إبراهيم العلوش
في زمن القصف الصاروخي والمدفعي، يتحدث آزاد أحمد علي عن الطين وعن الأبنية القروية، ويجمع في كتابه “القرى الطينية في شمالي سوريا” قاموسًا مدهشًا عن القرى السورية التي تحدّت الخراب عبر التاريخ.
منذ نحو 150 ألف سنة، بدأ الإنسان يستوطن الجزيرة والشمال السوري، وبنى مسكنه من قطع الأحجار والطين بعد أن خرج من الكهوف إلى فسحات أمامها ليأمن البراري المفتوحة على المجهول، ويخطو بعدها ويبني أكواخًا صغيرة تقيه المطر وتؤمّن له ملاذًا مؤقتًا ريثما تمضي العاصفة، فمنذ الألف الثامن قبل الميلاد، نشأت مستوطنات “مريبط” و”أبو هريرة” و”تل الشيخ حسن”، ونشأت حضارة تل حلف التي امتدت حتى الساحل السوري، وفي الألف الرابع قبل الميلاد، نشأت أولى المدن الكبيرة على شاطئ الفرات واسمها حبوبة كبيرة. وكان دور الغزاة من الرحّل مهمًّا في إجبار الفلاحين على التجمع مع بعضهم ليشكّلوا أولى المدن التي بدت وكأنها مخططة بشكل منظم، ما ينسف الكثير من نظريات نشأة المدن الأولى في المنطقة، كما يقول الكاتب.
ازدهرت القرى وتنوع إنتاجها وتعددت أشكال المساكن فيها، وتغير المسكن من كونه ملجأ إلى فضاء داخلي للعيش وللحماية ولتربية الحيوانات، وتنظيم الحياة اليومية، في مواجهة حياة البداوة القلقة التي تفتقد إلى الاستقرار وتتسم بالكثير من العنف.
ولكن وصول اليونان في 333 قبل الميلاد غيّر تاريخ السكن في المنطقة، وأعطى أولوية لبناء المدن، ونشأت مدينة دورا أوربوس (الصالحية) على الفرات مع مثيلاتها أفاميا وتدمر حيث نسفت المدينة اليونانية جزءًا كبيرًا من تاريخ القرى في وادي الفرات وشمالي سوريا، وأعطت أولوية للمدينة كمنتج بشري خدمي وقيادي يتحكم بالقرى التي باتت تعمل لحسابه.
وعندما جاء الفتح الإسلامي، تابع مسيرة تفضيل المدينة على القرية، ومنع الكثير من الأئمة صلاة الجمعة لأقل من 40 مصليًا، في انحياز واضح للمدينة، وحتى الفارابي أعطى أهمية للمدينة على القرية. وحددت الكثير من الأنظمة الحديثة عدد المدينة بخمسة آلاف كحد أدنى، وبعضها تسامح مع ذلك العدد ليصل إلى ألفي ساكن للمدينة أو البلدة الصغيرة التي تترك لقب قرية.
يرصد الكاتب مسيرة القرية في كتب التراث الإسلامي، وفي مذكرات الرحالة، ويقلّب صفحات تاريخ المنطقة، ولكن القرى سرعان ما تختفي على يد الغزاة والحكام المستبدين، فغزوات التتار والمغول أفرغت القرى من سكانها، وتحول الكثير منهم إلى البداوة، وأكد عدد من الرحالة بؤس حالة وادي الفرات، وشمالي سوريا، وفراغ المنطقة من السكان حتى بدايات القرن الـ19 عندما اهتمت الدولة العثمانية بها، وأغرت البدو بالاستقرار، وأعطتهم الأراضي والإعفاءات الضريبية علّهم يدخلون دورة التحضر بدلًا من البقاء خارج دورة الإنتاج الزراعي الذي تبدأ به القرى وتستثمره المدن والعواصم الكبيرة.
ينحاز الكاتب إلى القرى وتاريخها غير المكتوب، ويرصد آثار القباب والمساكن الطينية من النيرب وجبرين والسفيرة وتل عرن إلى قرى وادي الفرات والشمال السوري، الذي يعزو المؤلف ازدهاره إلى قربه من سفح الجبال الشمالية التي تتكرم عليه بالسيول والمناخ المعتدل، وبالحماية من غزوات البدو الرحّل، ويصل في رصده إلى عين ديوار، والدرباسية، مرورًا برأس العين، وتل أبيض، وعين العرب (كوباني).
يعتبر الكاتب أن المسكن الطيني الدائري ميزة وابتكار سوري تطور عبر العمارة البسيطة للفلاحين والحرفيين الذين طوروا بناء القباب وخاصة أبناء حلب وريفها، الذين نقلوا مهاراتهم إلى شرق الجزيرة السورية، وبنوا القرى التي آوت الآشوريين في ثلاثينيات القرن الـ20، ومنها تل تمر وتل نصري وغيرهما، ممن استفادوا من بناء القباب ودعمت السلطات الفرنسية استقرارهم في سوريا بعد اضطهادهم في غرب إيران وشمال العراق.
يمتلئ الكتاب بمخططات لبيوت بناها أصحابها وأبدعوا فيها وتوسعوا في التقسيم والتنظيم وابتكروا القباب ذات الأقطار الكبيرة، عندما خلطوا مواد البناء بالكلس خاصة في شرق حلب، وهو تمكين لديمومة المسكن الطيني الذي لا تزال بعض آثاره قائمة إلى اليوم، وقد عاش الكثير من أهالينا في تلك البيوت الطينية الرخيصة التي كان يتم بناؤها بمساعدة الأصدقاء والأقرباء، وقد حضرت بناء إحدى الغرف الطينية في السبعينيات من القرن الماضي، حيث تم بناء الغرفة في أسبوع، ليتزوج أحد أبناء جيراننا في تلك الغرفة المتنحية قليلًا عن غرف أهله الذين كانوا سعداء بولادة عائلة جديدة في ساحة دارهم الواسعة.
هذا البحث والسجل العلمي المدوّن بمحبة، يحتّم علينا الاهتمام بتاريخنا غير المكتوب الذي هجره الجميع إلى الأسمنت وحديد التسليح الذي يكلف عشرات الأضعاف، وخاصة في ظروف الحرب هذه، وانهيار الاقتصاد، وحاجة الناس إلى إعادة النهوض، بعد الدمار الذي تسبب به جيش الأسد والمحتلون الذين استجلبهم إلى البلاد، والذين كانوا أشد قسوة من التتار والمغول.
الدكتور المهندس آزاد أحمد علي، عاند زمن التدمير، وهجر “البيتون” المسلح ونظرياته، وانطلق إلى القرى والمساكن الريفية يرصدها ويدوّن ابتكارات الفلاحين، وتفاصيل أبنيتهم، وطريقة بناء الغرف، وطرق إنشاء القباب من أجل أن يحيي ابتكارًا أصيلًا واقتصاديًا، يعيد إلى القرى كثافتها السكانية، ويعيد تأهيل الشباب وإعادتهم إلى الزراعة التي تعتبر الأصل في بناء الحياة واستمرارها، وفي بناء الهوية الثقافية التي رصد لها 400 صفحة في كتابه الشائق، ورغم أن دار النشر والموزع لم يعطيا الكتاب ما يستحقه من جهد، فإن هذا الكتاب يعتبر مرجعًا مهمًا ولا غنى عنه عند التفكير بإعادة الإعمار وبناء المساكن الحديثة، خاصة أن تركيا والدول الخليجية الداعمة، تتحدث عن بناء عشرات ألوف المساكن على الشريط الحدودي مع تركيا، ويمكن أن يعتبر هذا الكتاب مرجعًا ووسيلة لمنع قيام أخطاء معمارية فاحشة عند استحداث مساكن تفتقر إلى الهوية الخاصة، وتفتقر إلى الانسجام مع البيئة السائدة، وتبتعد عن خيارات أهلها التاريخية في السكن، وفي البناء الذي تعددت فنونه في تاريخ المنطقة واندمجت مع هوية المكان.
كتاب “القرى الطينية في شمالي سوريا”، تأليف الدكتور المهندس آزاد أحمد علي، إصدار دار “INTER ASSIST”- ألمانيا.