عنب بلدي- هدى الكليب
بثيابه الرثة والمتسخة، ووجه يحمل ملامح الشقاء والتعب، ينطلق الطفل بلال السمان (13 عامًا) باتجاه الأراضي الزراعية القريبة من المخيم الذي يقيم فيه، لالتقاط حبات البطاطا المتبقية من التراب، بعد انتهاء المزارعين من موسم الجني المعتاد.
“وقت التعفير قصير، ولازم استغل الفرصة قبل ما يضمن صاحب الأرض أرضه للرعيان”، بحسب ما قاله الطفل لعنب بلدي.
يقيم بلال في مخيمات “كفر جالس”، شمالي إدلب، وهو من نازحي ريف إدلب الجنوبي، وأضاف أنه يجمع ما يمكنه جمعه من البطاطا في رحلة سباق مع أطفال آخرين، قبل أن ينتهي الموسم، وما يحصل عليه يحمله إلى أمه وإخوته القابعين في المخيم بلا طعام أو نقود.
لا يتوانى بلال عن أي عمل يتسنى له القيام به منذ نزوحهم عن بلدتهم، أواخر عام 2019، وكثيرًا ما يعمل في جمع النفايات، حين لا تكون هنالك مواسم لـ”التعفير”، فهو لا يعرف من الحياة إلا العمل لمساعدة أهله الفقراء، بعيدًا عن مقاعد الدراسة التي حرمته سنوات الحرب من الجلوس عليها.
ويشكّل “تعفير” البطاطا، وغيرها من المحاصيل الأخرى، فرصة عمل موسمية لكثير من النساء والأطفال الباحثين عما يسد رمقهم، وسط الظروف الصعبة التي يعيشونها في مخيمات النزوح من فقر وغلاء وقلة فرص العمل وتدني الأجور.
و”التعفير”، هو التقاط بقايا المحاصيل بعد انتهاء مواسم الجني، كمحصول الزيتون والتين وحبة البركة والكمون والبطاطا واليانسون، ومحاصيل أخرى أغلى ثمنًا كالزعفران والمحلب.
بُعد المخيم، الواقع في تلال منطقة كللي، لم يمنع النازحة باسمة صبري (37 عامًا) من الانطلاق لـ”تعفير” البطاطا مع أخريات من الأرض الزراعية الواقعة على بعد بضعة كيلومترات من مكان إقامتها.
وقالت السيدة لعنب بلدي، إن تدهور أحوالهم تدفعهم باستمرار للبحث عن فرص عمل، علّها تساعدهم في تحمل أعباء المعيشة التي أصبحت تثقل كاهل الكثيرين ممن حوصروا بالفقر وانعدام الفرص.
وأشارت إلى أن زوجها من عمال المياومة، ونادرًا ما يجد عملًا يعول به أبناءه الأربعة، وهو ما دفعها للعمل علها تعول نفسها وأسرتها، فلم تجد فرصة أمامها إلا استغلال مواسم “التعفير” المتاحة.
“نبدأ عملنا في التعفير بجمع ما غفل عن جنيه المزارعون من حبات بطاطا، بعضها فوق التربة وبعضها الآخر تحتها، ونستخدم الفأس وأكياسًا كبيرة لجمع ما نحصل عليه فيها. يستغرق علمنا ساعات النهار كلها، لنحصل على كمية تتراوح بين عشرة و20 كيلوغرامًا من البطاطا”، وفق ما قالته باسمة عن آلية عملها.
وأشارت إلى أن مهمة “المعفرين” ليست سهلة، وإنما تواجه الكثير من الصعوبات والمخاطر، أهمها العمل تحت أشعة الشمس الحارقة، وصعوبة جني المحاصيل لصغر حجم الثمار، باعتبارها البقايا التي غفل المزارعون عن التقاطها، إضافة إلى انتشار الحشرات والقوارض والأفاعي في تلك الأراضي، وخاصة في فصل الصيف، عدا عن وجود مخلّفات الحرب التي دائمًا ما تكون حذرة من الاقتراب منها.
ما تجمعه باسمة تبيع قسمًا منه للاستفادة من عائداته من أجل جلب ما ينقص خيمتها من احتياجات أساسية، وتبقي القسم الآخر للأكل، “فالبطاطا تعتبر من الأطعمة الأساسية للفقراء، ويمكن طهوها بأشكال متعددة”، حسب قولها.
ويمنع بعض أصحاب الأراضي عملية “التعفير” من قبل الغرباء والنازحين، ليعطوا فرصة لأقربائهم وذويهم للاستفادة من “تعفيرها” قبل “تضمينها” لمربي المواشي، في حين يسمح الكثيرون للفقراء بجمعها وتحصيل قوت يومهم، بحسب ما رصدته عنب بلدي في المنطقة.
“أبو ليث” الأربعيني يمتلك مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في بلدة حربنوش، شمال غرب إدلب، قال لعنب بلدي، إنه عادة ما يترك أواخر جني الموسم في أرضه قصدًا، ليمنح فرصة للفقراء، ممن ضاقت بهم السبل، للاستفادة منها وجنيها من أجل إطعام عوائلهم.
وأضاف “أبو ليث” أن “الغلاء والفقر يحاصران الكثيرين، دون وجود ما يساعد هؤلاء أو يلتفت إلى حالهم، وليس أقل من أن أدع لهم فرصة جني ما تبقى من الموسم، لمن يسعى في تحصيل لقمة عيش كريمة تغنيه الحاجة والسؤال في هذا الزمن الصعب”.
–