قوله في هذا الفيلم، أنه بالفعل لا يستحق عاصفة النقد والجدل التي دارت. ولعلّ الجدل الذي يُثار حول فيلم سينمائي سوري في السنوات الأخيرة، أصبح المسبب الأساسي لانتشاره، وتحقيقه الجماهيرية التي يقصدها أي منتج فني. قُبلة في ذلك الفيلم تجعله حديث “الميديا”، وشتيمة في فيلم آخر كفيلة بشن حملات ضده.
فيلم “خيمة 56” يحكي قصة مجموعة من اللاجئين السوريين في مخيم فقير، من المفترض أنه في الأردن، حيث لهجة سكان المخيم هي الحورانية، أو من المفترض أنها اللهجة الحورانية، فأداء أغلبية الممثلين المتواضع، وضيق معرفتهم باللهجة، وقلّة بذلهم للجهد في تبني الشخصيات التي يؤدونها، ضيّع هويّة اللهجة بين خليجية وحورانية. تبحث نساء المخيم عن خيمة يمكنهنّ فيها ممارسة العلاقة الحميمية مع أزواجهن، فالخيم تضيق بهنّ، وعيون الأطفال تلاحق الجميع كيفما تحرّكوا، لتكون الخيمة “56” خلوة يرجوها الأزواج فيتبادلونها فيما بينهم.
لماذا لم يتحدّث الفيلم عن الفقر في المخيمات؟ عن انعدام وجود مدارس للأطفال؟ عن قلّة المياه والغذاء؟ عن ظلم “الشاويش”؟ تلك الأسئلة الأولى التي طرحها المنتقدون. ولعلها انتقادات جاهزة يمكن توجيهها لأي فيلم يركّز على قضية بعينها عازلًا بقية القضايا الملحّة إنسانيًا. إلا أن هذا الشكل من النقد طفولي غير واعٍ بحريّة السينما في انتقاء موضوع واحد وإهمال غيره، بهدف الخروج بمادة سينمائية ذات قيمة فنيّة، مؤطرة غير مشتتة. هذا لا يعني أن “خيمة 56” قيّم فنيًا، بل لعل فيه من الرداءة ما يكفي للقول، “من الجيّد أنه لم يتناول قضايا عامّة في المخيم”.
أما عن المحتوى الجنسي في الفيلم، ذلك الذي أثار حميّة القبيلة لتعلن براءتها من ابنها (علاء الزعبي، أحد أبطال الفيلم)، فهو أيضًا ما ليس من المناسب التعرّض له، إلا إذا كانت “محكمة القبيلة” مخوّلة بالنقد السينمائي، وإصدار الأحكام على الممثلين، ولم تكن المشكلة بالنسبة للمحتوى الجنسي أبدًا في طرحه، بل على العكس. بالفعل، مشكلة خلوة الزوجين ملحّة في أي مكان، لكن ما رافقها من إظهار سوقية الزوج وتبعيّة المرأة له، هو ما يمكن توجيه النقد ضده. الزوج الذي إن طلب الجنس من زوجته أمرها بأن “تستدير”، وإن أبدى انزعاجه منها شتمها بشتائم سوقية، تلك الشتائم التي لا شك أن القائمين على الفيلم وزّعوا على أنفسهم شهادات الجرأة واختراق الخطوط الحمراء، عندما شاهدوا عرض الفيلم جماهيريًا للمرّة الأولى، فثيمة الجرأة اليوم باتت كفيلة لترفع من قيمة مخرج وتحط من قيمة آخر، إذا ما رصدنا المنتج السينمائي السوري في السنوات الأخيرة.
من نافل القول إن الجنس حاجة إنسانية مثلها مثل الطعام والشراب والتعليم. الحوارنة يمارسونه كما غيرهم من البشر، والسينما ليست إلا فعلًا فنيًا يعكس قضية إنسانية معيّنة. في “خمية 56” ليست المشكلة انتقاء مهجّري درعا، أو انتقاء قضية الجنس، المشكلة الحقيقية هي سؤال “هل بالفعل قدّم الفيلم القضية بطريقة فنيّة متكاملة قادرة على اعتباره فيلمًا سينمائيًا مؤثرًا؟”. في الحقيقة لا يمكن لمتابع شغوف بالسينما، أو ناقد، أو حتى مشاهد عابر، إلا أن يصف ما شاهد بالفيلم البدائي، الذي لم يستطع أن يقدّم مشهدًا واحدًا قادرًا على لفت النظر، أو حتى استحقاق النقد. أما بخصوص الجوائز، فذلك أمر آخر، وكم من منتَج فني سوري حصد ما شاء لأنه يحمل اسم البلد المدمّر المنسي، أو يحمل اسم قضية اللاجئين، أو حقوق المرأة وسط النزاع، دون أن يحمل أي قيمة فنيّة حقيقيّة.