“هو محبوس في الداخل، وأنا محبوسة فيه”، بجملة قصيرة ومختصرة تعبّر “أم أحمد” عن شعورها أمام غياب ابنها، إثر اعتقاله من قبل قوات النظام السوري، في العاصمة دمشق.
الكلمات السابقة والمتبوعة بتنهيدة تعب يختلط فيها الصبر بمشاعر الأمومة، تعبّر عن كل لحظة منذ حادثة اعتقال أحمد، التي مضى عليها أكثر من عشر سنوات (3692 يومًا)، وفق حسابات الأم التي تقيس المسافة والغياب بمعايير ربما أكثر دقة.
في حديث إلى عنب بلدي كان محفوفًا بمخاوف الأم إزاء ما يمكن نشره أو لا، تخوفًا على مصير ابنها المعتقل، وبعض أفراد العائلة المقيمين في مناطق سيطرة النظام، أوضحت السيدة ظروف اعتقال ابنها أحمد (28 عامًا حين اعتقل)، مبيّنة في الوقت نفسه أنه “متهم” بالمشاركة في أنشطة إغاثية خلال تلك الفترة.
أم أحمد أكدت أيضًا أن الاتصال الأخير الذي أجرته العائلة مع الابن المعتقل كان عام 2013، وتلا ذلك تعرض العائلة للاحتيال والنصب، في سبيل استعادة ابنها من المعتقلات، والنتيجة دفع نحو 12 ألف دولار أمريكي حينها، لهذا الغرض، لكن دون فائدة بعد انتظار ومشاعر فائرة استمرت نحو نصف عام من الوعود.
“ابني لم يفعل شيئًا، كان يدرس، وانتهى من الماجستير”، تشدد والدة المعتقل على براءة ابنها الذي اُعتقل في الوقت الذي كان يسعى به للاستقرار وتأسيس عائلة، لكن تأمين علاج وأدوية لبعض المستشفيات، كان “جناية” كفيلة بسنوات طويلة من الاعتقال، تناوب خلالها الشاب على أكثر من فرع وسجن، وفق حديث والدته.
ويعتبر أحمد واحدًا من 132 ألف و667 شخصًا، معتقلًا لدى قوات النظام السوري، 87 ألف منهم في عداد المختفين قسرًا، وفق تقارير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“.
وأمام ضخامة الرقم وعدم جدوى “مرسوم العفو” الذي أصدره رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بموجب “المرسوم التشريعي رقم 7″، في 30 من نيسان الماضي، برزت العديد من الحملات المدنية التي أطلقتها جمعيات ومنظمات معنية بشؤون اللاجئين، للمطالبة بإخلاء سبيلهم، والكشف عن مصيرهم أيضًا.
“حق كشف المصير”
وفي 26 من حزيران الحالي، انطلقت حملة “حق كشف المصير”، التي دعا لها “الاتحاد العام للمعتقلين والمعتقلات”، معتقلين سابقين، وذوي معتقلين يقبعون في سجون النظام السوري.
ومنذ صدور “مرسوم العفو”، وحتى 13 من حزيران الحالي، وثقت “الشبكة السورية” الإفراج عن قرابة 539 معتقلًا فقط، من مختلف السجون المدنية والعسكرية والأفرع الأمنية التي تتبع للنظام في المحافظات السورية (منهم 61 سيّدة و16 شخصًا كانوا أطفالًا حين اُعتقلوا).
المدير التنفيذي لـ”الاتحاد العام للمعتقلين والمعتقلات” والمعتقل السابق، محمود الحموي، أشار إلى إطلاق حملات مماثلة في سوريا وبعض الدول الأوروبية، مشيرًا لضرورة حملات المناصرة أمام المجتمع الدولي والمنظمات الأممية وضرورة تكثيفها في سبيل خلق ضغط دولي للدفع بالملف قدمًا.
كما أوضح أن الحملة جديدة قديمة في الوقت نفسه، باعتبار أنها مسبوقة بعدة حملات للغرض ذاته، بدأته منذ “اليوم العالمي للمختفين قسريًا”، واستمرت باسم “لا تخذلوهم”، وتلاها حملة “حفرة العفو الكاذب”، في إشارة لـ”مرسوم العفو” الصادر عن النظام.
وإلى جانب ذلك، لفت الحموي إلى توصيات من “الآلية الأممية” التي يجري العمل على إنشاءها حاليًا، تدعو لعدم المبالغة في منح الأهالي آمالًا كبيرة مرتبطة بمصائر أبنائهم، باعتبار أن المسألة تحمل بعدًا قانونيًا يسعر القائمون على الحملات لإيصاله للمنظمات الدولية.
آلية أممية
وفي اتصال هاتفي مع صحيفة “الشرق الأوسط”، نُشر في 29 من حزيران، أعلن رئيس لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة حول سوريا، باولو بينيرو، قرب صدور تقرير يخص إنشاء آلية أممية للبحث عن مصير المفقودين في سوريا، بموجب قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية عام 2021.
وأكد المسؤول الأممي أن الآلية تندرج في السياق الإنساني، ويجب عدم الخلط بين المساءلة الجنائية، أو مسار العدالة أو المسؤولية، وبين البحث عن المختفين والمفقودين، وتوقع بينيرو أن يصدر التقرير خلال الأيام القليلة المقبلة، دون تحديد تاريخ محدد.
وخلال جلسة مجلس الأمن المنعقدة في 29 من حزيران الحالي، طالب ممثلو العديد من الدول بالدفع نحو كشف مصير المختفين قسرًا في سوريا، وشكك ممثلو العديد من الدول بما فيها، الولايات المتحدة وبريطانيا، بجدّية “مرسوم العفو” الذي أصدره النظام في 30 من نيسان الماضي، إذ طالب المندوب الأمريكي بعدم استخدامه كذريعة لإعادة اللاجئين، باعتبار أن الظروف غير مواتية لعودة كريمة.
مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” فضل عبد الغني، اعتبر الاعتقالات التي تعرض لها السوريون أقرب لعمليات الخطف، باعتبارها اعتقالات تعسفية.
وأضاف عبد الغني، في حديث إلى عنب بلدي، أن الاعتقالات جرت بغالبيتها على خلفية سياسية جراء المطالبة بتغيير النظام، مشددًا على أن الأصل هو المطالبة بإطلاق سراحهم، لا مجرد الكشف عن المصير، إلى جانب الاعتراف بمن قُتل منهم وتسليم جثته.
كما بيّن مدير “الشبكة” أن التحركات التي تقام بهذا الصدد موجهة للمجتمع الدولي، باعتبار أن النظام ومختلف أقطاب الصراع لا يستجيبون، وهذه التحركات للتذكير بالقضية والتذكير أيضًا بغياب أي تقدم عنها.
ويعتبر الكشف عن المصير خطوة تتعارض مع مصالح النظام، بل وتدينه أيضًا، كونه ينكر وجودهم لديه أصلًا، مع الإشارة لحالات الاعتقال التعسفي التي مورس بحقها التعذيب أيضًا.
عبد الغني انتقد آلية تعاطي المجتمع الدولي مع قضية المعتقلين والمختفين قسريًا، مؤكدًا في الوقت نفسه أنه طالما بقي النظام في السلطة مع أجهزته الأمنية فلن يكون هناك كشف مصير، أو إطلاق سراح حقيقي للمعتقلين.
من الجامعة للمعتقل
مروان برهان، والد المعتقل محمود برهان، تحدث إلى عنب بلدي عن ظروف اعتقال ابنه، الطالب الجامعي في كلية الإعلام بجامعة دمشق، في 27 من كانون الثاني، 2013.
وأكد برهان أن آخر خبر وصله عن ابنه منذ أربع سنوات، وكان حينها في فرع “المخابرات الجوية”، وفق ما نقل أحد الأشخاص المفرج عنهم من نفس المعتقل للعائلة.
وتعرض طلبة الجامعة، بمن فيهم العديد من طلبة كلية الإعلام، للاعتقال من قبل قوات النظام، بتسهيل من “اتحاد الطلبة”، المنظمة الطلابية المقامة لتنظيم فعاليات وأنشطة طلابية قبل الثورة.
وعلى خلفية حالة التوتر الأمني التي تجسدت مخاوفًا في عيون طلبة الكلية، غادر بعضم الكلية قبل استكمال دراسته الجامعية تخوفًا من اعتقال تعرض له رفاقه.
الأب المكلوم بغياب ابنه (الوحيد لشقيقتين)، شكك بجدوى التحركات التي تقام على شرف ملف المعتقلين، معتبرًا أن أي تحرك حقيقي في الملف لن يحصل إلا بقرار دولي.
كما نفى استجابته لمحاولات الابتزاز التي يتعرض لها ذوو المعتقلين، تحت مسميات ووعود مختلفة خادعة بمجملها، عن إخراج المعتقل وإخلاء سبيله، مشترطًا أن أي عملية من هذا النوع لن يقبلها مالم تكن قائمة على تسليم متبادل للنقود والمعتقل في الوقت نفسه، حتى لا تقع العائلة فريسة لجشع مستغلي معاناتها، وفريسة للأمل أيضًا، ثم الخيبة.
مصائر للبيع!
وفي حزيران 2021، كشف تحقيق “تجارة الاعتقال في سجون ومعتقلات النظام السوري“، وجود سوق، عرّابوها عاملون في الأجهزة الأمنية والقضائية التابعة للنظام، تمارس تجارتها عبر وسطاء ومحامين، لتبيع ذوي المعتقلين معلومات عن معتقليهم، أو حريتهم، وكل بسعره.
85 عائلة ضمن العيّنة تعرضت للابتزاز المالي، أو طُلب منها دفع مبالغ لفعل شيء لمحتجزيهم، و75 عائلة دفعت ما مجموعه 160 دفعة مالية عبر وسطاء أو بشكل مباشر، إلى عاملين في القضاء والأمن، بمعدل يتراوح بين دفعة وسبع دفعات مالية.
وتراوحت الدفعات المالية المدفوعة بين خمسة آلاف وثمانية آلاف دولار، ما يجعل وسطي تكلفة المعتقل أو المختفي قسرًا من العائلات الـ75 التي دفعت فعلًا، أكثر من عشرة آلاف دولار.
وتذهب 42% من هذه المبالغ في سبيل معرفة مكان المفقود، و24% منها بغرض إخلاء سبيله، بينما تنوعت أغراض الدفعات المالية الأخرى بين تحويل الشخص إلى المحكمة، وتغيير مسار الدعوة القضائية، والزيارة والتحويل إلى السجن المدني، واستصدار حكم بحق المعتقل.
التحقيق لفت حينها، إلى الأجهزة الأمنية الضالعة في عمليات الاعتقال والإخفاء القسري، التي كان نحو نصفها على يد فرعي “الأمن العسكري” و”المخابرات الجوية”، بنسب متفاوتة، فيما تقاسم “جيش النظام” والميليشيات التابعة له و”الأمن الجنائي”، و”الأمن السياسي”، و”أمن الدولة”، 52 حالة من عيّنة البحث.
ووفقًا للتحقيق، تصدّر ضباط الأمن قائمة المستفيدين من الدفعات المالية التي قدّمها ذوو المعتقلين، ثم تبعهم القضاة، ثم المسؤولون في أجهزة النظام.
كما تراوحت قيمة تجارة الاعتقال بين عامي 2011 و2019، بين أكثر من مليار دولار، ونحو ملياري دولار، وفقًا للتقديرات التي نشرها التحقيق.