يُعد إيجاد سكنٍ مناسب للمقيمين السوريين في تركيا من أبرز الهموم في السنوات الأخيرة، بسبب رفض العديد من أصحاب البيوت تأجير المنازل لغير المواطنين الأتراك، لكن جديدًا طرأ على ملف الإيجارات زاد هذه الصعوبات، إذ يطلب أصحاب البيوت إيجارات مرتفعة بسبب زيادة التضخم محليًا، أو يطلبون إفراغ البيوت لبيعها بأسعار مرتفعة.
وتعتبر مدينة اسطنبول، عاصمة تركيا الاقتصادية، الأكثر تأثرًا بأزمة السكن، إذ تُعد المدينة الأكبر في تركيا مأوى لنحو 546 ألف سوري مسجلين رسميًا بحسب آخر إحصائية لدى إدارة الهجرة التركية.
يُضاف إليهم من السوريين المُسجلين في الولايات الأخرى، لكنهم اختاروا العيش في اسطنبول لوفرة فرص العمل مقارنةً بالولايات الأخرى، واضطرارهم للتسجيل خارج اسطنبول بسبب توقف منح الولاية بطاقة “الحماية المؤقتة” للقادمين الجدد أو من الراغبين بنقل قيودهم إليها إلا في حالات خاصة، ليتجاوز الرقم الكلي الفعلي لعدد السوريين الرسمي المُسجل دون وجود إحصائية رسمية للعدد الفعلي.
كما يُضاف إليهم طلاب الجامعات من ساكني المدن الأخرى المستأجرين للبيوت، إذ تضم اسطنبول 61 جامعة لوحدها.
استطلعت عنب بلدي ميدانيًا حالات لسوريين اضطروا لترك بيوتهم في اسطنبول، ودخلوا في دوامة العثور على منزل، كما ناقشت أحد المحللين الاقتصاديين لمعرفة سبب هذه الحالة المنتشرة مؤخرًا.
زيادة إيجارات تتجاوز الضعف
مع إعلان الرئيس التركي، في 22 من تشرين الثاني 2021، أن السياسة المتشددة لأسعار الفائدة لن تخفض التضخم، وتعهده بالنجاح فيما سماها “حرب الاستقلال الاقتصادي”، وإعلان المركزي التركي تطبيقه نظام تحديد سعر الصرف العائم، وعدم وجود أي التزام بأي مستوى لسعر الصرف، واصلت الليرة التركية تكبّد خسائر في سعر الصرف، وبالرغم من تثبيت المركزي لسعر الفائدة عند 14% منذ بداية العام، استمرت مستويات التضخم في تركيا بالازدياد.
وبلغ مؤشر التضخم السنوي في تركيا 73.50%، مسجلًا بذلك أعلى نسبة وصل إليها منذ حوالي 24 عامًا، بحسب ما أعلنت “هيئة الإحصاء التركية”، في 3 من حزيران الحالي، ما أدى إلى ارتفاع في المستوى العام للأسعار، بالإضافة إلى غلاء المحروقات وأجور المواصلات والمنازل، بالتزامن مع وصول الدولار لحاجز 16.88 ليرة تركية بحسب موقع “Döviz” المتخصص بأسعار الصرف والعملات الأجنبية، لحظة كتابة التقرير.
لكن نسبة غلاء أجور المنازل بالأخص لم تكن متناسبة مع نسب التضخم، بحسبما رصدته عنب بلدي، عبر عدد من المواقع الإلكترونية المختصة بتأجير البيوت، إذ تصل قيمة الإيجارات في منطقة الفاتح إلى خمسة آلاف ليرة تركية وسطيًا للمنزل المكون من غرفتين وصالون، بينما كانت قبل بضعة أشهر وسطيًا ألفين إلى 2500 ليرة تقريبًا.
ويلعب موقع المنزل وجودته الداخلية وقربه من المواصلات العامة، وعدد سنوات البناء دورًا في تحديد سعر الإيجار.
حسن شراباتي (30 عامًا) من سكان اسطنبول القسم الآسيوي، كان مقيمًا في منزله المكون من أربعة غرف لأكثر من عامين، وبلغ إيجار منزله 1500 ليرة وفق عقده السنوي الذي انتهى الشهر الماضي، ليطلب منه صاحب الشقة قبل نهاية عقده إخلاء المنزل دون تجديد العقد بحجة حاجته للبيت ليقيم به ابنه بعد زواجه، بحسب ما قاله لعنب بلدي.
وبعد بحث لنحو شهر بين البيوت المعروضة للإيجار في منطقته، اختار حسن أنسب منزل يوافق إمكانياته وهو العامل في معمل للمساكن الجاهزة بدوام مكتبي، حيث طلب صاحب المنزل الجديد ذو الغرفتين وصالون 4500 ليرة، بنسبة زيادة بلغت ضعفي ايجار منزل حسن القديم بالرغم من مساحته الأصغر.
ومن الصعوبات التي واجهها حسن خلال بحثه عن المنازل، قلة البيوت المعروضة للإيجار، وطلب أصحاب البيوت لمبلغ التأمين كقيمة شهرين من الإيجار بدل شهر، وأن يكون المستأجر موظفًا حكوميًا أو لديه كفالة من الشركة التي يعمل بها، بالإضافة لغلاء تكاليف نقل البيوت.
بينما طلب صاحب منزل أحمد صليبي (33 عامًا) إخلاء البيت بحجة إسكان أخوته فيه قبل نهاية العقد بينهما، وبعد أن أبلغ أحمد المؤجر بعدم قدرته على إيجاد شقة وهو من سكان منطقة الفاتح المزدحمة، مع عرضه دفع زيادة على الإيجار تصل لقيمة ثلاثة آلاف ليرة وهو الذي كان يدفع 1600 ليرة منذ سنة أقام فيها في البيت، رفض صاحب الشقة العرض طالبًا مبلغ 4500 بدل إيجار كحد أدنى لتمديد العقد.
لم يقبل أحمد العرض كونه يعمل لمطعم سوري في ذات المنطقة وراتبه الشهري لن يكفيه لسداد الإيجار المطلوب مع مصاريف الشهر الأخرى له ولأسرته، لذا قرر البحث عن منزل جديد في الفاتح، بسبب خوفه من عدم قبول السلطات تثبيت عنوانه الجديد في الفاتح في حال خروجه من المنطقة وعودته لها بعد القوانين الجديدة المفروضة.
وكانت وزارة الداخلية التركية قد أعلنت في شباط الماضي، آلية جديدة فرضت فيها قيودًا على إقامة السوريين المسجلين داخل تركيا ضمن بند “الحماية المؤقتة”، بهدف التحكّم بمناطق الاكتظاظ والتركيبة السكانية في 52 ولاية تركية لنحو 800 حي، بحيث لا تتجاوز نسبة الأجانب في الحي 25% من السكان.
بالمقابل يوجد بعض أصحاب البيوت الذين التزموا بمقدار زيادة الإيجار في حال تجديد العقد المُحدد من الحكومة التركية، كما فعل صاحب منزل زكريا شيخ ممو (45 عامًا) عندما طلب منذ شهرين زيادة تبلغ 300 ليرة على الإيجار المُتفق عليه سابقًا بـ 700 ليرة.
وقال زكريا العامل في أحد المعامل التركية بالحد الأدنى للأجور، “كان يمكن لصاحب بيتي أن يطلب مني إخلاء المنزل، ثم يأجره لشخص آخر بـ1500 ليرة، إذ لايوجد عقد إيجار مثبت بيننا يمنعه من ذلك”.
ولكن زكريا أشار إلى أن “راحة البال” التي وجدها صاحب الشقة منه منذ أكثر من عام أقام فيها بالمنزل دفعته لعدم إخراجه.
وحددت “هيئة الإحصاء التركية” معدل زيادة الإيجار لشهر حزيران الحالي بنسبة أقصاها 39.33% من قيمة الإيجار الأخيرة، بحسب تقرير للهيئة في 3 من حزيران، لذا فإن أي زيادة إضافية على النسبة المذكورة، تُعرّض صاحب العقار للمساءلة القانونية، في حال وجود عقد إيجار مثبت.
ويسمح معدل الزيادة الجديد لصاحب العقار الذي حدد إيجاره بـ1000 ليرة تركية برفعه إلى حد أقصاه 1393 ليرة تركية.
التضخم المفرط يعاكس مالك البيت المستثمر
أكد رئيس غرفة سماسرة إسطنبول، نظام الدين آشا، في حديثه مع صحيفة “جمهوريت” التركية في نيسان الماضي، أن من يستأجرون منازل بأسعار باهظة لا يستطيعون دفع الإيجار اعتبارًا من الشهر الثاني والثالث من تاريخ العقد.
وأشار آشا، إلى أن عدد العاجزين عن دفع إيجار منازلهم سيزداد خلال الأيام المقبلة، مضيفًا “أعتقد أن الإيجارات وصلت إلى حدها الأعلى، بينما القوة الشرائية للمواطنين آخذة في التآكل، اليوم لا يمكن للعامل أن يدفع بين خمسة إلى ثمانية آلاف ليرة تركية للإيجار”.
من جانبه، أوضح رئيس جمعية قانون العقارات، علي كيراز، أن العلاقة بين المستأجر والمالك قد تدهورت خلال العامين الماضيين، بسبب أن الملّاك يطلبون من المستأجرين الحاليين زيادة في الإيجارات بنسبة 100%.
وأوضح أن ما بين 30 إلى 40% من القضايا المعروضة في محاكم الصلح المدنية التركية تتكون من خلافات بين أصحاب البيوت والمستأجرين.
وقال الباحث الاقتصادي والأستاذ الجامعي الدكتور مخلص الناظر، في حديث إلى عنب بلدي، أن ما تواجهه تركيا من “تضخم مفرط” بحسب التصنيفات الاقتصادية، اضطرت صاحب البيت المستثمر في إيجار منزله أن يقيس قيمة الإيجار وفق التضخم الحاصل، وهو مادفعه بالمطالبة من مستأجريه برفع قيمة الإيجار.
وبالرغم من تحديد الحكومة لمعدل زيادة الإيجار القصوى بـ 39% من قيمة الإيجار، يرى المالك استثماره خاسرًا عند مقارنة النسبة مع معدل التضخم السنوي الأخير (73.5%)، وبالأخص عندما يعلن البنك المركزي التركي عن توقعاته الأخيرة، ببلوغ سعر صرف الدولار 18.89 ليرة نهاية العام الحالي، وفق الناظر.
وبحسب الناظر فإن القرار الأخير للحكومة التركية، في أيار الماضي، بإعطاء قروض منخفضة الفوائد لشراء العقارات تصل لمليوني ليرة، أسهم بارتفاع أسعار العقارات من جهة، وأن هذا “التوسع الائتماني” أسهم بزيادة التضخم، بسبب نقص عدد البيوت المعروضة للبيع مقارنةً بالطلب.
وزدات أسعار إيجارات المنازل في اسطنبول بنسبة 140% على أساس سنوي، في شهر أيار الماضي مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، بحسب دراسة أجراها مركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية “BETAM” في جامعة “بهتشي شهير”.