إبراهيم العلوش
الاغتيالات الأخيرة في درعا لعناصر في صفوف المخابرات الأسدية مؤشر جديد على اهتراء فاعلية تلك الأجهزة وبقائها على نفس آلية التفكير، التي أسسها علي دوبا وضباطه في الثمانينيات.
الأسبوع الماضي تم اغتيال المسؤول الأمني “أبو علي مخلوف” وهو متنكر في سيارة مدنية في أثناء جمع واردات الحواجز التي يديرها، بالإضافة إلى عمله ليلًا في تهريب “الكبتاجون” على الحدود الأردنية. وتم اغتيال عدد من العناصر الفاعلين في التعامل مع “الأمن العسكري” خلال الأشهر الماضية، وصارت درعا وريفها ساحة للاغتيالات المتبادلة بين أجهزة المخابرات والأطراف التي تنتقم من الابتزاز أو الاعتقالات والتصفيات التي لا يزال يقوم بها النظام.
لا يزال المسؤول الأمني يمارس نفس الدور في الدراسات الأمنية الهادفة للابتزاز ودفع المزيد من الرشى، رغم الحالة البائسة التي وصل إليها الضحايا ممن يحتاجون إلى عبور الحواجز للوصول إلى بيوتهم أو للسفر من درعا إلى الشام للعلاج أو لزيارة قريب.
وهذا المسؤول الأمني كان يعمل بهذه الأساليب عندما كان الجانب السياسي في النظام قادرًا على تغطية الاعتقالات التعسفية وخنق الحريات، وعلى منع الصحافة العالمية من تسريب تفاصيل أي جريمة تقوم بها تلك الأجهزة التي أدمنت إذلال السوريين منذ الثمانينيات من القرن السابق.
أما اليوم فقد انتشرت وسائل الإعلام الحديثة التي لا تغيب عنها التفاصيل الصغيرة بعد ساعات من حدوثها، ومن الناحية السياسية، صار النظام وقائده مجرد خادم لجيشين من الاحتلال الأجنبي هما روسيا وإيران، و خطاب النظام لا يزال يردد بشكل مكرور التأكيد على شرعيته في محاربة الإمبريالية والمؤامرات الغربية، مستندًا إلى تصنيع وتهريب “الكبتاجون” كثروة شرعية لقادته وبدعم من إيران ومن “حزب الله”، الذي له باع طويل في تجارة المخدرات وتهريبها، بالإضافة إلى شعاراته التي تشابه شعارات النظام السوري، ولكنها أكثر صراحة في انتسابها إلى خدمة الولي الفقيه في إيران.
ساحة الاغتيالات في درعا صارت مرعبة لعناصر الأمن وميليشياته، التي كانت تمارس التشليح على الحواجز بلا رادع لها، أما اليوم فمعظم العناصر الذين عقدوا المصالحات صارت لديهم خبرة واسعة في استعمال السلاح وفي الرصد الأمني والمداهمة، بالإضافة إلى أنهم يعملون في ساحتهم الخاصة ويفهمون جغرافية المكان بشكل احترافي، أما قادة المخابرات والميليشيات فمعظم ما يمتلكونه هو رصيدهم السابق في زرع الرعب في قلوب الناس وتغييب الأبرياء، ولم تعد لديهم الكفاءات الأمنية التي كانت تخطط ليل نهار، وتنعم بالإمكانات المادية واللوجستية التي كانت تسخّرها دولة الأسد لهم.
ويضاف إلى ذلك عدم تفرغ العناصر لعملهم الأمني، إذ صار العمل في تهريب المخدرات أهم شواغلهم التي تدرّ عليهم وعلى قادتهم أموالًا طائلة، بالإضافة إلى الشواغل الأخرى في الحواجز والابتزاز الذي صار استثمارًا خاصًا شرّعته الأجهزة لعناصرها بسبب عدم قدرة النظام على تمويل متطلباتهم والمستوى المعيشي العالي الذي كانوا ينعمون به قبل الثورة.
هذه الاغتيالات، التي تستمر بصمت ولا أحد يهتم بها، تنخر في بنية النظام، إذ أثبتت الفشل الذريع في إعادة الحياة الطبيعية إلى مناطق المصالحات في درعا، وعدم القدرة على إقناع الناس بجدّية النظام في التعامل مع أهالي درعا كبشر ومواطنين، وليس كأسرى حرب استسلموا تحت وقع القصف الروسي وبقوة الميليشيات الإيرانية و”حزب الله”، وظلت أجهزة النظام تتعامل بنفس الروتين الأمني وبنفس الروح المتكبرة التي تعتبر الناس مجرد “كومبارس” في دولة الأسد.
ويضاف إلى ذلك فشل المحتل الروسي في الالتزام بتعهداته وكفالة المصالحات، وتحويل تلك التعهدات إلى فخ وقع فيه عناصر المصالحات الذين أعادوا وجودهم وخبراتهم العسكرية التي صارت تقلق استقرار المنطقة الجنوبية، ما يجعل الأردن يعيد النظر في عملية إعادة تأهيل النظام التي أطلقها الملك عبد الله الثاني عام 2021، بعد تعمّد الميليشيات الإيرانية ونظام الأسد ضخ المخدرات باتجاه الأردن ودول الخليج في عملية إعادة تمويل للنظام من جهة، ومن جهة أخرى كنوع من الانتقام من دول الخليج التي تتباطأ في استقبال سفراء نظام الأسد في عواصمها.
وقد يظن النظام بأن عمليات تهريب المخدرات ساحة آمنة في المستقبل، متناسيًا قدرات مافيات المخدرات العالمية التقنية والمالية التي عجزت الولايات المتحدة نفسها عن مقاومتها في كولومبيا والمكسيك مثلًا، وهذا قد يفتح نافذة جديدة في خاصرة النظام، ويفقده القدرة على التمسك بما تبقى له من سيطرة في المنطقة الجنوبية، خاصة أن الكثير من حملة السلاح السابقين في الغوطة ودرعا وغيرهما مستعدون لأن يتعاملوا مع الشيطان من أجل أن يخرجوا من دوامة ابتزاز النظام لهم.
ولن تكون روسيا بعيدة عن توريد المافيات إلى سوريا كما أكدت عدة تحليلات حديثة، إذ إن الحرب الروسية في أوكرانيا نشرت السلاح في أيدي التنظيمات المافيوية، ما قد يعيد المافيا الروسية التي أرعبت العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، وقد اشتهرت تلك المافيا بالعنف الشديد وغسل الأموال ونشر شبكات المخدرات والدعارة، وهذا ما سيجعل النظام يستسلم لها كما استسلم لقوات “فاغنر” الروسية التي استولت على حقول الغاز والفوسفات بحجة حمايتها من “داعش”.
فتح سوريا أمام تجارة المخدرات وتصنيعها قد يكون مكسبًا على المدى القريب للنظام، ولكنه طعن جديد في شرعيته، وسرطان لن يتم التحكم به مهما تذاكى قادة المخابرات، وقد يلتهم ذلك السرطان الكثير من حملة السلاح ضمن صراعات واغتيالات مهلكة، ولن تكون اغتيالات درعا الأخيرة إلا بداية صغيرة لمأساة أخرى تلحق بالسوريين!