ذاكرة عبد الطيف عبد الحميد
نبيل محمد
لم ينقص السينمائي السوري عبد اللطيف عبد الحميد الذي يمر بمرحلة صعبة من حياته حاليًا، بعد وفاة زوجته، ودخوله في أزمة صحيّة، إلا مقدّم برامج كثائر محرز، ليسأله “من يضمّك اليوم؟”، ويذهب معه في ذاكرته طالبًا منه استحضار زوجته وحياته السعيدة معها والكئيبة دونها، في لقاء أجراه معه ببرنامجه “المختار” الذي تبثه إذاعة “المدينة” المحليّة. لقاء ظهر فيه عبد الحميد هرمًا، مريضًا، يجوب بذاكرته على أفلامه القديمة التي لا شك أنها المسؤولة عن شهرته، وعن تصنيفه كسينمائي سوري محترف.
محزنة هي مسيرة عبد اللطيف عبد الحميد، كما هو محزن حضوره في ذاك الحوار الهزيل، فقيمته كمخرج محترف، تلك التي بناها بالأعمال الأولى، التي لا بد أنه بالغ حتى في الحديث عن أثرها وشهرتها وجوائزها (قال إن ليالي ابن آوى نال ثلاث جوائز ذهبية في يوم واحد)، كانت قيمة سريعة التلاشي إثر أفلام متتالية أصدرها عقب 2011، فجاءت مفصّلة على مقاس المرحلة وأبطالها المجرمين، وإن بدا أنه حاول مع انطلاق الثورة أن يغرّد في مكان ما بعيدًا عمّا سينتجه زملاؤه من سينما الدعاية السياسية والنفاق، إلا أنه عاد ليكون صلب تلك السينما بأفلام ازداد عددها، حين فُتحت أبواب إنتاج القطاع العام له مشرعة بقوّة أكثر مما كانت عليه قبل 2011.
يروي المخرج المتعب، كثير السعال لما حلّ به من أزمة صحيّة مؤخّرًا، قصصًا تتناقض فيما بينها أحيانًا، فيرفض سلطة الرقابة هنا، ويؤكد ضرورتها هناك، ويجد لجان الرقابة في سوريا قاسية وتتدخل في صلب بناء الأفلام، إلا أنها لجان عادلة حينما يصبح هو نفسه فردًا من أفرادها. يتحدّث عن “إغفال الأسماء” عندما تنظر المؤسسة العامة للسينما في نصوص الأفلام القادمة إليها، فتظهر تلك الجملة أقرب لـ”نكتة” غثّة غير مضحكة، منفيّة قطعيًا ببساطة مطلقة، ينفيها بسرعة أول استعراض لأسماء المخرجين المكرّرة خلال السنوات الأخيرة. ربما ليست الأسماء فقط، إنما الارتباطات العائلية والطائفية التي لم تكن يومًا بعيدة عن خيارات المؤسسة العامة السينما تاريخيًا، في اختيار الأعمال القليلة التي تنتجها سنويًا.
ينظر عبد الحميد إلى سينما زملائه بأنها “نخبوية”، تسعى خلف المقولات السياسية، وخلف “المعارضة”، بينما هو يتميّز بالبساطة التي ضمنت له الجماهيرية، ثم يجد أن زملاءه هم الذين يطعنون به، وذلك عندما “يرمون اللمبة التي أشعلها بالحجارة، دون أن يشعلوا اللمبة الخاصة بهم”. لم تسعفه اللغة ولا الذاكرة بأفضل من هذا التمثيل لـ”غيرة” زملاء المهنة من نجاح زميلهم.
لم يتم تمييز عبد اللطيف عبد الحميد يومًا عن غيره من المخرجين السوريين، ولم يُمنح امتيازات في الإنتاج من قبل المؤسسة العامة، حسب قوله، والدليل على ذلك أن عدد أفلامه لا يختلف عن أعداد الأفلام التي أنتجها غيره من المخرجين، حسب قوله. ولعلّه قد بالغ في هذه النقطة بالذات، فعدد ما قدّمه من أفلام يبلغ أضعاف ما قدّمه زملاؤه المعروفون كمخرجين عبر المؤسسة العامة، بل إن تكريسه خلال السنوات الأخيرة كان مبالغًا به وفاقعًا، بحيث لا يمكنه أن يخفي الأولوية التي تُعطى له على حساب غيره، بمجرد لقاء صحفي يدّعي فيه بأنه لم يكن يومًا طفل المؤسسة المدلل.
تتراوح ذاكرة المخرج بين فيلمي “ليالي ابن آوى” و”رسائل شفهية”، الأجمل والأكثر أثرًا بلا شك في حياة مخرجهما، فكلما أراد الاستشهاد بحادثة أو الحديث عن ممثل، لجأ إليهما، وكأنهما ذاكرته الثابتة، أما تلك الأفلام التي أنتجها مؤخرًا فبعيدة عن الاستحضار. لقد كانت أفلامًا خاصّة بمناسبات معيّنة وأهداف معيّنة، كانت الضريبة التي كان عليه دفعها طالما أنه انتقى البقاء في البلاد وإنتاج السينما تحت الراية ذاتها، والشعار ذاته.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :