“الراتب بيهوّي”، مع ضحكة عريضة جاءت تعميقًا لـ”الكوميديا السوداء”، يعرّف محمد، شاب سوري في الـ27 من العمر، ظروف عمله في القسم الأوروبي من مدينة اسطنبول.
هذه الظروف التي يتأقلم معها الشاب دون تقبّل، ورغم قسوتها، أفضل بالنسبة له من البقاء في القسم الآسيوي من المدينة التركية، حيث تقيم عائلته، لكنها ليست أفضل بكثير، باعتبار أن محمد يتقاضى ستة آلاف ليرة تركية شهريًا، لقاء عمل يومي في محل بيع بالجملة للملابس النسائية، لتسع ساعات، ويوم عطلة واحد في الأسبوع.
وبعد استلام الراتب يجري محمد حسبة معقدة لكيفية تبديده أمام الكثير من المسؤوليات والالتزامات التي لا تبدأ باقتطاع المصروف الشخصي، شاملًا إيجار المنزل الذي يتشاركه مع أربعة من أصدقائه، ولا تنتهي بتكاليف المواصلات وما يمكن أن يحتاجه أيضًا خلال الشهر، بعد النظر لما تحتاجه العائلة أولًا.
الظروف التي يعيشها محمد محاطة بمبرراتها في بلد يشهد ظروفًا اقتصادية متأثرة بالاقتصاد العالمي، وبتخفيض سعر الفائدة، ما يلقي بظلاله على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بالنسبة للمقيمين على الأراضي التركية، سواء كانوا مواطنين أم لاجئين.
وكانت “هيئة الإحصاء التركية” أعلنت، في 3 من حزيران الحالي، ارتفاع التضخم السنوي في تركيا إلى 73.50%، مسجلًا أعلى نسبة وصل إليها منذ نحو 24 عامًا، وفق بيان صادر عن الهيئة حينها.
ومقارنة بمعدلات آخر 12 شهرًا، ارتفعت أسعار السلع بالنسبة للمستهلك بنحو 39.33%، وأسعار المنتجين حوالي 80.38%، اعتبارًا من أيار الماضي.
أمام هذه الظروف يحاول محمد توفير بعض المال، بالتعاون مع أخيه علي (23 عامًا)، الذي يعمل أيضًا في توزيع لوازم أجهزة الهاتف المحمول، في سبيل تأمين قوت العائلة، التي تقيم في القسم الآسيوي من اسطنبول، باعتبار أن تكاليف السكن والمصاريف العامة، منخفضة نسبيًا عند مقارنتها بما يقابلها في القسم الأوروبي من المدينة.
طموحات لا تكتمل
سجّل محمد في فرع الهندسة البتروكيماوية في سوريا، لكن الظروف الأمنية وحدّة المعارك التي شنتها قوات النظام السوري في مدينته، حمص، أرغمت العائلة على مغادرة البلاد إلى تركيا، منذ عام 2016، ليجد نفسه مضطرًا لتجريب العمل في العديد من المجالات والأشغال، حتى انتهى به المطاف في بيع أكسسوارات الهواتف المحمولة، قبل الانتقال إلى بيع الألبسة.
“ما كمّلت هون لأنو صعب تشتغل وتدرس بنفس الوقت”، هكذا يشير لسقوط حلم الدراسة ومتابعة التعليم من الحسبان، أمام إلحاح الحاجة للعمل، خاصة حين تكون عائدات هذا العمل منصبة على مصاريف عائلة مكوّنة من أب وأم وأخت يافعة في مرحلة التعليم الإعدادي.
وإلى جانب ذلك، فانعكاسات الوضع الاقتصادي في تركيا أثرت إلى حد بعيد في قيمة الليرة التركية التي انخفض لمستويات غير مسبوقة، نهاية عام 2021، متجاوزة حاجز 18 ليرة تركية أمام الدولار الأمريكي الواحد، نتجية تخفيض أسعار الفائدة 500 نقطة أساس، منذ أيلول حتى كانون الأول 2021، لتصبح 14% بعد أن كانت 19%.
يبلغ سعر صرف الليرة التركية وسطيًا 16.5 ليرة تركية أمام الدولار الأمريكي الواحد، وفق موقع “Döviz” المتخصص بأسعار صرف العملات النقدية.
ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة العملة المحلية انسحب على متطلبات أخرى أساسية في الحياة، كإيجارات المنازل، التي حددت “هيئة الإحصاء التركية” معدل زيادتها لشهر حزيران الحالي، بنسبة أقصاها 39.33% من قيمة الإيجار الأخيرة.
وبعد دفع ما يترتب عليه من إيجار المنزل (700 ليرة تركية)، وفواتير الماء والكهرباء والإنترنت، والمصاريف الشخصية، يرسل محمد للعائلة في القسم الآسيوي من المدينة نحو ألفين و500 ليرة، ليبقى مع العائلة بالاستعانة مع ما يرسله شقيقه علي، نحو ثلاثة آلاف و500 ليرة، كمصروف للشهر (بعد سداد الفواتير وإيجار المنزل)، ما يتطلب الاقتصاد بالمصارف في ظل وجود احتياجات تعليمية لشقيقته الصغيرة.
الفارق طفيف.. لكنه مؤثر
يوضح محمد أن الفارق الممكن توفيره بالانتقال للقسم الأوروبي، وبعد مشوار الشتات لسنوات، لا يتعدى 700 ليرة في الشهر، لكنه في الوقت نفسه مبلغ لا يستهان به طالما أنه قادر على تشكيل فارق في مصروف العائلة القليل أصلًا.
الأب الذي تجاوز الستين، لم يجد فرصة عمل تتواءم مع عمره وطاقته البدنية، بعدما كان موظفًا في مديرية الزراعة في حمص، ما ألقى بعبء مصاريف العائلة على شابين في مقتبل العمر غضّي التجربة.
وسرعان ما انكسرت أحلام الشاب بجمع شتات العائلة ضمن بيت واحد في القسم الأوروبي من المدينة، على صخرة ارتفاع أجور المنازل، سيما في ظل إغلاق بعض الأحياء أبوابها أمام مستأجرين سوريين، ما جعلهم صيدًا سهلًا لأصحاب المنازل المتحكمين بإيجارات هذه المنازل، وكل ذلك حوّل يوم العطلة الوحيد لمحمد ليوم سفر بين شطري المدينة للقاء العائلة مرة في الأسبوع، قبل العودة مجددًا للعمل.
وبحسب دراسة صدرت عن مؤسسة “فريدريش إيبريت“، في أيلول 2019، قلبت حالة الشتات التي عاشها السوريون الأدوار بين الآباء والأبناء، باعتبار أن الآباء كانوا متحكمين بممتلكات العائلة ومواردها، ما منحهم فاعلية ممارسة دورهم الاقتصادي حتى بداية الثورة، فبعد خسارة العائلات لممتلكاتها في سوريا ولجوئها إلى الخارج، حظي الأبناء بالدور الاقتصادي في الأسرة، مع محافظة الآباء على الدور الاجتماعي الرابط بين أفراد الأسرة.
يأمل محمد أن تسعفه الظروف لتأسيس عمله الخاص، طالما أنه يعمل في التجارة، وطالما أن الدراسة أيضًا صارت بعيدة المنال برأيه، إذ لا متسع من الوقت لكل شيء على حدة، إلى جانب العمل الذي لا يمكن الاستغناء عنه طبعًا.
ويقيم في تركيا، وفق آخر إحصائيات “المديرية العامة لرئاسة الهجرة التركية“، الصادرة في 16 من حزيران الحالي، ثلاثة ملايين، و674 ألفًا و197 لاجئ سوري، يتركز 546 ألفًا و148 شخصًا منهم في مدينة اسطنبول.
ما الآثار؟
الدكتور في العلوم المالية والمصرفية، فراس شعبو، أوضح في حديث إلى عنب بلدي، أن ما يعيشه اللاجئ السوري في تركيا، يتقاطع مع أوضاع المواطن التركي أيضًا، لكن الفارق الجوهري أن المواطن التركي لديه حقوق، ونقابات تصون حقه، ودولة تحميه من هيمنة أرباب العمل، أما السوري فبالكاد يحصل على الحد الأدنى من الأجور ضمن ظروف صعبة، تغيب عنها الامتيازات، ما يشكل عبئًا إضافيًا عليه.
وهناك أيضًا ارتفاع أسعار لا يميز بين السوري والتركي، لكن الواقع الاقتصادي على مستوى تركيا والعالم، يلقي بظلاله على الواقع المعيشي للسوريين في تركيا، سيما أن شريحة جيدة منهم من المهنيين، وبعضهم مياومين (يعملون لقاء أجر يومي، لا معاش شهري)، وهم من أشد المتضررين جراء التضخم الحاصل، وارتفاع الأسعار التي لا يوازيها ارتفاع الأجور، وفق شعبو، الذي يشدد على أن الحد الأدنى للأجور لا يكفي حتى المواطن التركي، الذي يمتلك منزلًا يزيل عن كاهله عبء إيجار المنزل.
وفي 27 من أيار الماضي، أعلن اتحاد “نقابة العمال” في تركيا نتائج مؤشر حد الفقر والجوع، خلال أيار، وبموجبها ارتفع التفاوت بين حد الجوع والحد الأدنى للأجور لعائلة مكوّنة من أربعة أشخاص، بنحو ألف و700 ليرة تركية، للشهر الخامس على التوالي.
وحددت الأبحاث التي أجرتها النقابة الحد الأدنى للجوع لأسرة مكوّنة من أربعة أفراد، بنحو ستة آلاف ليرة تركية، كما أظهرت النتائج أن الحد الأدنى للفقر لعائلة مكوّنة من أربعة أفراد ارتفع بمقدار ألفين و300 ليرة تركية، وزيادة بنسبة 13.5%، مقارنة بنيسان الماضي.
وسجل حد الفقر لعائلة مكوّنة من أربعة أفراد نحو 19 ألفًا و600 ليرة تركية، يشمل التغذية والإيجار والتعليم والرعاية الصحية، وجرى تقدير تكلفة المعيشة للفرد الواحد العامل، بنحو سبعة آلاف و836 ليرة تركية، وفق النقابة، التي بيّنت أيضًا أن مصاريف الطعام لموظف يتقاضى أربعة آلاف و253 ليرة تركية (الحد الأدنى للأجور)، شكّلت نحو 42% من راتبه الشهري.
توصيات؟
الدكتور فراس شعبو، وفي معرض الحديث عن آليات أو سبل للتخفيف من وطأة الوضع الاقتصادي على السوريين، أشار لغياب البدائل أو الخيارات المتاحة أمام اللاجئ السوري، فالبديل اليوم هو العودة إلى الداخل السوري، وهو ليس خيارًا حسنًا أمام غياب الأفق السياسي والسياسي والأمني، سواء في مناطق سيطرة المعارضة، أو النظام السوري.
كما أن البقاء في تركيا منوط بتجاوز عراقيل مثل الحصول على إذن العمل، وجشع التجار وأرباب العمل السوريين الذين يحققون مرابح خيالية دون منح العمال رواتب توازي أتعابهم.
ويسعى البعض أيضًا للهجرة أو اللجوء في أوروبا، في سبيل تكوين أنفسهم، إذ ليس لديهم القدرة على ذلك في تركيا، في ظل تحديات السعي للزواج وإرسال الأموال للعائلة داخل سوريا ربما.
ويوصى الدكتور في العلوم المالية والمصرفية بإعادة ترتيب الأولويات لتنظيم الدخل والمصروفات، والبحث عن بدائل لتنويع الدخل إن أمكن، لافتًا للجوء البعض للعمل لمناوبات إضافية، وربما في أيام العطل، وهو وضع غير سليم بالنسبة للعمل اليدوي تحديدًا.
ويضطر السوري في الوقت الراهن، للتكيف مع الظروف الحالية في تركيا، كالسكن في أماكن بعيدة، وربما غير صالحة للسكن أمام ارتفاع حاد في أجور السكن، ما يعني رفع آخر لأسعار الأجور أمام السوري عند إغلاق باب بعض الأحياء أمامه للسكن، وكل هذه الظروف جعلت العودة إلى سوريا، بنظر بعض السوريين خيارًا مطروحًا أمام الظروف الراهنة.