“دائمًا هناك أمل يبدد حالة اليأس التي نعيشها.. في الفترة الأولى بعد إصابتي لم أكن قادرًا على استخدام العكاز بسبب الإصابة الخطرة في يدي، وبعد رحلة علاج ليدي تمكنت من السير بواسطة عكازين، لم يكن الأمر سهلًا أيضًا، إلى أن ركّبت طرفًا صناعيًا مكّنني من المشي مجددًا بعد مرور عام على إصابتي”.
عبّر محمد (27 عامًا)، وهو من أبناء مدينة حلب، بهذه الكلمات، عن الصعوبات التي عاشها بعد بتر رجله إثر انفجار لغم أرضي، والمراحل التي مر بها بعد ذلك بدءًا من فترة العلاج في الداخل السوري وصولًا إلى تركيب طرف صناعي في تركيا.
بتر بسبب انفجار لغم
قال محمد، لعنب بلدي، في أثناء مراجعته لمركز منظمة “خطوات الإرادة” بمدينة إسطنبول التركية، إنه يراجع المنظمة حاليًا لتركيب طرف صناعي جديد بعد مرور نحو أربع سنوات على تركيب الطرف القديم من قبل المنظمة ذاتها في مركزها بمدينة غازي عنتاب التركية.
وأوضح محمد، وهو عنصر سابق في “الجيش السوري الحر”، أنه في أثناء المعارك التي كانت دائرة على الأرض بين “الجيش الحر” وقوات النظام السوري في أطراف أحياء حلب الشرقية في العام 2016، الذي شهد تهجير أهالي تلك الأحياء، انفجر فيه لغم أرضي زرعته قوات النظام وذلك خلال محاولته الاختباء بين الصخور من القصف الجوي العنيف على خطوط الاشتباك بين الطرفين.
وذكر أن انفجار اللغم أسفر عن بتر رجله اليسرى من أسفل الحوض بشكل مباشر، إضافة إلى إصابة بليغة في يده اليسرى وشظايا في مختلف أنحاء جسده، مشيرًا إلى أن أحد رفاقه في “الجيش الحر” حاول الوصول إليه لمساعدته، إلا أن لغمًا آخرًا انفجر برفيقه ما أدى إلى بتر قدمه.
وقال محمد إنه بعد أن توقف القصف نُقل لتلقي الإسعافات الأولية في نقطة طبية بمنطقة أورم الكبرى غربي حلب، ومنها نُقل إلى مستشفى قرب معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، ثم إلى مستشفى في بلدة أطمة شمال غربي إدلب، حيث قُدم له العلاج لمدة أشهر قبل أن يتم تحويله من المستشفى إلى أحد المستشفيات التركية.
في العام 2017، وخلال مراجعة محمد، لمراكز طبية في مدينتي الريحانية وغازي عنتاب، أرشده أصدقاؤه إلى منظمة “خطوات الإرادة”، ليسجل عبر رابط خصصته المنظمة لتنظيم استقبال المرضى، وبعد حصوله على دور، راجع مركز المنظمة في غازي عنتاب وتم تصنيع وتركيب طرف صناعي له.
طموح لبداية جديد
“صار لدي طموح لحياة جديدة وبداية جديدة”، يشرح محمد لعنب بلدي، عن التغيّر الكبير في حالته النفسية بعد تركيب الطرف الصناعي والمشي مجددًا، مبينًا أن كل شي اختلف عن السابق من الناحية النفسية والمعنوية.
بعد تركيب الطرف الصناعي والتدرّب على المشي من قبل فنيّي المنظمة، انتقل محمد للعيش في مدينة إسطنبول، حيث يوجد عدد من أقاربه، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته، ويعمل حاليًا في مهنة تصليح وصيانة الهواتف النقالة بعد أن أجرى دورات في هذا المجال.
وبحسب ما قاله محمد، إن تركيب الطرف الصناعي له، ووجود الإرادة والتصميم على الاستمرار، إضافة إلى الدعم الذي تلقاه من والديه، ساعده في الوقوف على رجليه ومتابعة الحياة بشكل طبيعي، كما أنه تعلم مهنة جديدة ولغة جديدة في بلد كان لا يعرف عاداته وتقاليده.
“منذ أكثر من سنة تزوجت وننتظر مولودًا في الأسابيع المقبلة”، قال محمد والابتسامة تعلو وجهه، مؤكدًا أن “الإنسان يجب ألا ييأس ما دام مؤمنًا بقضاء الله وقدره، ودائمًا يوجد فرصة وأمل جديد، دائمًا يجب أن توجد هناك قابلية للتطور والتعايش مع أي ظرف أو تغيير”.
“الإيهام بالألم”
رغم أن محمد أبدى خلال حديثه عن قوة عزيمة وإرادة في مواجهة حالة البتر التي تعرض لها، أفصح عن صعوبات نفسية رافقته خلال الأشهر الأولى بعد بتر رجله، وأوضح ذلك بقوله إن “النهايات العصبية لحالة البتر عند أي شخص مصاب تسبب آلام مستمرة لنحو سنة”.
وأضاف، “مثلًا يكون في بال المصاب أنه يريد تحريك ركبته أو حك إصبع قدمه رغم أنها مبتورة، هذا الشعور يكون متعبًا جدًا، خاصة في الشهور الثلاثة الأولى بعد البتر، كما أنه في بعض الأحيان يشعر بآلام وكأنها ناتجة عن صدمات كهربائية، إلا أن هذه الآلام تتضاءل مع مرور الوقت”.
محمد قال، لعنب بلدي، إنه بعد انتقاله للعيش في إسطنبول لم يتمكن من مراجعة منظمة “خطوات الإرادة” في غازي عنتاب، خاصة وأنه بات يشعر بآلام نتيجة زيادة في وزنه، ومؤخرًا علم أن المنظمة افتتحت مركزًا في إسطنبول، ليتواصل مع المركز فورًا، الذي حدد له موعدًا لمراجعتهم.
وذكر محمد، أنه يتلقى تدريبات حاليًا على طرف تجريبي تم تصنيعه له في مركز إسطنبول، وفي أقرب وقت سيحصل على الطرف النهائي، مشيرًا إلى أنه يتلقى أيضًا علاجًا فيزيائيًا في المركز.
الحالة رقم صفر
في عام 2013، بدأ مشروع “خطوات الإرادة” لتركيب الأطراف الصناعية بهدف تقديم الخدمة لمتضرري الحرب في سوريا، واستمر المشروع بتقديم خدماته عبر تبرعات من أهالي الخير حتى عام 2015، الذي شهد افتتاح أول مركز لمنظمة “خطوات الإرادة” في مدينة غازي عنتاب التركية، بحسب ما قاله المدير التنفيذي للمنظمة شريف الشيخ، لعنب بلدي.
واستذكر الشيخ الحالة رقم صفر التي انطلق منها المشروع، وكانت للطفلة “شهد” التي أصيبت بقصف لقوات النظام السوري على مدينة حلب في عام 2013، أدى إلى بتر أحد أطرافها السفلية.
وأوضح الشيخ أن ذوي شهد، وضعوا حينها أنبوبًا من البلاستيك كبديل لطرفها السفلي المبتور ليساعدها على المشي، مشيرًا إلى أن حالة شهد لاقت تعاطفًا مع المتبرعين وكانت مصدر إلهام للعاملين في المشروع لمواصلة العمل والتطور لتقديم الرعاية لكل من يحتاجها.
في 2015، افتتح أول مركز لتصنيع وتركيب الأطراف الصناعية على مستوى تركيا وسوريا، لاستقبال مختلف حالات البتر بسبب الحرب السورية، بحسب ما قاله الشيخ، وفي العام 2018 الذي حصلت فيه المنظمة على ترخيص دولي، وعقب الصعوبات في عبور المصابين السوريين إلى تركيا، افتتحت المنظمة فرعًا لها في الداخل السوري بمدينة الباب بريف حلب.
وأشار الشيخ إلى أنه مع صعوبة انتقال اللاجئين السوريين أيضًا من الولايات التركية إلى مدينة غازي عنتاب، جرى افتتاح فرع للمنظمة في مدينة إسطنبول في عام 2021.
1700 حالة بتر
المدير التنفيذي للمنظمة، شريف الشيخ، قال إن مركز غازي عنتاب استقبل حوالي 700 حالة بتر لأطفال ونساء ورجال بين عامي 2015 و2018.
وذكر أن مراكز المنظمة الثلاثة قدمت خدماتها لنحو 1700 حالة بين تصنيع وتركيب أطراف جديدة، وتعديل الأطراف المصنعة مسبقًا.
ولفت إلى أن المنظمة لديها شراكة مع شركتين عالميتين، وهما شركة “أوتوبوك” الألمانية للأطراف الصناعية (Ottobock)، وشركة “أوسور” الهولندية للأطراف الصناعية (Ossur).
الشيخ أشار إلى أن المنظمة وخلال مراحل مختلفة من عملها كان لديها شراكات عديدة مع منظمات ومبرّات دولية وعربية، منها شراكة شبه دائمة مع مبرّة “الساير” الكويتية، وشراكة مع بنك التنمية الإسلامي، ومع منظمة “ريليف إنترناشونال”، إضافة إلى أهل الخير من التجار ورجال الأعمال.
تسهيلات تركية
بيّن شريف الشيخ، أن لدى منظمة “خطوات الإرادة” شراكات مع وزارة الصحة التركية، ومديريتي الصحة في مدينتي غازي عنتاب وإسطنبول.
وأوضح أن الشراكة مع وزارة الصحة التركية تهدف إلى تنظيم وقوننة عمل المنظمة في الداخل التركي، وتسهيل عبور الفنيين ومواد تصنيع الأطراف الصناعية إلى الداخل السوري، إضافة إلى رفد مركز مدينة الباب بخبرات تركية بشكل دوري وأسبوعي.
وتقدم مديريتا الصحة في إسطنبول وغازي عنتاب تسهيلات بالتعاون مع مديرية الهجرة والجوازات التركية، لاستخراج أذونات سفر استثنائية تطلبها المنظمة بموجب الترخيص الحاصلة عليه من وزارة الصحة، وذلك للحالات التي تتطلب السفر من ولايات تركية إلى فرعي المنظمة في تركيا، وفق الشيخ.
وأشار الشيخ إلى أن المنظمة خصصت رابطًا للتسجيل للحصول على خدمات الرعاية من مراكزها، مؤكدًا أن المنظمة تهدف لتقديم الخدمة لجميع محتاجيها من مختلف الجنسيات.
العلاج الفيزيائي في مركز إسطنبول
إلى جانب تقديم خدمات تصنيع وتركيب الأطراف الصناعية لجميع الجنسيات بغض النظر عن العرق والجنس واللون والدين، تقدم منظمة “خطوات الإرادة” خدمة العلاج الفيزيائي في مراكزها الثلاثة، إلا أن مركز إسطنبول يتميز عن المركزين الآخرين بخبرة كوادره المتخصصة وتوفر الأجهزة المتطورة، بحسب ما قاله المدير التنفيذي للمنظمة.
وحول خدمات العلاج الفيزيائي التي يقدمها مركز إسطنبول، قال المدير الطبي في مركز “خطوات الإرادة” الدكتور أمين خطيب أوغلو، إن العمل في قسم المعالجة الفيزيائية يبدأ من تاريخ معاينة المريض وتقييم حالته، مشيرًا إلى أن المركز يستقبل الحالات من كل الجنسيات، إلا أن 80% من الحالات هم من السوريين.
وأوضح أن المعالجة الفيزيائية لحالات بتر الأطراف تبدأ مع وضع الخطة المناسبة لتركيب الطرف والتشاور مع الفنيين لاختيار النوع المناسب، ومتابعة الحالة خلال تركيب الطرف التجريبي لمدة لا تتجاوز الشهر، وفي حال عدم وجود أي ملاحظات من المريض يتم الانتقال لتركيب الطرف النهائي، بعد ذلك يتم إجراء اختبارات المشي السريع والتوازن والقدرة على المناورة.
ونوّه خطيب أوغلو إلى أن قسم المعالجة الفيزيائية يقدم خدمة أساسية أخرى بالنسبة لحالات بتر الأطراف، وهي معالجة الآلام المترافقة مع البتر، إذ يتم علاجها عبر الأجهزة المتطورة (الليزر، الموجات التصادمية) وذلك قبل تركيب الأطراف الصناعية.
كما أن المركز يعمل في بعض الأحيان على التنسيق مع مستشفيات تركية بخصوص القطع التصحيحي للبتر، وذلك للحالات التي يكون البتر فيها عشوائيًا، خاصة لتلك التي تمت في مراكز صحية غير مؤهلة لمصابي الحرب في سوريا.
أما بالنسبة للحالات المرضية التي تتطلب معالجة فيزيائية بشكل مباشر، يجري التسجيل على رابط مخصص من قسم المعالجة الفيزيائية في المركز، ثم التواصل مع المريض من قبل طبيب مختص لتقييم الحالة، وفي حال تحقق الطبيب من أن الحالة بحاجة للمعالجة يحدد موعد للمريض لمراجعة المركز، بحسب ما قاله خطيب أوغلو.
وشرح خطيب أوغلو أن مراحل المعالجة للمريض تبدأ من فحص المريض طبيًا ووضع الخطة العلاجية، ثم ينتقل لباقي الأقسام للحصول على الخدمة، إذ يقدم المركز خدمات للإصابات العصبية والرضية والطب الرياضي والآفات الناتجة عن تشوهات القوام والإصابات الناتجة عن الحروب والحالات الناتجة عن الشلل الدماغي، وغيرها من الحالات الأخرى.
وبعد خمس جلسات يتم تقييم كيفية سير العلاج، بحسب خطيب أوغلو، الذي أشار إلى أنه من المفروض ألا تستغرق عملية العلاج أكثر من عشر جلسات، وذلك بحسب الحالة المرضية سواء أكانت أولية أو متأخرة، وبعد تخريج المريض يتم تحديد موعد له بعد ثلاثة أشهر لمراجعة المركز.
آلاف حالات البتر في سوريا
في 17 من أيار الماضي، أصدرت “مجموعة الحماية العالمية” تقريرًا حول الذخائر المتفجرة في سوريا والخطر الذي تشكّله على حياة السكان.
ووثّق التقرير 76 حادثة مرتبطة بمخلّفات الحرب يوميًا خلال عام 2020، ما يعادل حادثة كل 20 دقيقة، معظمها في مناطق شمال غربي سوريا.
وقُتل أكثر من ثلث ضحايا الذخائر بينما يعاني واحد من كل ثلاثة ناجين من بتر أحد الأطراف، واثنان من كل ثلاثة تعرضوا لإصابات يستمر أثرها مدى الحياة، بحسب التقرير.
وكانت منظمة الصحة العالمية ذكرت في تقرير صادر عنها قبل نحو ثلاث سنوات أن 86 ألف جريح في سوريا أفضت إصابتهم إلى بتر الأطراف.
وأوضح تقرير المنظمة حينها أن 1.5 مليون سوري يعيشون مع إعاقات مستديمة، وطالبت المنظمة المجتمع الدولي بتوسيع إطار الدعم المقدم لتأهيل المصابين ودمجهم في المجتمع من جديد.
وفي وقت سابق، اعتبر رئيس “رابطة الأطباء الدوليين”، مولود يورت سفن، أن نسب إصابات الساق وبتر الأذرع في سوريا هي الأكبر في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.