الناجيات والناجون ضحايا مرة أخرى

توثيق الشهادات كمسار حقوقي.. ضوابطه وانتهاكاته

camera iconصورة تعبيرية لسوريين في مراكز الاحتجاز (منظمة العفو الدولية)

tag icon ع ع ع

“وقت كنا جوا كنا نقول يا شباب أمانة اللي بيطلع يحكي ويوّثق اللي صار معنا”، هذا ما جعل أسامة الزهوري (41 عامًا) مندفعًا نحو التعاون مع العاملين في مجال التوثيق لينقل تفاصيل ما عاشه ورفاقه خلال سنوات اعتقاله الأربع.

وفي ظل وجود عشرات المنظمات المحلية التي تعمل على توثيق قصص المعتقلين، تغيب الضوابط عن عمل العديد منها، ويصير المعتقل أمام “جلسات تحقيق” أخرى خارج حدود المعتقل.

ورغم الأهمية الكبيرة التي يشكّلها التوثيق، يتحول بفعل العديد من تجاوزات المنظمات والأفراد العاملين في هذا المجال إلى خوف جديد من الاستغلال.

عشوائية تمس نقاطًا حرجة

“أشعر بالمسؤولية تجاه كل كلمة سمعتها داخل المعتقل، وكل موقف عشته، خاصة ما يرتبط بأشخاص لم يُعرف مصيرهم بعد”، هذا ما قاله أسامة لعنب بلدي، خلال مقابلة في منزله باسطنبول، ليصف الحمل الثقيل الذي يشعر به.

“كنت أشعر أن عليّ أن أروي تفاصيل ما عشناه، حتى القصص والذكريات الحرجة، التي يصعب عليّ الحديث عنها”، تابع أسامة، مشيرًا إلى أن تصرفًا عشوائيًا واحدًا من قبل أحد “الحقوقيين”، جعله أكثر حذرًا، ووقف حاجزًا بين رغبته بالتوثيق وشعوره باللا جدوى.

وأوضح الشاب أن محاميًا، رفض ذكر اسمه، ادّعى أنه يعمل في منظمة “سيجا”، تواصل معه ليوثّق قصته و”ينقلها إلى المنظمات الدولية”.

وحين طلب أسامة من المحامي إرسال نسخة من الشهادة التي قدمها، أرسلها برسالة عبر “واتساب”، دون أي معلومات حول المنظمة التي يعمل معها، وفق ما قاله، موضحًا أن من المتعارَف عليه أن يتم التعامل مع هذه المعلومات بطريقة أكثر دقة ورسمية.

وأضاف الشاب، “شكّكت بما قاله، خاصة بعد أن رفض في البداية ذكر اسم المنظمة التي يعمل بها”.

وتأكدت شكوك أسامة حول ذلك الشخص، بعد أن أخبره صديقه أن المحامي نفسه تواصل معه، وعرّف عن نفسه بطريقة مختلفة.

عنب بلدي تواصلت مع صديق أسامة الذي رافقه خلال سنوات اعتقاله، رفض ذكر اسمه لأسباب أمنية، وأكّد أن المحامي أخبره أنه يعمل مع منظمة “سوريون من أجل العدالة والمساءلة”.

من جهته، تواصل مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، مع المحامي المذكور، وأكد أنه يعمل مع منظمة “سيجا”، بحسب ما قاله العبد الله لعنب بلدي، مؤكدًا أن ما حصل يعتبر تجاوزًا وانتهاكًا لحق المعتقل بمعرفة الجهة التي يتعامل معها، والأهمية الحقيقية لشهادته.

وأضاف العبد الله أن هذه “العشوائية” من قبل بعض الأفراد متكررة، وضحيتها الأولى الناجون من المعتقل، مشيرًا إلى أن القاعدة لدى البعض “حتى لو يموت الشخص المهم الحصول على المعلومة”، وفق تعبيره.

الأولوية للمعلومة.. الإنسان على “الهامش”

“رغم أنني لا أواجه صعوبة كبيرة بالحديث عن تجربتي، أدرك تمامًا أن المئات من الأشخاص، ومعظم رفاقي، يعتبرون الحديث عن تجربة اعتقالهم بمنزلة تكرار للتجربة”، قال أسامة، مؤكدًا أن اتخاذ قرار الحديث عن تفاصيل المعتقل يتطلّب شجاعة كبيرة.

ورغم قسوة تجربة الاعتقال التي تظهر في كل الشهادات المقدمة من قبل الناجين والناجيات، وردود فعلهم عند الظهور على وسائل الإعلام، تعطي العديد من المنظمات الأولوية للحصول على المعلومة، متجاهلة أثر ذلك على من عاش التجربة.

مؤسس ومنسق “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، دياب سرية، قال لعنب بلدي، إن العديد من المنظمات تركّز على الجانب الحقوقي، وتسعى للحصول على المعلومات من الناجين، متجاهلة الجانب الإنساني.

كما تربط العديد من المنظمات تقديم المساعدة المادية أو المعنوية للمعتقل بتوثيق شهادته، وهو ما اعتبره سرية أمرًا “معيبًا” بحق الحقوقيين.

من جهته، أكّد الحقوقي محمد العبد الله أن هناك تجاهلًا لإحساس الناجين من المعتقل بآلية التوثيق، من خلال الوعود التي تقدم للناجي بالسفر أو المساعدات المادية، أو “فضح جرائم النظام”، وفق تعبيره.

“تجربة المقابلة والتوثيق متعبة، وتستهلك من طاقة الناجين”، هذا ما قاله العبد الله، لافتًا إلى ضرورة التركيز على ما يترتب على جلسات التوثيق.

الثقة غائبة

لا يقتصر أثر التجاوزات أو الانتهاكات المرتكَبة من قبل بعض المنظمات على الأفراد، بل يمتد ليطال فكرة التوثيق كاملة، ويعمم الحكم بالسرقة أو الاستغلال والعشوائية على معظم المنظمات العاملة في المجال، بحسب ما رصدته عنب بلدي عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

“أول كلمة أسمعها عند ذكر منظمات التوثيق بين الناجين (استغلاليون)، تترافق مع تحذيرات من التعامل مع تلك المنظمات”، بهذه الكلمات وصف أسامة حالة انعدام الثقة التي يعيشها الناجون، مشيرًا إلى الضرر الكبير الذي تتركه أخطاء بعض المنظمات.

“رح ياخدو المعلومات ويتركوك”، هذه الملاحظة التي أكّد مؤسس ومنسق “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، دياب سرية، تكرارها ضمن مجموعات تضم ناجين من المعتقل، ويوجد فيها أعضاء من الرابطة.

حالة انعدام الثقة تجاه المنظمات عُمّمت حتى على الناجين مؤخرًا من المعتقل، وعززها تنافس العديد من المنظمات على الوصول إلى الناجين رغم صعوبة الظروف التي كانوا يعيشونها.

مؤسس ومنسق “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، دياب سرية.

من جهته، قال الحقوقي محمد العبد الله، إن التهويل والمبالغة من قبل بعض المنظمات ووسائل الإعلام التي تعمل مع قضايا المعتقلين، تدفع الناجين والناجيات إلى فقدان ثقتهم بالوسط الحقوقي، مشيرًا إلى أن ما عاشه المعتقل مأساة واقعية لا تحتاج إلى أي تهويل او مبالغات.

اختصاصية الدعم النفسي في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” ضمن مشروع مركز “العائلة” سلوى عرابي، أكّدت أن الأولوية لضمان إحساس الإنسان الذي يرغب بتوثيق شهادته، شعوره بأن البيئة التي يتعامل معها آمنة، إلى جانب ضمان وجود ثقة بينه وبين “ميّسر التوثيق”.

كما يجب أن يعرف مسبقًا أنه لديه الحق الكامل بما يريد الحديث عنه، والمعلومات التي ليست لديه القدرة على ذكرها، بحسب الاختصاصية النفسية.

أُسّس مركز “العائلة” في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” في كانون الثاني 2020. ويوفر خدمات إعادة التأهيل للصدمات النفسية للناجين/ات الناتجة عن التعذيب والحرب والعنف أو أي انتهاكات لحقوق الإنسان. وذلك وفق منهج علمي مدروس في مجال الصحة النفسية وتحت إشراف خبراء مختصين في هذا المجال، لتمكين المستهدفين/ات من القدرة على إعادة التكيّف في الحياة، وتحسين الأداء الوظيفي لهم، والمساعدة في تخفيف الأعراض النفسية الناتجة عن خبرة التعذيب، والحرب، والتهجير، والاختفاء القسري، وأي انتهاكات أخرى.

         قواعد وتوصيات من التجربة

تعتبر معظم الجهات العاملة في مجال التوثيق أو بالمجال الحقوقي في سوريا صاحبة تجربة مستحدثة ومرتبطة بالواقع السوري، ما يجعلها قيد التطوير، ويؤسس للمزيد من القواعد والتوصيات اعتمادًا على التجربة.

وخلال السنوات الماضية، قدمت “اللجنة الدولية لشؤون المفقودين” بروتوكولًا للمنظمات، يتضمّن آلية يجب الالتزام بها عند العمل على توثيق الشهادات، ورغم أن بعض المنظمات وقّعت على البروتوكول، ما زال الالتزام بها محدودً جدًا، وفق ما قاله سرية.

حماية البيانات

“الهاجس الأول عند الإدلاء بشهاداتنا، أن نذكر تفصيلًا حول أحد الأشخاص الذين ما زالوا مفقودين، ويُستغل (التفصيل) من قبل جهات غير موثوقة بالسمسرة”، وفق ما قاله أحد الناجين من المعتقل أسامة الزهوري.

“بعد كل التجارب التي عشناها وعاشها أهالي المعتقلين والمختفين قسرًا، جرّاء استغلال السماسرة لمعلومات حول أبنائهم حصلوا عليها من قبل صفحات تنشر معلومات نقلًا عن معتقلين سابقين، صرنا أكثر حذرًا بالتعامل مع تلك المعلومات”، تابع أسامة.

من جهته، أوصى سرية بأن الشرط الأساسي قبل تقديم الشهادة، ضمان حفظ البيانات من قبل المنظمة التي تعمل على التوثيق.

وكانت الرابطة تعتمد سابقًا على الوعود الشفهية بضمان حفظ البيانات، لكنها اعتمدت مؤخرًا على تعهّد مكتوب وموقّع من الطرفين، بحسب ما قاله سرية، معتبرًا ذلك أحد أهم حقوق الناجين والناجيات.

وتتبادل الرابطة بعض المعلومات مع منظمات دولية، لكنها تتعهد بإخبار صاحب الشهادة قبل تبادل المعلومات، كما تتحفظ على ذكر اسمه في حال طلب ذلك.

دور الاختصاصي النفسي

اختصاصية الدعم النفسي في “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” ضمن مشروع مركز “العائلة” سلوى عرابي، أرجعت أهمية تقديم الدعم النفسي للناجين من الاعتقال إلى وجود كمّ هائل من الذكريات القاسية التي يتجنبون الحديث عنها.

وأضافت عرابي أن معظم الأشخاص يعتقدون أن تجنب الحديث عن ذكرياتهم القاسية يخفف أثرها، بينما يسهم الاختصاصي النفسي بمساعدة الناجي على التوثيق العلاجي، دون أن يترك حديثه أثرًا سلبيًا على حياته.

وينقسم وجود المعالج النفسي إلى مرحلتين، أولاهما قبل جلسات التوثيق، والثانية خلال الجلسات، ما اعتبرته عرابي أساسيًا لمساعدة الناجي على ترتيب الأحداث وذكرها بطريقة سليمة، إلى جانب احتواء أي رد فعل أو مشاعر يمكن أن يعيشها خلال التوثيق.

واعتبرت عرابي أن أحد أهم أهداف التوثيق العلاجي، هو المساعدة على التعافي، وأن أهمية وجود الدعم النفسي مرتبط بهدف التوثيق العلاجي.

ويعتبر البعض وجو الاختصاصي النفسي “رفاهية”، بينما أكّد مؤسس ومنسق “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، دياب سرية، أنه أمر أساسي لا يمكن الاستغناء عنه، لضمان السلامة النفسية لمن يقدم الشهادة.

إعادة تكرار التجربة خاصة موضوع التعذيب أو الانتهاكات الجنسية تفتح جرحًا كبيرًا لا يمكن تجاوزه بسهولة، والتعامل معه يتطلّب معرفة مسبقة بالتوقيت المناسب للسؤال أو الامتناع عنه، وهذا دور الاختصاصي النفسي خلال جلسات التوثيق.

مؤسس ومنسق “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، دياب سرية.

“المعلومات التي تشكّل فارقًا”

تتكرر الشهادات حول آليات التعذيب داخل المعتقلات، التي لم تعد تخفى على أي من المهتمين أو المعنيين بالشأن السوري، ويعتبر دفع الناجين والناجيات إلى تكرار ذكر تلك التفاصيل، أحد التجاوزات التي تؤثر سلبًا على عملية التوثيق، وفق ما قاله سرية.

“(احكولنا كيف كانوا يضربوكم شو أبشع شي صار بالتعذيب)، وغيرها من الأسئلة التي تطرحها المنظمات، وحالة تكرار ذكر الانتهاكات التي نعيشها، قد تهدف إلى التأكيد على وحشية النظام، لكنها مؤذية في الحقيقة”، تابع سرية.

وأشار إلى أن على الرابطة وغيرها من المنظمات، التركيز على المعلومات التي تشكّل فارقًا في طريق العدالة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات.

وأكّد الحقوقي محمد العبد الله أن التركيز يجب أن يكون على أنماط الاعتقال، وأسماء الأفرع الأمنية، ومعلومات حول الأشخاص الذين تعامل معهم الناجي خلال فترة اعتقاله، موضحًا أن تلك المعلومات تسهم بالوصول إلى معلومات حول المفقودين، وتكشف العديد من التفاصيل التي يصعب الوصول إليها في سوريا.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة