حذّر من استخدام الأسد للكيماوي وغيّبه تنظيم "الدولة الإسلامية"
الأب باولو دالوليو الذي واجه الخصوم في سوريا.. واقفًا
مرت تسع سنوات على المصير المجهول المحيط بالأب اليسوعي الإيطالي باولو دالوليو، الذي خُطف في 29 من تموز عام 2013 بمدينة الرقة السورية، في مناطق واقعة تحت سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” حينها.
وتعود العديد من الروايات في كل عام من ذكرى اختطافه وفقدانه لتتحدث عن وفاته أو عن بقائه حيًّا، دون أي تأكيدات تثبت صحتها.
ويحظى الكاهن دالوليو (مواليد 17 من تشرين الأول 1954) بشعبية واسعة بين المسلمين والمسيحيين، خصوصًا مع بداية الثورة السورية حين سخّر كلماته التي نقلت ما يريده الشعب السوري إلى العالم.
الرقة.. آخر المحطات
دخل الأب باولو، أواخر تموز 2013، إلى مدينة الرقة شمال شرقي سوريا عبر الحدود التركية، وشارك في مظاهرة مناهضة للنظام السوري، وألقى فيها كلمة عن السلام والتآخي وعن الرقة “المحررة”، التي ستكون انطلاقة لتحرير العاصمة.
كما كتب حينها، عبر صفحته في “فيس بوك”، “جئت اليوم إلى مدينة الرقة وأنا أشعر بالسعادة لسببين، أولهما أنني على أرض سوريا الوطن وفي مدينة محررة”.
السبب الثاني، هو “الاستقبال الرائع من قبل هذه المدينة الجميلة. عشتُ أمسية رمضانية من أحلى ما يكون، والناس في الشوارع بحريّة ووئام، إنها صورة للوطن الذي نريده لكل السوريين”.
وأكّد في منشوره التزامه بمبادئ الثورة بالقول، “طبعًا، لا يوجد شيء كامل لكن الانطلاق جيد، ادعوا لي بالتوفيق من أجل المهمة التي جئت من أجلها (…) إن الثورة ليست توقّعات بل التزام”.
وبعد المظاهرة، طلب اللقاء مع قياديين في تنظيم “الدولة”، الذي لم يكن بعد قد أعلن سيطرته على المدينة، بغرض التوسط للإفراج عن صحفيين أجانب، ليدخل مقر التنظيم دون أن يخرج منه، وتنقطع أخباره منذ ذلك اليوم.
ويُتهم التنظيم باختطاف الأب باولو وأربعة رجال دين مسيحيين آخرين، دون اعتراف رسمي منه، كما لم تصدر أي تسجيلات مصوّرة موثقة تثبت وجودهم على قيد الحياة حتى اليوم.
رجل حوار ضد النظام
الرجل الذي لم يتدخل بالسياسة على مدار إقامته في سوريا، كان واضحًا منذ بداية الثورة السورية باصطفافه إلى جانب الحراك السلمي، منتقدًا رئيس النظام، بشار الأسد، وداعيًا إلى الانصياع لرغبة الشعب بعيدًا عن أي عمل عسكري.
ودعا الأب باولو إلى انتقال غير عنيف للسلطة في سوريا، وإنشاء فريق من 50 ألف مراقب دولي، وكلا الفكرتين تسببت بتوتر مع النظام السوري.
وفي مقابلة له مع قناة “العربية” بعد إبعاده عن سوريا، قال، “لم ألتزم الصمت مطلقًا في سوريا لأنني لم أكن مناسبًا للصمت، تحدثت لأن البلد كان يغرق”.
وذكرت إذاعة “الفاتيكان“، في حزيران 2012، أن دالوليو دعا للحوار منذ بدء النزاع، ورفض أي تدخل عسكري أجنبي، وندد في حديثه للإذاعة بـ”التضليل الإعلامي” في سوريا.
في أيلول 2012، حذّر الأب اليسوعي المجتمع الدولي من خطر السكوت أمام معاناة الشعب السوري، وقال، “إذا سكتنا اليوم عن القصف الجوي، غدًا سيجرب النظام السوري السلاح الكيماوي” ضد شعبه، في حوار لباولو مع قناة “فرانس 24“.
وأضاف حينها أن “الغرب يتفرج على المجزرة”، وأن النظام السوري ينكر الثورة، متهمًا إياه بـ”عدم فهم التاريخ والطلب الصحيح للشعب السوري”، ورأى الكاهن باولو المشكلة حينها أن “الشعب العربي قال يكفي مع الأنظمة الدكتاتورية”، وأن الأخيرة “متشبثة في الحكم”.
إقصاء من سوريا
قرر النظام السوري وجوب مغادرة باولو البلاد، وعلل قراره، بحسب الكاهن، بأنه خرج عن نطاق مهمته الكنسية الرعوية، ورأى الراهب أن الإجراء جاء عقب إعلانه نداء الميلاد لعام 2011، الذي أكد فيه وجوب الاعتراف بالتعددية وحرية الرأي والتعبير.
وذكرت قناة “فرانس 24“، خلال حوار حصري مع الأب باولو دالوليو، أن النظام السوري أبعده لأنه لم يخفِ دعمه للشعب السوري في نضاله ضد نظام بشار الأسد، وأنه “متآمر مع القاعدة”.
وقوبل قرار النظام بالرفض والاستنكار من قبل العديد من الناشطين، بالإضافة إلى أنصار الثورة السورية الذين تفاعلوا عبر صفحات ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن هذه المطالب لم تؤثر على قرار وجوب مغادرة الأب باولو سوريا.
القرار الذي تسلّمه الأب باولو في حزيران 2011، كان مفاجئًا للكاهن الذي قضى 30 عامًا من حياته الرهبانية متنسكًا في دير “مار موسى الحبشي” للسريان الكاثوليك في جبال القلمون قرب مدينة النبك شمالي العاصمة دمشق، في تعزيز الحوار الإسلامي المسيحي بالشرق، وترميم الدير الأثري.
وجاء في نداء الميلاد أن الخلاص يكمن في التعاون مع كل إنسان حر، وفي الترحيب الصادق بوسائل الإعلام العربية والأجنبية والاستعانة بمؤسسات إنسانية مستقلة.
وأعرب الأب باولو عن أمله بعدم تطبيق قرار الإبعاد الذي اتخذته وزارة الخارجية السورية حينها، وهو يعتمد على دعم مطران السريان الكاثوليك في مدينة حمص، المونسنيور جورج كساب، إذ يخضع الأب اليسوعي باولو للسلطة الإدارية للمطران كساب، وفق ما نقلته وكالة “فرانس برس” حينها.
من باولو إلى كوفي عنان
في أيار 2012، وجّه الكاهن باولو رسالة مفتوحة إلى الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي عنان، قائلًا إن سوريا يمكنها ويجب عليها في المدى البعيد أن تشكّل عنصر “اتّزان بالنسبة للإشكاليات الإقليمية، بدل أن تصبح سرطانًا مفككًا”.
وذكر الأب أن أغلبية السوريين، بحسب إدراكه، يفكّرون بمنطق تعدّدية الأقطاب المتوازنة أكثر منه بمنطق حرب باردة جديدة، وأن الشعب السوري يقف ضد الإمبريالية ويرغب بالتحرر، وأخذ حقّه في تقرير المصير.
وطالب بإرسال ثلاثة آلاف مراقب دولي لضمان احترام وقف إطلاق النار وحماية المدنيين من القمع، لأجل السماح بإقلاع جديد للحياة الاجتماعية والاقتصادية.
واعتبر إلغاء العقوبات الاقتصادية العامة المفروضة على البلاد ككل، من الأمور الملحة، فهي عقاب لأضعف الشرائح الاجتماعية، بالإضافة إلى الحاجة لقدوم 30 ألف “مرافق” لا عنفي من المجتمع المدني العالمي لكي يساعدوا على الأرض في انطلاق “الحياة الديمقراطية”.
وأكد دالوليو أن إعطاء الثقة لحكم السكان المحليين الذاتي، والسماح لهم بتحديد مصيرهم، هما شرطان لإعادة سيادة القانون ومكافحة أي شكل من أشكال “الإرهاب” دون الوقوع من جديد في “أزمة القمع الكلي والطائفي”.
رسالة إلى القلمون
تُعتبر المنطقة الواسعة من سلسلة جبال القلمون السورية حيث يوجد دير “مار موسى الحبشي” جزءًا من هوية الأب الإيطالي باولو، الذي أعاد إعمار الدير، واستثمره كمركز لحوار الأديان.
واهتم الأب باولو بترميم هذا الدير وترميم لوحاته الجدارية البيزنطية، وعلى مر السنين، تحوّل دير “مار موسى” إلى مكان للاجتماع، وتردد إليه الكثير من الباحثين عن السكينة والمؤمنين من جميع المذاهب والأديان.
وكتب الأب مقالًا نُشر في 18 من حزيران 2012، كان بمنزلة رسالة ودّع بها جبال القلمون وأهلها، ذاكرًا فيها أن القلمون سحره منذ المرة الأولى التي مر به سائحًا عام 1973، واصفًا 30 عامًا من عمر “العشرة والتعاون وحسن الجوار والصعوبات”.
وأكد الأب اليسوعي قبيل مغادرته سوريا، “جثتي واقفة على قدميها هي التي تغادر سوريا”، في مقابلة مع إذاعة “الفاتيكان”، معربًا عن “مرارته الشديدة” بسبب مغادرته.
وحملت رسالته إلى القلمون كلمات للمسلمين والمسيحيين، “إلى اللقاء يا أقربائي، المسلمين منهم والمسيحيين، فإنكم في قلبي أمة واحدة”.
وقبل مغادرته سوريا، ذكر أنه يفكر في “البلد المقسم (قاصدًا سوريا) المتألم، الجريح حتى الموت، أفكر بالشبان الكثر المسجونين، بالأشخاص المعذبين الكثيرين، بالشبان المسلحين في مختلف الخنادق، الذين يستحقون العيش في بلد يعيش بسلام، متعدد وديمقراطي”.
دير “مار موسى الحبشي” يقع على سلسلة جبال القلمون السورية، ويبعد مسافة 80 كيلومترًا شمالي دمشق، وحوالي 15 كيلومترًا عن مدينة النبك، بارتفاع ألف و320 مترًا عن سطح البحر.
هو دير سرياني قديم في سوريا يتبع لجماعة دير مار موسى الحبشي الرهبانية، بحسب طقس الكنيسة السريانية الكاثوليكية. وتشير الكتابات على جدرانه إلى أن بناء الكنيسة الحالية يعود إلى سنة 1058 ميلادية. |
خطاب يلامس الأديان
ويعُرف عن الكاهن دالوليو دعوته المسيحيين إلى التحرر من الأفكار المسبقة والمخاوف تجاه مشاركة المسلمين في الحراك السياسي، مؤكدًا عدم تصور نظام سياسي يقرر عن أكثرية المواطنين.
كلام الكاهن وخطابه في تعزيز الحوار بين الإسلام والمسيحية ازداد بشكل تصاعدي عبر السنوات، عززه الكتاب الذي ألفه بعنوان “عاشق الإسلام مؤمن بعيسى” فيما يخص العلاقة بين المسيحية والإسلام، والإسلام السياسي كفعل وممارسة.
ويتضمن الكتاب رأي الكاهن حول تقديس السلطة واستخدام العنف على اعتباره فعل عبادة، وشرعية العنف التي يبررها برنامج سياسي ديني هي مثار نقاش مفتوح داخل المجتمع الإسلامي.
ويعتقد في كتابه أن “الإرهاب الديني مأساة بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي قبل أن يكون خطرًا على الغرب”، مؤكدًا الحاجة إلى وجود حركة تتجسد بالحوار بين الأديان كتجربة جديدة تجمع المسلمين والمسيحيين باسم “محبة الله”.
وانطلق باولو في كتابه من خلال تجربته الدينية، فهو يرى في الأديان، وبخاصة الدين الإسلامي، “بنوكًا للقيم والسبل التربوية التعليمية الضرورية لتثقيف البشرية، وللوفاء، وللمحبة، وللجمال، ولمعنى التضحية”.
ومن اللحظات الخالدة في ذاكرة أهالي مدينة حمص والسوريين بشكل عام، ظهور دالوليو عبر تسجيل مصوّر في أثناء زيارته إلى مدينة القصير بريف حمص في حزيران 2012، حين توجّه لـ”الثوار” داخل إحدى الغرف قائلًا، “البقية من النصارى أمانة بأعناقكم بوصية من رسول الله عليه السلام”.
مكافأة مالية
رصدت الولايات المتحدة الأمريكية مكافأة مالية قدرها خمسة ملايين دولار أمريكي للحصول على معلومات عن خمسة رجال دين مسيحيين اختطفهم تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا قبل تسع سنوات، من بينهم الأب باولو دالوليو (باولو دال أوغيلو).
وفي 15 من تشرين الثاني 2019، قالت وزارة الخارجية الأمريكية عبر برنامج “المكافآت من أجل العدالة” (Rewards for Justice) التابع لها، “لقد مرت ست سنوات على اختطاف كل من الأب باولو دالوليو والمطران بولس يازجي والمطران يوحنا إبراهيم والأب ميشال كيال والأب ماهر محفوظ”، وذلك في مناطق شمال شرقي سوريا.
وأضافت الوزارة، “تمنح حكومة الولايات المتحدة الأمريكية مكافأة مالية يصل مقدارها إلى خمسة ملايين دولار مقابل معلومات عن مكان وجود رجال الدين الخمسة أو عن شبكات الاختطاف الداعشية”، بحسب وصفها.
النظام يستغل الدين
يعتبر التوظيف السياسي للدين إحدى الوسائل الرئيسة التي استخدمتها السلطة في سوريا لترسيخ حكمها وتأييده، ضمن الحيّز الكبير الذي تأخذه القضايا الدينية من وعي أفراد المجتمع، وتجاربهم، وسلوكياتهم، وقراراتهم، نتجت عن ذلك التوظيف إشكاليات عدة يعاني منها المجتمع السوري.
ويروّج النظام السوري على أنه حامي الأقليات في سوريا فى ظل صعود التنظيمات “الجهادية” الإسلامية، في حين لا تزال المنظمات الحقوقية توثّق انتهاكاته بحق العديد من المنشآت الدينية ورجال الدين بمختلف مذاهبهم من الذين عارضوه.
وكان عدد المسيحيين في سوريا يبلغ 2.2 مليون شخص مع اندلاع الثورة عام 2011، لكنه انخفض ليصل إلى 677 ألفًا في سنة 2021، وفقًا لمؤشر اضطهاد المسيحيين حول العالم الذي نشرته منظمة “الأبواب المفتوحة” غير الحكومية.
ويوجد قطاع من المسيحيين، من ضمنهم جل قيادات الكنائس السورية، يدعمون النظام السوري بسبب تشابك مصالحهم السياسية والاقتصادية مع رموزه، كما يدعمه آخرون باعتباره الضمانة لأمن المسيحيين في سوريا، بحسب دراسة بعنوان “المسيحيون والثورة في سوريا” صادرة عن مركز “مالكوم كير- كارينغي” للشرق الأوسط في نيسان 2016.
لكن فى المقابل، شارك العديد من الشباب المسيحيين فى المظاهرات السلمية خلال الأشهر الأولى للثورة، كما انخرطوا فى مختلف المبادرات الرامية إلى تعريف المجتمع بمطالب الثورة وحشد الدعم لها.
مديرة قسم المعتقلين والمختفين قسرًا في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، نور الخطيب، قالت لعنب بلدي، إن “الشبكة” وثقت اعتقال ما لا يقل عن 486 شخصًا من الديانة المسيحية، بينهم 28 سيدة.
وأضافت أن هذه الإحصائية تمثّل الحد الأدنى الذي تمكّنت من معرفته “الشبكة”، لأن معرفة عقيدة الضحية أو المعتقل ليست بالأمر السهل أبدًا، في مراكز الاحتجاز التابعة لقوات النظام السوري.
وسجّلت “الشبكة”، بحسب الخطيب، قرابة 239 شخصًا أُفرج عنهم، بينهم 19 سيدة، وما زال مصير 247 مجهولًا.
وتم توثيق مقتل 14 شخصًا من الديانة المسيحية، بسبب التعذيب داخل مراكز الاحتجاز التابعة لقوات النظام السوري.
–
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :