عنب بلدي- الرقة
ظهرت في مدينة الرقة شمال شرقي سوريا، خلال الأعوام الماضية، عدة حركات وفعاليات ثقافية، سواء تلك التي تُنظمها مؤسسات “الإدارة الذاتية” العاملة في المدينة، أو منظمات المجتمع المدني والمنظمات المدنية، أو حتى بعض الفعاليات الخاصة التي يقيمها الفنانون أنفسهم دون أن ترعاها أو تتبناها أي جهة.
إلا أن التوجهات السياسية والمدنية في الرقة أسهمت بانقسام مثقفي المدينة من كتّاب وفنانين إلى عدة تكتلات، بحسب فلاح عبد الباري، وهو أحد الفنانين التشكيليين المقيمين في المدينة، ما جعل بعضهم يميلون إلى الجهة السياسية التي تخدم أفكارهم بغض النظر عن المصلحة العامة.
“هذا أمر غير ملائم للفنانين”، وفق ما قاله فلاح عبد الباري لعنب بلدي، كونه “من واجبهم أن يحيّدوا فنهم ونتاجهم الأدبي عن المواقف السياسية”.
يتجنب فلاح عبد الباري حضور الفعاليات الثقافية التي تقيمها “الإدارة الذاتية” في مدينته، خوفًا من أن يُحسب على “الإدارة” وموقفها السياسي والعسكري في سوريا، على حد قوله.
تسييس الفن أمر واضح في سوريا، والرقة في الوقت الحالي لا تختلف عن ذلك، فهي جزء من هذه الجغرافيا التي تعيش النزاع، وفق ما يراه عبد الباري.
ويتوقف العيش بكرامة وحرية على النخبة والمثقفين، ودفاعهم عن حقوق الناس في وجه أي سلطة، وضمان الحياة المستقلة للأفراد، لتلمس أثر ذلك بوجود حرية الاعتقاد والأفكار المختلفة والسلوكيات البديلة.
وخلال فترة حكم “البعث” في سوريا، منذ سبعينيات القرن الماضي، كانت الثقافة تُسخّر في خدمة السلطة والأيديولوجيا السائدة، وبالتالي فقدت معناها، وصارت عناصرها المختلفة ومراحلها الإنتاجية أسيرة نظام الحكم في كل لحظة، وتُطوّع هذه العناصر بما يتوافق مع ما تراه السلطة، وما يتلاءم مع التعاليم المقدسة لأفكارها وأشخاصها.
وبالتالي، بقي تأثير الثقافة محدودًا في سوريا، حيث يسودها الطغيان، ويسيطر فيها الرأي الواحد واللون الواحد، ويُمنع فيها صدور صوت معارض، الذي يكون مصيره القتل أو السجن أو النفي، في ظل وجود جمهور أُعيد تكوينه ليبارك أفعال السلطة الحاكمة.
ولم يكن للأفراد أي عمل أو دور أو وظيفة ثقافية غير تمجيد شخصية الحاكم، وتكرار مقولاته واستحسانها.
وخلال الثورة السورية عام 2011، أُطلق العنان للناس، ومنهم المثقفون والكتاب، لتحطيم منتجات النظام السوري في جميع مستوياتها، السياسية والفنية والاجتماعية.
ثقافة غير مستقلة
يتهم مثقفون وفنانون التقت بهم عنب بلدي في مدينة الرقة “الإدارة الذاتية” بتسييس الفعاليات الثقافية التي تقيمها، وزج شعاراتها وأعلامها خلال كل فعالية ثقافية تُقام في المدينة، أو حتى بمناطق أخرى من شمال شرقي سوريا، على الرغم من مطالبتهم إياها بـ”عدم إقحام نفسها وشعاراتها في تلك الفعاليات”، والحفاظ على استقلالية الفعاليات الثقافية والفنية.
بينما يخشى بعض الكتاب والفنانين أن تكون أسماؤهم في سجلات أجهزة النظام الأمنية، تحت تهمة “التعامل مع (الإدارة الذاتية)”، وهذه التهمة كفيلة باعتقالهم لدى توجههم نحو مناطق سيطرة النظام السوري، على حد قولهم.
بحسب عضو “اتحاد المثقفين” في الرقة علي الفندي، فإن هناك عدم مقدرة من قبل “الاتحاد” على تجميع الفنانين أو الكتاب الموجودين حاليًا في المدينة بذات الفعالية، “ترى بعضهم يفضّل تجنب حضور الفعاليات التي تنظمها (الإدارة الذاتية)، ويقيم آخرون أنشطتهم الخاصة، وبعضهم الآخر اتجه باتجاه الفعاليات التي تنظمها المنظمات المدنية”، وفق ما قاله الفندي لعنب بلدي.
والأجر المادي الذي تعطيه المنظمات المدنية للفنانين والكتّاب الذين يحضرون المبادرات التي تقيمها، أو يشاركون بها، “يفوق بشكل كبير المرتب الذي من الممكن أن تعطيه (الإدارة الذاتية) للعاملين لديها، والمال صار عامل جذب بسبب الوضع الاقتصادي الذي تعيشه سوريا”، على حد قول الفندي.
وهناك طاقة الإبداع الشبابية المتولدة مع الظروف السياسية والفكرية المحيطة بهم في مناطق شمال شرقي سوريا عمومًا، ومدينة الرقة خصوصًا، وبإمكان هذه الطاقة أن تملك مساراتها الخاصة المعقدة والطويلة، وفق الفندي، من خلال استخدام تقنيات الفيديو والمونتاج.
لكن هذه الطاقة الإبداعية، في نفس الوقت، لا تملك عوامل الدعم ماديًا وفنيًا، وهي تحتاج كي تنمو وتبدع إلى استقرار يسمح ببناء مؤسسات ثقافية وفنية مختلفة عن المؤسسات القديمة بقيمها وآلياتها، ذات أنماط تفكير جديدة وحرة، وبآليات عمل مغايرة لتلك التي بناها النظام السوري.
وفي أثناء النزاعات المسلحة والاضطرابات الأمنية، ليس ثمة فرصة آمنة لإنتاج ثقافة حقيقية وفن جديد يخدم المجتمع، إلا أنه خلال الـ11 عامًا، أثرت الثورة السورية بشكل جوهري ومباشر في الثقافة السورية، ودفعتها إلى إعادة بناء رؤية لنفسها ووظائفها وموضوعاتها، وستحتاج إلى وقت طويل كي تعيد النظر في الماضي وثقافته، كما تحتاج إلى أشكال وأدوات جديدة لا يمكن توفيرها من دون استقرار ودراسة واحترافية عالية.
مجموعات مختلفة
وفقًا لما رصدته عنب بلدي، فإن أبرز التكتلات الثقافية التي تظهر في الرقة خلال الوقت الحالي، هي مجموعة “مركز الرقة للثقافة والفنون” و”لجنة الثقافة والآثار” في “مجلس الرقة المدني”، التي تتبنى “الإدارة الذاتية” تنظيم فعالياتها ودعمها ماديًا ولوجستيًا، من خلال إقامة المعارض، وطباعة الكتب والمجلات، وإنتاج الأغاني، وإقامة معارض الفنون التشكيلية.
والكتلة الثقافية الثانية هي التي تتبناها المنظمات المدنية، والتي تقيم المعارض والفعاليات الفنية في صالات خاصة، وتتلقى الدعم عادة ضمن مشاريع المنح التي تقدم للمنظمات العاملة في الرقة ومناطق أخرى من شمال شرقي سوريا.
وهناك مجموعة أخيرة من التكتلات الأخيرة، وهي التي تقيم نشاطاتها بجهود فردية في المقاهي والصالات، مثل مقهى “بيت القصيد” و”فسحة حوار” و”الركن الثقافي”، أو في منازل الأشخاص أنفسهم الذين ينظمون تلك اللقاءات الثقافية.
“ظاهرة إيجابية”
يرى عضو في “لجنة الثقافة والآثار” بـ”مجلس الرقة المدني”، أن التكتلات الثقافية الظاهرة في الرقة بالوقت الحالي، هي أحد نتاجات الانقسام الاجتماعي والسياسي الذي يعيشه السوريون بعد مرور وقت طويل على النزاع المسلح.
واعتبر عضو “اللجنة”، الذي تحفظ على ذكر اسمه كونه لا يملك تصريحًا بالتحدث إلى الإعلام، أن “تلك التكتلات بقدر ما تحمله من السلبية، فإنها تحمل الكثير من الإيجابية، فهذا يدل على المساحة الآمنة التي وفرتها (الإدارة الذاتية) في تعدد الفعاليات والتيارات الثقافية التي تمارس حاليًا في مناطق شمالي وشرقي سوريا”.
وداخل مدينة الرقة هناك العديد من الصالات والمقاهي الثقافية الخاصة، وهي جميعها تنظم فعاليات بشكل مستقل عن “الإدارة الذاتية”، أما الأماكن التي تتبع لـ”الإدارة”، فهي صالة “اتحاد المثقفين”، و”مركز الرقة للثقافة والفنون”، و”المكتبة الوطنية”، و”المكتبة العامة”.
وعلى الرغم من توفر الصالات والمقاهي الثقافية الخاصة المستقلة عن إشراف “الإدارة الذاتية”، فإن التكتلات الثقافية المستقلة تواجه صعوبة في توفير التمويل المالي لمشاريعها ونشر منتوجاتها.