من قصة الحب الأول عام 1975 إلى الاعتقال الأول، وصولًا إلى الاعتقالات العائلية، وتدمير المنزل والفرار من الفرات ومن دمشق التي احتلها العسكر ببراميلهم وبفروع مخابراتهم الطائفية 2015.
40 عامًا من الحلم والحياة المرّة يستعرضها كتاب فواز العلو “دولة العبث”، الذي أصدرته دار “موزاييك للدراسات والنشر” في اسطنبول، وهو كتاب على شكل سيرة ومذكرات يغلب فيها الشأن العام على الشأن الشخصي ويقع في 236 صفحة.
تبدأ الحكاية من الوصول إلى الطبالة التي تقيأتها دمشق، كما يقول أحد الطلاب القادمين إلى الجامعة للدراسة، إذ يسكن مجموعة من الطلاب في حي المخالفات الذي أنتجته أنظمة “دولة العبث” ورشاها وأبطالها من العسكر، ويصف الكتاب طريقة ذهاب الطلاب إلى الجامعة بالباص الذي يعتبر قنبلة بشرية من كثرة المتعلقين به، والذين يكاد الواحد منهم أن يطير في الهواء بدلًا من أن يركب وسيلة نقل متحضرة في دولة تزعق أجهزتها وقادتها ليل نهار بالوحدة والحرية والاشتراكية.
ولكن الطلبة يبدؤون حياتهم ويخططون لمستقبلهم، يسهرون، ويحبون، ويتناقشون في الشأن العام، ويستهزئون من تكلّس الأيديولوجيا الشيوعية التي التحقت بـ”دولة العبث” في عبادة شخصية خالد بكداش، بالإضافة إلى “الإخوان المسلمين” الذين ينظرون إلى الدولة كغنيمة هم أحق بها من دولة العسكر البعثي كما يقول المؤلف.
فعندما يصل أديب برفقة جبران إلى البيت ليسكن مع إلياس ويعقوب، يستقبلونه بمحبة ويقدمونه إلى الحياة الجديدة وإلى الأصدقاء القدامى، وتظل سهرات العرق والنقاشات السياسية هي محور حياتهم، رغم أن الحب لا يغيب عن تلك الحياة، فعادل الديري القادم من بلدة الموحسن يحب هالة القادمة من السلمية، ويلقبها برائحة الشيح، ويشترك معها في حب إياس خضر وأغانيه الثقيلة.
بينما يجاهد أديب للحصول على قصة حب، يرفض الجميع التوسط له في الحب، وعليه أن يسعى إلى الحب بنفسه، حتى يجد غادة التي تنضم إلى قافلة السهر والنقاشات وحياة الحب الخالية من التعقيدات.
يتم اعتقال جبران فيحزن الجميع ويخافون عليه، فجبران شخص متمرد وجريء ويفضح موجة العسكر الطائفية التي تجتاح البلاد اعتبارًا من الطلاب الذين يدرّسهم، ولكنهم يحلمون بالانضمام إلى “سرايا الدفاع” ومعاقبة أساتذتهم في المدرسة.
والشخصية التي تسلّط عليها صفحات الكتاب أضواءها أيضًا هي شخصية “أبو فهد” الذي ينضم إلى أحد أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي تشارك في تغطية جرائم النظام الأسدي، ولكن “أبو فهد” يحاول إصلاح حزبه الشيوعي، ويبشر بمستقبل أفضل، ويحاول أن يرسخ الديمقراطية والحوار مع الناس، فيلحق بابنه المعتقل ولا يخرج من معتقله القاسي.
يتم اعتقال جبران من جديد، ويبقى 13 عامًا في سجن “تدمر” وأشباهه، التي رسخت آلية تعامل النظام مع الشعب السوري، ومهدت للجرائم التي خرجت بكل وحشية بعد ثورة 2011، التي هزت أركان النظام وأخرجت كل مكنوناته الطائفية والوحشية التي دمرت البلاد وهجّرت الشعب.
قُتل جبران في اعتصام الساعة بحمص، وبقيت ناديا حبيبته حزينة ولا ترضى مقابلة أحد، ولم يبقَ لها إلا ابنهما يوسف الصغير، وهالة تزوجت من ضابط في “أمن الدولة” وصارت ملكة في الفساد والسلطة، ولكن زوجها وهو قريبها، يتزوج عليها من فتاة صغيرة تحاول أن تخونه مع عادل انتقامًا لكرامتها، ولكن عادل الذي أحبها سابقًا، يرفض أن يكون مجرد أداة للخيانة وللانتقام رغم بؤس حالته بعد هجرته من دير الزور وتدمير منزله وتوقف أعماله التي كانت مزدهرة.
يرصد الكتاب مدينة دير الزور والطبقة والرقة، ويصوّر الحياة في هذه المدن المنسية، وهيمنة آل شاليش على المشاريع الزراعية فيها، ويتحدث عن العاطلين عن العمل الذين يملؤون المقاهي ويتسولون ثمن علبة الدخان من إخوتهم أو أقاربهم أو أصدقائهم، ما أهّلهم لأن يكونوا نار البارود التي أشعلت البلاد في ثورة آذار.
ويتحدث الكتاب عن هجرة أبناء الخابور الذين جفت أراضيهم وتحولوا إلى الأعمال الهامشية في ريف دمشق ودرعا وغيرهما من المدن، التي استقبلت هؤلاء الفقراء ويطلقون عليهم اسم “النوَر”.
يتحدث عادل عن آليات العمل وتدخّل المخابرات في كل تفاصيل الحياة العامة والاقتصادية وحتى الحياة الشخصية للناس، ويصوّر وصول مهندس من عائلة الأسد إلى دير الزور، واستخفافه بالناس وهو يدير مؤسسة استصلاح الأراضي التي تبلغ موازنتها أكثر من مليار ليرة في التسعينيات.
يتحول عادل العاشق والحالم من خبير في الدراسات الجيولوجية إلى “تاجر شنطة” بين سوريا ودول الاتحاد السوفييتي المنهار، ويتحدث عن الدعارة وعن تفكّك البلاد الذي يستشرف تفكّك سوريا نفسها، وهذا ما حدث في زمن ليس ببعيد عن زمن انهيار الاتحاد السوفييتي “الصديق” لدولة المخابرات!
ولكن النهاية كانت باعتقال سعد بن عادل، وهو طالب دراسات عليا، ثم اعتقال زوجة عادل، ولم يبقَ أمامه إلا الرحيل باتجاه المجهول في البلاد الغريبة، التي تحول فيها من رجل أعمال وخبير في الشأن العام إلى مجرد لاجئ لا يعرف ماذا يخبئ له المجهول وقد سبقه يعقوب، وإلياس، وأديب، وقصي، وهدى.
كتاب فواز العلو وثيقة إنسانية وشهادة على العصر المخابراتي الذي بدأ بتدمير سوريا، اعتبارًا من الصفحات الأولى عندما تقيأت دمشق حارة الطبالة، وتقيأت بعدها عصابات النهب والرشى، وعبادة الفرد، وتوريث الحكم، وكانت مذبحة القصور والبراميل المتفجرة خاتمة المطاف.
بإنتاج “دولة العبث” التي رصدها الكتاب بكل تلقائية وبلا تكلّف، وبأسلوب شائق، اضطرني إلى حمل الكتاب في حقيبتي أينما توجهت علّني أجد وقتًا لقراءة بعض صفحاته المتجددة، التي ترصد وقائع غابت عن أذهان الكثير منا، وتعيد وضعها في مسار التدمير الشامل لسوريا الذي نفذته “دولة العبث”.