حذامِ زهور عدي
تسرَب شيء من الأمل عندما فوَض مؤتمر فيينا المملكة العربية السعودية بتجميع المعارضة السورية (السياسية والمقاتلة) لتوحيدها واختيار وفد مفاوض ذي مصداقية تمثيلية قادر على التحكم بسوريا، أرضًا ومجتمعًا، ثم أشاع مؤتمر الرياض بنتائجه جوًا من التوقعات بأن الحل قادم، وأن اتفاقًا ما جرى بين الدول العظمى المؤثرة بالوضع السوري، أطلقوا عليه مصطلح “الحل السلمي أو السياسي” بالرغم من الإفحاش بالقتل وباستخدام أشد أنواع الأسلحة لقمع الثورة السورية.
وانتشرت فكرة أن أياما فقط تفصل عن بدء مفاوضات شكلية هدفها التوقيع على ما اتفق عليه، وهو قريب من مخرجات مؤتمر الرياض مع تعديلات غير كبيرة أو ربما غير ذات تأثير تمنع ذلك التوقيع. وكان الإسراع باختيار الوفد المفاوض، والإسراع بعقد مؤتمر نيويورك، الذي انتقلت نتائجه ليلًا إلى مجلس الأمن لترجمته إلى قرار أممي يُفترض أن يكون ملزمًا.
فوجيء الشعب السوري فجرًا بقرار”2254″ الذي افتقد الدقة والوضوح، وغامت حدود مصالح الشعب السوري وثورته، وانقلب فيه نص جنيف 1 إلى نصٍ حمّال أوجه ترسم القوة وشريعة الغاب فيه ملامح النهاية. وأعلن أصدقاء الشعب السوري أن الحرص على خروج القرار بالإجماع كان سبب قبول صوغه على تلك الشاكلة، وأنهم استطاعوا من خلاله جرَ روسيا إلى الاعتراف بضرورة التغيير والانتقال السياسي ولو على مراحل، وأنهم لو تشددوا بالصياغة كما نريد لكانوا أمام فيتو روسيا وتعطيل الأمور سنوات أخرى كفيلة بالقضاء على سوريا والسوريين.
انشغل المعارضون السياسيون -مع كثير من الإحباط- بدراسة القرار وتحليله، ومال القسم الأكبر منهم إلى رؤية الخيبة فيه، وطالبوا باتخاذ موقف الرافض له، وإعلان رفض المفاوضات ومقاطعتها إلى أن يُغير المجتمع الدولي موقفه ويُنصف الشعب السوري بعد تلك التضحيات والويلات التي تعرض لها، لكنَ قلَة أخرى أمسكت بالمجهر لالتقاط ما هو مفيدُ فيه للشعب المنكوب، مراعية الوضع الدولي المعقد في مواقفه من قضية الثورة السورية.
قال بعضهم: إن القرار لم يُعط أجوبة على أهم النقاط التي ضحَى الشعب من أجلها، فبالرغم من الحديث عن الانتقال السياسي بقي مصير النظام ورأسه ضبابيًا قد يضاف له بعض المكياج التجميلي ليستمر بعد قضاء القوة الروسية المحتلة على ما تبقى من مقاومة الشعب السوري له، كما أنه فتح الباب على مصراعيه لاستمرار المقتلة بحجة الإرهاب المختلف على تحديده وتعريفه، وربط الانتقال السياسي بموافقة النظام في المرحلة الانتقالية (وبالطبع من ذاق ويلات النظام وألاعيبه وسلبية المجتمع الدولي الذي يعرفه جيدًا ويغض النظر عنه، يوقن بالنتائج الكارثية لهكذا قرار)، بل حتى إجراءات بناء الثقة التي نص القرار عليها لم تأت ملزمة، والقرار بأكمله جاء بصيغة التمني والترجي تحت الفصل السادس غير الملزم.
بناء عليه فإن رفض القرار والمفاوضات من خلال مرجعيته هذه، هو الموقف الذي يجب على هيئة المفاوضات المنبثقة عن مؤتمر الرياض أن تتخذه دون تردد. لم يترك هذا القرار من المشكلات أكثر بكثير مما حلها فحسب، بل أغلق عمليًا باب الحل السلمي الذي يتحدثون عنه، وعمم الفوضى بالبلاد، وقدَم جرعات قوة إضافية لتمدد إرهاب داعش وأخواتها.
أما الاتجاه الآخر، وهم القلة، فاعتمدت وجهة نظرهم على المواقف التاريخية لرفض الرأي العام العربي لقرارات مماثلة لمجلس الأمن، إذ شعرت الشعوب العربية وقتها بالظلم فرفضتها لكنها لم تستطع بعدها ترجمة ذلك الرفض على أرض الواقع، فخسرت ما كان فيها من إيجابية ضئيلة وازداد التعسف والظلم بدل تراجعه، ورأت أنه ليس من الحكمة التسرع في موقف الرفض، فذلك موقف يتمناه أعداء الثورة، وعلى هيئة المفاوضات أن تخوض معركتها بخبرة سياسية عالية وثقة وقوة، وأن تستخرج من باطن النصوص مواقف تتيح الفرصة لوضعٍ يُنقذ فيه ما تبقى من الشعب السوري ويسمح بقدر من الحرية وبتحقيق المطالب الملحة الآنية المعروفة للسوريين، وهم يلخصون موقفهم بجملتين: دعوا الأسد يرفض ففي هذا ربح للثورة، ولا تعطوا مبررًا لاستمرار المقتلة، فالوضع الدولي والداخلي لايسمح بغير ذلك.
وما أراه: أن وجهتي النظر السابقتين صحيحتان بالرغم من تناقضهما الظاهر، في حال توفر شروط ملموسة على أرض الواقع:
1 – قيادة مركزية عسكرية وسياسية قادرة على التكتيك ضمن استراتيجية واضحة وبالتالي قادرة على التأثير في الموازيين في حال الرفض أو القبول.
2 – تحالف مع قوى إقليمية ودولية تدعم تلك القيادة سياسيًا وعسكريًا وتتفق معها في آليات عملها وتترك لها حرية العمل ليكون الحل سوريًا قلبًا وقالبًا.
3 – حملة إعلامية واسعة تجدد النضال السلمي داخليًا ليقوَم النضال المسلح ويعيد ارتباطه بجمهوره، وتحرك الرأي العام العالمي ليشكل أداة ضاغطة على حكوماته من خلال تعرَفه على حقيقة القضية السورية والتعامل معها بمعايير الشعوب وليس بمصالح الفئات الحاكمة.
بغير ذلك فإن أي موقف تتخذه القيادة السياسية والعسكرية للثورة السورية غير مفيد، وسيغلق أي حل سلمي أو سياسي أو أي حل بدون أوصاف، تحت بسطار حلفاء الأسد ووقاحة بوتن وسلبية أوباما وسيف الإرهاب ضائع الملامح، ولن نحصد حينذاك إلا تعميم الفوضى وازدياد التدمير الذي سينتج لا محالة أكثر من سوريا، أولها، سوريا المفيدة، وثانيها، الإرهابية التعيسة وغالبًا سوريات كإمارات شبه مستقلة تحفظ كل واحدة نفوذًا لدولة ما، امتلكت في وقت ما، قاربًا ما، يعوم على تلاطم أمواج بحر سوريا الوطن.