حسن إبراهيم | حسام المحمود | لجين مراد | ضياء عاصي
بلباس مدني وعسكري ووجوه غاضبة، طالب العشرات من أهالي مدينة تدمر المهجّرين وأهالي مدينة الباب بريف حلب الشرقي، بمحاسبة متهم بالتحرش والاغتصاب بحق طفلة قاصر بمدينة الباب، في 30 من أيار الماضي.
توجّه المتظاهرون إلى مركز “الشرطة المدنية” في الباب على خلفية الاعتداء واغتصاب الطفلة (12 عامًا) التي تنحدر من مدينة تدمر، واحتجوا أمام المبنى، وطالبوا بمحاسبة المتهم بالاعتداء وإنزال العقوبة بحقه.
تبع المظاهرة بساعات انتشار تسجيلات صوتية لأشخاص قيل إنهم وجهاء من مدينة تدمر، طالبوا المتظاهرين بالهدوء وانتظار حكم أجهزة القضاء العاملة في المدينة، التي ألقت القبض على المتهم بالاعتداء.
لم يمضِ أسبوعان على الحادثة، حتى شهدت مدينة الباب حالة غضب شعبية وتوترات أمنية جديدة، على خلفية التحرش بطفلة قاصر (أصغر من خمس سنوات)، في 12 من حزيران الماضي، قوبلت بنفي من أحد أفراد عائلة المتهم، وبيانات غاضبة ومطالبة بالمحاسبة، ووعود من أجهزة القضاء العاملة في المنطقة.
حالات التحرش بالأطفال لا تقتصر على مناطق في شمالي سوريا الخاضعة لسيطرة المعارضة، إنما تكاد تنتشر في مختلف الأراضي السورية، لكن تغيب عنها التغطية الإعلامية، أو تُدفن في نفوس العائلات والأطفال.
في هذا الملف، تناقش عنب بلدي قضية التحرش بالأطفال في سوريا، وآلية تعاطي وسائل الإعلام مع هذه القضايا وسبل معالجتها، والآثار الاجتماعية والقانونية المترتبة على ذلك، إلى جانب الإجراءات التي يمكن أن تتخذها العائلة لحماية طفلها من الوقوع ضحية للتحرش، وذلك بمناقشة اختصاصيين نفسيين وتربويين، وخبراء إعلاميين، وحقوقيين.
المهم “بكارة البنات”
وسائل الإعلام تتجاهل التحرش.. الأهل يتكتمون
دفع قضايا التحرش بالأطفال في سوريا إلى العلن وجود ناشطين وطفرة في الشبكات الإخبارية المحلية عبر مواقع التواصل، قابلها تراجع لحضورها ومعالجتها عبر وسائل الإعلام السوري بمختلف أقطابه، بما فيها الإعلام الرسمي والإعلام المقرب من النظام، لمصلحة القضايا المقترنة بالجريمة، والتي يتعدى فيها فعل التحرش إلى الاعتداء، وما يمكن أن يتبعه من جرائم قتل تختلف طرق تنفيذها.
في كانون الثاني الماضي، ألقت قوات شرطة مخفر الغزلانية في ريف دمشق القبض على طفل (دون 18 عامًا)، بعد قتله شقيقته البالغة من العمر نحو 11 عامًا، إثر رفضها الاستجابة لمحاولته التحرش بها، ليقتلها باستخدام أداة حادة.
القضية التي لاقت تفاعلًا واسعًا، امتلكت العديد من المقومات التي حوّلتها إلى قضية رأي عام، باعتبار أن الجاني والضحية شقيقان أولًا، ودون 18 عامًا ثانيًا، إضافة إلى وقوع جريمة قتل أسهمت في الكشف عن حالة التحرش التي كان من المحتمل التغاضي عنها لاعتبارات اجتماعية، كما جرت العادة في سوريا.
في تموز 2020، تصدّرت وسائل الإعلام قضية أخرى تجاوزت التحرش، حين تعرّض طفل سوري بعمر 13 عامًا للاغتصاب من قبل ثلاثة شبان في بلدة سحمر اللبنانية، ما تطلّب تعليقًا رسميًا من قبل السفير السوري في لبنان، علي عبد الكريم، على القضية، معتبرًا أنها “مثارة لتحقيق مآرب”.
وذكرت حينها هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) بنسختها العربية، أن القضية تمتد إلى نحو سنتين أو ثلاث سنوات سابقة، لكن ظهور تسجيل فيديو نُشر حديثًا يوثق “المعاناة النفسية والجسدية” التي تعرّض لها الطفل، أعاد القضية إلى الواجهة.
وتغيب الإحصائيات الرسمية الدقيقة المنشورة لحالات التحرش بالأطفال في سوريا، إلى جانب فقر في التغطية والمعالجة الإعلامية، رغم الآثار النفسية التي يتركها التحرش على الضحية.
عنب بلدي بحثت عن مصطلحي التحرش والتحرش بالأطفال، عبر الموقع الرسمي للوكالة السورية للأنباء (سانا)، ليتبين أن آخر ما نُشر، في 22 من تشرين الثاني عام 2019، للحديث عن التحرش، كان عبر مادة خبرية غير محلية، وتحت عنوان “لندن تحكم لصالح موظفة سابقة بسفارة قطر تحرش بها دبلوماسيون قطريون“.
كما رصدت عنب بلدي آخر المواد المنشورة حول التحرش بالأطفال في صحيفة “الوطن” المحلية، المقربة من النظام، عبر البحث في موقعها الرسمي، وأحدث النتائج على المستوى المحلي، خبر منشور في 28 من تشرين الأول 2019، تحت عنوان “شرطة الشريعة توقف ستة فتيان لتحرشهم بطالبات المدارس“.
وفي مناطق شمال غربي سوريا، الخارجة عن سيطرة النظام، برزت حادثة التحرش التي تعرضت لها طفلة في الخامسة من العمر، في مدينة الباب بريف حلب الشرقي، في حزيران الماضي، وأثارت حالة غضب شعبية وتوترات أمنية، بالترافق مع العديد من البيانات الغاضبة على المستوى المحلي والعسكري والعشائري.
هذه الحالة لعبت غرف “تلجرام” دورًا كبيرًا في إثارتها وتحريك الرأي العام حولها، إذ تتحرك تلك الغرف دون ضوابط، وتنقل رسائل بما لا يخلو من التحريض حينًا، والتشهير أحيانًا كثيرة، عبر نشر اسم الضحية والجاني والعائلة، ومنطقة الإقامة.
المهم.. غشاء البكارة
بالعودة إلى آخر ما نُشر من أرقام رسمية حول الاعتداء الجنسي على الأطفال، وثّق مدير الهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا، زاهر حجو، في 24 من تشرين الأول 2018، نحو 363 حالة اعتداء جنسي على الأطفال في ست محافظات سورية، تصدّرتها حلب بـ165 حالة، ودمشق بـ110 حالات.
وقال حجو، إن نحو 90% من الحالات لا يتم الإبلاغ عنها بسبب خوف الأهالي على مسألة العار والشرف وغيرها، مشيرًا إلى أنه لوحظ في الفترات الأخيرة أنه كثر الاعتداء على الأطفال جنسيًا حتى على بعض الذكور في ظل الحرب.
“في مجتمعاتنا دائمًا ينظرون إلى المعتدى عليه، وخصوصًا إذا كانت أنثى في محل شبهة، ثم تنقلب النظرة من ضحية إلى شبهة بحقها، وينسى المجتمع الجاني”، بحسب ما قاله حجو لصحيفة “الوطن“، معتبرًا أن هذه النظرة تدفع الجاني إلى ارتكاب جرائم أخرى.
لم يحدد مدير الهيئة العامة للطب الشرعي طبيعة الاعتداءات الجنسية، لكنه أوضح أن همّ الكثيرين من الذين وقع على قريباتهم اعتداء هو “سلامة غشاء البكارة”، وعند التأكد من ذلك يتم طي القضية وكأن شيئًا لم يكن.
دور سلبي لوسائل الإعلام
مدير المركز الصحفي السوري، أكرم الأحمد، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن دور الإعلام السوري ككل (سواء إعلام النظام السوري أو “الإعلام البديل”) في تناول قضية التحرش كان سلبيًا، ولا يتعدى الخبر فقط، دون إنتاج مواد تندرج في إطار “صحافة الحلول” لمواضيع توعوية من هذا النوع، باستثناء مشاريع صغيرة حصلت على تمويل لهذا الصدد، لكن لا خطوات واضحة من المؤسسات الإعلامية لمعالجة قضايا حساسة.
وعزا الأحمد قصور التغطية إلى نشأة “الإعلام البديل” والوضع المالي للمؤسسات الحديثة واستدامتها، ما دفعها للاتجاه نحو الخبر أكثر من التأثير والتوعية وطرح الحلول.
ولمخاطبة الطفل المعني بالقضية وإيصال الرسالة بأسلوب أمثل، اقترح الأحمد تغيير الخطط الإعلامية للمؤسسة نفسها بما ينسجم مع هوية الطفل وذويه أيضًا، كون الموضوع حساسًا أصلًا بطبيعة الحال، إلى جانب ضرورة البحث عن المحتوى الذي يقبله الطفل، والتركيز على القضية ودراستها قبل معالجتها مع منح مساحة أكبر للطفل ضمن تغطيات الوسيلة الإعلامية.
الحديث غير مرغوب
منسقة الدعم النفسي في منظمة “حراس الطفولة”، جمانة الأحمد، قالت في حديث إلى عنب بلدي، إن الحديث عن المواضيع الجنسية من تحرش واغتصاب وغيرهما، غير مرغوب بسبب ثقافة المجتمع وعاداته.
وأضافت المنسقة جمانة الأحمد أن وسائل الإعلام متأثرة بالحالة الاجتماعية، ما يفسر عدم تطرقها لهذه الموضوعات على مساحة إعلامية واسعة، حتى لا تخرق معايير المجتمع.
كما أن انهيار القيم الأخلاقية والنسيج المجتمعي والعوامل الاقتصادية شكّلت بيئة خصبة لانتشار ظاهرة التحرش بالأطفال.
وترى أن تراجع تغطية هذه الظواهر وربما انعدامها أحيانًا، مرتبط بكون الحديث عن الظاهرة يعني عدم قدرة السلطة على حماية الأهالي في مناطق سيطرتها أو نفوذها، إلى جانب كون نسبة جيدة من حالات التحرش تحدث من قبل أشخاص مقربين من الطفل، ما قد يدفع الطفل للكتمان.
التناول العلني يكسر القيود
انتشار جلسات التوعية والحديث العلني عن هذه الظاهرة كسر الكثير من القيود المجتمعية التي كانت تجعل هذه الظاهرة مكتومة ويُمنع الحديث عنها بالخفاء أو العلن، باعتبارها ظاهرة معيبة وتوصم المجتمع والمعتدى عليه معًا بالعار، بحسب منسقة الدعم النفسي في منظمة “حراس الطفولة”، جمانة الأحمد.
وأسهمت زيادة التركيز على الظاهرة في الحديث عنها بشكل أكبر بما جعلها أكثر تقبلًا من المجتمع، ولكن دون المستوى المطلوب بعد لمساعدة الأطفال في عدم التعرض للتحرش أو مساعدتهم ليفصحوا في حال التعرض لذلك.
ويسهم الحديث العلني عن الظاهرة بتوجه الأهل للاستفادة من أدلة الدعم النفسي الاجتماعي، التي تحتوي جلسة خاصة لتوعية الطفل بأن جسده خاص به ولا يجب أن يسمح لأحد بإيذائه، كما تعرف الجلسات الأطفال باللمسات الآمنة واللمسات غير الآمنة، ولمن يمكنه اللجوء حال تعرضه للمسات غير آمنة.
وهناك الهمس والأصوات ذات الإيحاءات الجنسية، إلى جانب اللمس والتحسس والحك والغز وأي نوع من الإشارات الجنسية الموجهة إلى الطفل.
ويندرج أيضًا في خانة التحرش بالطفل، التعري وإظهار الأعضاء التناسلية أو الاستمناء بوجود الطفل، والتهديد بأي نوع من أنوع التحرش الجنسي أو الاعتداء الجنسي بما فيه التهديد بالاغتصاب، إلى جانب إبداء ملاحظات جنسية عن جسد الطفل أو طريقة مشيه، أو إلقاء النكات والحكايات الجنسية، أو التلفظ بكلمات جنسية، أو عرض صور جنسية.
مفهوم التحرش
تعرّف منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) التحرش الجنسي على أنه “أي مبادرة غير مرغوب فيها أو طلب خدمة جنسية، أو فعل لفظي أو جسدي أو إيماءة ذات طابع جنسي، أو أي سلوك آخر ذي طابع جنسي يُتوقع أو يُتصور”.
كما تعرّف الأمم المتحدة الاعتداء الجنسي على أنه أي نشاط جنسي فعلي أو تهديد عن طريق القوة أو تحت ظروف غير متكافئة أو قسرية.
وفيما يتعلق بـ”التحرش الجنسي بالأطفال“، فهو إشراك الأطفال بأفعال وسلوكيات جنسية لإشباع الرغبات الجنسية لبالغ أو مراهق، أو يكون بين قاصرين ولكن أحدهما يتفوق بالقوة على الآخر ويكبره بأكثر من أربع سنوات مثلًا.
ويمكن للتحرش الجنسي أن يأخذ أشكالًا مختلفة، وقد يتضمن شكلًا واحدًا أو أكثر في وقت واحد، كالنظر المتفحّص للمتحرش، أو النظر بشكل غير لائق إلى جسم الطفل، أو أجزاء من جسمه أو عينيه.
كما تندرج التعبيرات الوجهية للمتحرش في إطار أشكال التحرش بما يترافق معها من تعبيرات تحمل اقتراحًا ذا نيات جنسية (مثل اللحس، الغمز، فتح الفم).
قضايا التحرش بالأطفال.. قانونيًا
كانت سوريا طرفًا في العديد من المعاهدات الرئيسة لحقوق الإنسان، وطرفًا في العديد من البروتوكولات الاختيارية، ما يلزم الدولة بمنع وحماية الطفل من الاعتداء الجنسي، وفقًا لمجلس حقوق الإنسان.
وتتوفر حماية خاصة ملزمة قانونيًا للحقوق المدنية والسياسية والثقافية والاجتماعية للأطفال واتفاقية حقوق الطفل، التي انضمت سوريا إلى أطرافها، والتي تُعرّف الطفل بصورة عامة بأنه أي شخص دون سن الـ18.
وتنص اتفاقية حقوق الطفل على أن الدول الأطراف تتخذ جميع التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من جميع أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية، بما في ذلك الإساءة الجنسية.
لا تستطيع المجموعات المسلحة، باعتبارها أطرافًا من غير الدول، أن تنضم رسميًا إلى أطراف المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، ولكن أصبح من المقبول وبصورة متزايدة، بحسب ما ذكره المجلس، أن هذه المجموعات مُلزمة باحترام حقوق الإنسان الأساسية، بقدر ما تشكّل جزءًا من القانون الدولي العرفي، حيثما تمارس هذه الأطراف سيطرة فعلية على أجزاء من إقليم الدولة.
على مدار 12 عامًا، تعرض أطفال سوريا لأسوأ أشكال العدوان، منها القتل والعنف الجنسي، وفقًا لتقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، الذي صدر بالتزامن مع اليوم الدولي لضحايا العدوان من الأطفال الأبرياء في 4 من حزيران 2022.
وفي إطار رصدها الانتهاكات بحق الأطفال السوريين، قدّرت “الشبكة” تعرض 539 طفلًا سوريًا لحوادث اعتداء جنسي، وهي حصيلة لأبرز انتهاكات حقوق الإنسان التي مارستها أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا ضد الأطفال منذ آذار 2011، بدءًا بالتحرش، إلى تزويج القاصرات لمقاتلين، وصولًا إلى تعرضهم للاغتصاب المباشر.
مواد خجولة في القانون السوري
تنص المادة “505” من قانون العقوبات السوري على أنه “من لمس أو داعب بصورة منافية للحياء قاصرًا لم يتم الـ15 من عمره، ذكرًا كان أو أنثى، دون رضاهما، عوقب بالحبس مدة لا تتجاوز السنة ونصف السنة”.
وبالنظر إلى التحرش اللفظي دون اللمس، جرّم المشرّع السوري الكلام الدال عليه، بنص المادة “506” التي تقول، “من عرض على قاصر لم يتم الـ15 من عمره عملًا منافيًا للحياء، أو وجه إلى أحدهم كلامًا مخلًا بالحشمة، عُوقب بالحبس التكديري ثلاثة أيام”.
وميّز قانون العقوبات السوري بين أنواع الاعتداء، بحسب درجتها، ومن أشدها الاغتصاب، ثم يأتي التحرش، والفعل المنافي للحشمة، والتعرض للآداب العامة.
وهذه الجرائم (ما عدا الاغتصاب) جنح، أي لا تزيد عقوبتها على السجن لمدة ثلاث سنوات.
وعن آلية سير القضاء، تتحرك النيابة العامة عند تقديم شكوى، ويقبض على الجناة في حالة التعرف عليهم، ثم تحيل النيابة الدعوى إلى قاضي التحقيق، أو بداية الجزاء، حسب ماهية الجرم وتوصيفه.
وإذا كان الجرم جنائي الوصف، تحال القضية إلى قاضي الإحالة بعد تأكيد الاتهام، ثم إلى محكمة الجنايات، وتكون حالات التحرش الجنسي والاغتصاب جنائية الوصف دائمًا وتحوّل إلى محكمة الجنايات.
“سمة مدمرة”
وفقًا لورقة بعنوان “فقدت كرامتي” نشرها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عام 2018، تضاعفت أشكال العنف الجنسي والجنساني ومنها التحرش بالأطفال في جميع محافظات البلاد، مع تضاعف أعداد الأطراف المتقاتلة منذ اندلاع الحراك الشعبي في آذار 2011، حتى أصبح “سمة مدمرة”.
تشمل التحديات التي ينطوي عليها توثيق الانتهاكات الجنسية والجنسانية، الوصم الاجتماعي الذي ينشأ عن هذه الحوادث، لذلك لا يبلغ عن جميع الحالات سواء في أثناء النزاعات أو في أوقات السلم.
ويظل كثير من الناجين، إناثًا وذكورًا، في حالة إنكار، وبالنسبة للفتيات فإن ذلك يعني إنهاء أي احتمالات للزواج، ولا يستطعن الوصول بأمان إلى العلاج وخدمات الصحة العقلية حتى في حالة توفرها.
ويعاني الضحايا الذكور أيضًا من مشكلات طويلة الأجل، على صعيد الصحة البدنية والعقلية، كالاكتئاب نتيجة عدم القدرة على الاعتراف للآخرين بما واجهوه، ويرجع ذلك إلى الخوف من تصور ضياع الرجولة الذي يمنعهم من أداء أدوارهم الجنسانية التقليدية.
وشدد المجلس على ضرورة إحقاق العدالة والجبر للناجين، وتوفير ما يكفي من الدعم النفسي وإعادة التأهيل، مشيرًا إلى أن الغياب شبه الكامل عن هذه الانتهاكات يؤدي إلى “استدامة دورة العنف” الذي يظهر في العار وتكريس المظالم داخل المجتمعات المتأثرة.
النجاة.. تبدأ بالعائلة
تعتبر العائلة البيئة الأولى الحاضنة للطفل، والتي تسهم ببناء شخصيته، وتسير معه خطوة بخطوة ليكتشف نفسه أولًا، والعالم من حوله ثانيًا.
ورغم أهمية الساعات التي يقضيها الطفل بالبيت، يعتبر وجوده في العالم خارج البيت ضروريًا أيضًا، ما يجعله عرضة للخطر إن لم تصنع التربية السليمة للطفل ما يحميه.
الاختصاصية التربوية بتول حذيفة قالت في حديث إلى عنب بلدي، إن دور العائلة بتوعية الطفل بالتحرش يبدأ من تعليمه كيفية حماية خصوصيته والحفاظ على احترام مساحته الخاصة إلى جانب تعليم الطفل أعضاء الجسم وخصوصية كل منها.
كما ترتبط التوعية بالتربية الجنسية، إذ يجب إعطاء الطفل معلومات تشبع فضوله تدريجيًا كلما تقدم بالعمر، بحسب ما قالته الاختصاصية، مشيرة إلى أن المعلومات الكافية التي يتلقاها الطفل من عائلته تمنع بحثه عن المعلومة خارج العائلة.
“يمكن أن تبدأ التوعية الجنسية للطفل في مرحلة ابتعاده عن أمه للذهاب إلى مدارس رياض الأطفال، مع مراعاة ضرورة تقديم المعلومة اعتمادًا على عمر الطفل ووعيه”، تابعت حذيفة.
كما شددت الاختصاصية التربوية على ضرورة تعليم الطفل كيفية التعامل مع مختلف المواقف التي يمكن أن يتعرض لها.
احتواء الطفل بعد التحرش.. خطوات تحدّ من العواقب
تتساوى أهمية حماية الطفل من تعرضه لتحرش، بأهمية حمايته من عواقب التحرش وآثاره النفسية والجسدية عليه وعائلته.
وتعتبر الخطوات التي تأتي بعد الحادثة عاملًا أساسيًا لحماية الطفل من أن تلاحقه “وصمة عار” مجتمعية، ووسيلة تقيه شرّ الشعور بالذنب على خطأ لم يقترفه.
“الإسعافات الأولية”
لا يختلف الأثر الجسدي لأي حادث يمكن أن يتعرض له الطفل عن الأثر الجنسي، ويتطلب كلاهما إسعافات أولية تقيّم حجم الأذى الذي تعرّض له الطفل وحلولًا سريعة وفورية.
قالت الاختصاصية بتول حذيفة، إن تقديم الإسعافات الأولية للطفل أوّل خطوة يجب القيام بها عند اكتشاف تعرّض الطفل لهذا النوع من الأذى.
وتتضمن الإسعافات الأولية، التأكد من سلامة الطفل جسديًا ونفسيًا، والاستماع إليه دون أي أساليب يمكن أن تُشعره أنه الجاني وليس الضحية أو تخلق شعورًا بالذنب بداخله.
الاختصاصية النفسية آلاء الدالي قالت في حديث إلى عنب بلدي، إن للأهل والمحيط دورًا كبيرًا في مساعدة الطفل ومساندته لتخطي الحدث الصادم، مشددة على ضرورة الابتعاد عن لوم الطفل أو تحميله مسؤولية الحادثة.
كما يجب السماح للطفل بوصف ما حدث وترتيب الأحداث، والإفصاح عن مشاعره وما رآه وسمعه وأحس به عند التعرض للحادثة وبعدها للتخفيف من الإجهاد العاطفي للطفل.
وأضافت الدالي أن من الضروري سؤال الطفل عن رد فعله والطريقة التي حمى بها نفسه، والإشادة بما فعله مهما كان تأثيره، للتخفيف من شعوره بالعجز.
دور الداعم النفسي
من أبرز العلامات والمؤشرات التي تدل على تعرض الطفل للتحرش نوبات الخوف والهلع، والحساسية والبكاء المستمر، بالإضافة إلى الانعزال والسلوكيات النكوصية، بحسب ما قالته الدالي، موضحة أن تأثير الصدمة مرتبط بتعامل الأهل والمحيط مع هذا الحدث.
النكوص: هو رجوع الطفل وميله إلى مرحلة مبكرة من النمو، أو لمرحلة تثبيت سابقة، أي أن يثبت الطفل عند مرحلة نمو محددة دون الانتقال لمرحلة تالية، والرجوع والتقهقر إلى مرحلة أولية أو بدائية تمكّن الطفل من تخطيها وتجاوزها وإتقانها سابقًا، فيسير النمو في حركة نكوصية. |
وتحتاج عائلة الطفل إلى طلب الدعم والمساندة المباشرة من قبل اختصاصي نفسي لمعرفة طريقة التعامل مع الطفل، والحصول على الإرشادات التي تساعد في فهم الحالة وكيفية التعامل معها لتفادي ظهور أي تأثيرات عليه في الحاضر والمستقبل، وفق الاختصاصية.
كما أن من الضروري تحويل الطفل بشكل شخصي إلى اختصاصي نفسي عند استمرار هذه الأعراض بشكل يومي، ما يمنع الطفل من الاستمرار بأداء مهامه اليومية في المنزل والأسرة وفي علاقاته مع الآخرين، ويؤثر على حياته بشكل مباشر.
لمَ يُخبئ الأطفال الحقيقة؟ وما الأثر؟
يختار العديد من الأطفال الصمت عوضًا عن البوح بما تعرضوا له لأسباب عديدة، ويمكن أن تكون آثار هذا السلوك كارثية وتفاقم مواقف التعرض للتحرش.
ويصمت الطفل لأسباب عديدة، أبرزها الخجل من عائلته وشعوره بالذنب أو الخوف من تهديدات الجاني.
كما يمكن أن يكون الخوف من العائلة وتكذيبها أحد أسباب الصمت، ما يجعل بناء ثقة متبادلة بين العائلة والطفل ضرورة قصوى للحد من عواقب هذه الحالات.
يعتبر الطفل جزءًا من مجتمع متكامل يؤثر ويتأثر به، ما يجعل حجم الأذى الذي يصيب الطفل عقب تعرضه للتحرش مرتبطًا بتعامل المجتمع مع الأمر، كما يرتبط الأثر على الطفل بالأثر المستقبلي على المجتمع بأكمله.
ويمكن أن يؤثر تعرّض الطفل للتحرش خاصة في السنوات الأولى من العمر على ميوله واتجاهاته في علاقاته بالجنس الآخر في المستقبل، إذ تلعب مرحلة الطفولة دورًا أساسيًا بتشكيل ميول الطفل واتجاهاته، بحسب ما قالته الاختصاصية النفسية آلاء الدالي.
ويختلف الأثر على الطفل اعتمادًا على وعي الأسرة وتفهمها وتعامل المجتمع أو المحيط بالطفل معه، وفق ما قالته التربوية بتول حذيفة.
وأضافت أن تعامل القانون مع هذه الجريمة وحجم الحماية التي يمكن أن يقدمها للطفل قبل وبعد تعرضه للتحرش تلعب دورًا أساسيًا بآثار هذه الحادثة.
ومن المفترض ألا يتأثر الطفل ولا المجتمع بهذه الحوادث في حال استطاع الطفل اللجوء للأشخاص المناسبين القادرين على توفير الحماية والدعم اللازمين.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :